الأدب الإسلامي

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

       والقصة الآتية تُري حرص «عمر» على العدل لمن كان تحت حكمه، بصرف النظر عن ملته، ولو أراد عمر المخرج القانوني لوجده، واحتمى خلفه، وما لحقه لوم؛ ولكن عمر اختار ما يقبله الله – سبحانه وتعالى – لا ما يقبله الناس فكراً، أو عاطفةً؛ أجل لقد اختار العدل:

       «قال أبو عمران الجوني:

       جاء يهودي إلى عمر بالشام، فقال:

       يا أمير المؤمنين، أهذا في العدل؟ أخذتم كسبي وأنا قوي، حتى إذا ما كبرت سني، وضعف ركني، تركتموني أهلك ضيعة؟

       فقال عمر: ما أنصفناك.

       ففرض له فريضةً، وأمر عامله أن يجريها شهرًا بشهر»(1).

       ويعدل عمر عدلاً، لايدركه إلا المتبصّر، فعمر مثلما يحمي حق الفرد، يحمي حق الأفراد من الفرد، وبيت مال المسلمين بيت أفراد، وقد حصل لبيت مال المسلمين مال من رجل موسر، فحمى عمر هذا المال من أن يخرج من بيت مال المسلمين، وليصفيه من الشائبة، وينقيه من الشبهة، استحلف الرجل، والأمر معروض في القصة الآتية:

       «كتب سعد إلى عمر – رضي الله عنه – :

       إني أصبت فيما أفاء الله على رسوله صندوقاً من ذهب، عليه قفل من ذهب، فلم أفتحه، وإن رجلاً أعطى به، طمعاً فيما فيه، مالاً كثيراً.

       فكتب إليه أن بِعْهُ، فإني أحسبها حمقةً من حمقات العجم. ففعل.

       ففتحه المشتري، فأصاب فيه حريرًا مدرجاً، فجعل يكشفه، حتى أفضى إلى درج ففتحه، فإذا فيه كتاب، فأتى بعض من يقرأ بالفارسية، فقرأ، فإذا فيه:

       «لتَسْريْحَةُ اللحية من ناحية الحلق أنفع من ألف تسريحة إلى خلف».

       فاستقال مشتريه، فكُتب بذلك إلى عمر.

       فكتب إلى «سعد» أن استحلفه أكان مقيلنا لو أصاب فيه كنزًا أكثر مما تأمل؟

       فسئل الرجل، فقال:

       ما كنت لأقيلكم.

       فلم يقيلوه»(2).

       تلاحظ هنا فراسة عمر، فلقد حدس أنها خدعة من الخدع التي يستعملها غير العرب، وقد صدق ظنه، ويلاحظ أن الرجل استقال، ولم يدع الغرر؛ لأن من باعه لم يخبئ عنه ما يعلمه هو دون علم المشتري. وعمر حتى يبرأ من الإثم في كل جوانبه طلب أن يستحلف، فصدق الرجل القول، وبهذا حكم على نفسه، ونجا عمر.

       وعمر ميزان عدل، وقد شهد له من شهد له بأنّه لايميل يميناً، ولا يجنح يسارًا في أحكامه، ومن هذا شهادة أحدهم وهي هكذا:

       «قال أبو عثمان النهدي:

       كان عمر ميزاناً لايقول هكذا، ولا هكذا»(3).

       والعادل يحتاج إلى ضبط النفس، ولا يبقى أمامه إلا الحق، يجريه، والإنصاف يثبته، فلا يكون للغضب عليه سبيل بحيث يعمي بصيرته، ويعشي بصره، ولا يكون للعاطفة سيطرة عليه تجنح به ذات اليمين وذات الشمال، أو توحي له بأن يثأر لنفسه، فيدخل الشيطان في روعه أن ما يفعله إنما هو ثأر لكرامته، ورد على الإهانة، وما إلى ذلك من وسائل إبليس، التي يتخذ منها ومن بريق معانيها وخدع ألفاظها، حبائله التي ينصبها بإتقان للناس، أمام تضليله وإغوائه، والقصة الآتية تُري عمر في موقف من هذا القبيل:

       «أراد عمر – رضي الله عنه – قتل الهرمزان، فاستسقى، وأمسك القدح في يده، واضطرب، فقال عمر:

       لا بأس عليك، إني غير قاتلك حتى تشرب.

       فألقى القدح من يده.

       فأمر عمر بقتله.

       فقال: أو لم تؤمني؟

       قال: كيف أمنتك؟

       قال: قلت: لا بأس عليك حتى تشربه، فقولك: «لا بأس» أمان، ولم أشربه.

       فقال عمر: قاتلك الله! أخذت أماناً ولم أشعر»(4).

       لقد كسب الإسلام بفعل «عمر»، ووفائه بعهده، رغم أنه جاء عن طريق حيلة، مكسباً عظيماً، وسجل التاريخ للعدل مثلاً يُحْتَذىٰ، وفرق بين القتل والنجاة منه؛ فإن كان الهرمزان أفلت، فلقد حمل معه صورةً منيرةً للإسلام، وربما أدت به إلى قبوله طائعاً مختاراً.

       وعدل عمر خدن لعفته، ونزاهة يده، وقوة إرادته، وقدرته على حكم نفسه، وخزمها بخزام قوي متين، فلا يطعمه معدن غال، ولا ذهب صاف، ولا جوهر عزيز ثمين؛ وقد مر بالتجربة، وخرج منها فائزًا – رضي الله عنه – والقصة هكذا:

       «روى زيد بن أسلم عن أبيه قال:

       رأيت «عبد الله بن الأدهم»، صاحب بيت مال المسلمين، في زمن أبي بكر، أتى عمر فقال:

       يا أمير المؤمنين، إن عندنا حِليةً من حلية جلولاء، آنيةً من ذهب وورق، فانظر أن تفرغ لذلك يوماً، وترى فيه رأيك.

       فقال: إذا رأيتني فارغاً فآذني.

       فجاءه يوماً فقال: أراك اليوم فارغاً.

       فقال: أجل، فابسط لي نطعاً.

       ثم أتى بذلك المال، فصب عليه؛ فدنا «عمر» حتى وقف عليه، وقال:

       اللّٰهم إنك ذكرت وقلت: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوٰتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنٰطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾(5).

       وقلت: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَاكُمْ﴾(6).

       وإنا لا نستطيع أن لا نفرح بما زينته لنا، اللّٰهم فاجعلني أنفقه في الحق، وأعذني من شره.

       قال: وأُتي «عمر» بابن له يُحمل يقال له «عبد الرحمن».

       فقال: يا أبتاه، هب لي خاتماً.

       فقال له عمر: إذهب إلى أمك تسقيك سويقاً»(7).

       إن كلمة «عمر» تذكرني تماماً بما يقوله شخص من أهل عنيزة، إذا طلب منه شيء، ورأى أن طلبه أبعد من أن يستجاب له، قال للطالب: «رح لأمك تصبب لك مصابيب» والمصابيب خبز لذيذ صغار، تخبز عن طريق صب الدقيق اللين على آلة الخبز.

       ويمكن أن ندرك ما يمر به عمر من ضغط نفسي في مثل هذه الحالات، وما يعتمل داخل صدره من شعور، يكون أحياناً فوق طاقة البشر، إلا من أسعفه الله بإرادة قوية، ولو كان الأمر يخص عمر فيما يحب لنفسه، لهان الأمر؛ ولكنه يخص من يحبه عمر، لسبب قوي تغلغل في داخل نفسه، وحفر له مفحصاً عميقاً في داخله، والقصة الآتية تمثّل هذا الاصطراع المضني داخله:

       «بعث أبو موسى، من العراق، إلى عمر بن الخطاب – رحمة الله عليه – بحلية، فوضعت بين يديه، وفي حجره «أسماء بنت زيد بن الخطاب»، وكانت أحب إليه من نفسه؛ لما قتل أباها باليمامة عطف عليهم؛ فأخذت من الحلية خاتماً، فوضعته في يدها، وأقبل عليها يقبلها، ويلتزمها؛ فلما غفلت أخذ الخاتم من يدها، فرمى به في الحلية، وقال:

       خذوها عني»(8).

       وجاء الإسلام ليساوي بين الناس؛ ولكن الناس لايزال عندهم من أمور الجاهلية بقية تكمن داخل النفس، ولا تظهر صريحةً، وإنما تظهر مستعيرةً ثوباً غير ثوبها، لتأخذ ما كانت تأخذه؛ ولكن حزم عمر وعدله، وإيمانه بدينه، يحول دون هؤلاء الناس، وما يشتهون، ويقف بقوة، ليفرض مع الإسلام روحه الحقة، ولا يهادن في حق الله، وفي حق دينه، وسنة رسوله، والقصة التالية تعطي صورةً عن موقف «عمر» من مجموعة رأت رأياً، ورأى هو رأياً، سار عليه، دون أن يلتفت لأحد:

       «سهيل بن عمرو الأعلم هو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب «عيينة بن حصن»، و«الأقرع بن حابس»، وفلان وفلان، فقال الآذن:

       أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ أين عمار؟ فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل:

       لم تتمعَّر وجوهكم؟ دُعُوا، ودُعينا، فأسرعوا، وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعدَّ الله لهم في الجنة أكثر»(9).

       وعدل عمر من إيمان عمر، وإيمان عمر قوي، فجاء عدل عمر قويًّا مثل إيمانه، لا يقف عند أقرب الدرجات؛ بل يتعمّق، ويصل إلى الجذور، فعندما يرى العمل الحسن، يجازي بأضعافه، وقد لمح خلقاً جميلاً، فسارع يخزن منه، العدل هذه المرة جاء بالحكم الذي ارتضاه إيماناً بما فيه من خير الدنيا والآخرة والقصة هكذا:

       «مرت بعمر – رضي الله عنه – عجوز تبيع اللبن، فقال:

       لاتشوبي لبنك بالماء، ولا تغشي المسلمين.

       قالت: نعم، يا أمير المؤمنين.

       ثم مرَّ، فقال: يا عجوز، ألم أعهد إليك؟

       قالت: والله ما فعلت.

       فقالت بنت لها من خبائها: أغشًّا وكذباً جمعت على نفسك!

       فقال عمر لولده: أيكم يتزوجها، لعل الله أن يخرج منها نسمةً طيبةً؟

       فقال عاصم: أنا أتزوجها، يا أمير المؤمنين.

       فولدت له أم عاصم، فتزوجها عبد العزيز بن مروان، فولدت عمر بن عبد العزيز!»(10).

       إن صوت العدل قال لعمر: لقد فسدت العلاقة بين الأم وابنتها، وذلك لجرأة البنت في الحق، ولها عليك حق حمايتها من أمها وإكرامها؛ حمايتها من أمها؛ لأنها إن أفلتت من العقاب، لم تفلت من تأثير أمها عليها بعملها السيء، وإكرامها باختيار زوج يليق بهذه النبتة الكريمة، فاستجاب «عمر» لصوت العدل، وداعي إعطاء الحق لأهله، فلم يرض لها إلا أحد بنيه، وأمل أن ينمي الله نيته، ويباركها، فاستجاب الله له بأن جعل من ثمرات هذا الزواج بعد جيل أو جيلين «عمر بن عبد العزيز» قنديل سيرة آل أمية، وضياء تلك العصور.

       ومن أظهر القصص التي تُرْوىٰ عن عدله قصته مع «ابن عمرو بن العاص»، وهي كما يلي:

       «جاء رجل من مصر إلى عمر، فقال:

       يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بك.

       فقال: لقد عذت عياذًا، فما شأنك؟

       قال: سابقت ولد عمرو بن العاص، فسبقته، فجعل يقنعني بسوطه، ويقول:

       «أنا ابن الأكرمين». وبلغ عمرو، فحبسني خشية أن آتيك، فانفلت.

       فكتب عمر إلى عمرو:

       إذا أتاك كتابي هذا، فاشهد الموسم وابنك.

       وقال للمصري: أقم، حتى يقدم عمرو، ويشهد الحج.

       فلما كان رمى إليه بالدرة، فضرب ولد عمرو، وعمر يقول: اضرب ولد الأكرمين.

       حتى قال: يا أمير المؤمنين، قد استغنيت.

       قال: ضعها على صلعة عمرو.

       فقال: ضربت الذي ضربني.

       قال: أما والله لو فعلت، ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي ينزع. ثم قال: يا عمرو، متى تعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»(11).

       لقد ضرب عمر – رضي الله عنه – مثلاً للعدل بما فعله مع هذا الشاكي، فلقد أتاح له أن يقتص ممن ضربه، حتى أخذ حقه حسب تقديره هو، وتنازل عن حقه على «عمرو»، وكان قد حبسه حتى لايصل بشكواه إلى أمير المؤمنين عمر. وقد لخص عمر رأيه في كل هذا بتنبيه «عمرو» إلى أنه لا حق له على الناس، إلا حقًّا يوجبه الشرع، وإلا فالناس وُلِدُوا أحراراً، وسيبقون أحراراً. ولقد واكب هذا ما وضع إطاراً لهذا كله، فقد استقدم عمر عمراً وابنه من مصر، واستبقى الرجل حتى جاءا، وفي هذا كله مطرقة ترتفع وتنزل، بثقل وقوة، على أعصاب عمرو  وابنه، ناهيك بحديث الناس ونظراتهم، وعمرو يرى نفسه، وهو والي مصر، إحدى أهم البلدان المكتسبة حديثاً، يعاقب، ويؤدب ابنه.

       ودرة عمر لها هيبتها، ولها تأثيرها، وقد اشتهرت، وقومها العارفون، وقرنوها بعدله، والقصة التالية عن هذه الدرة، وعن العدل الذي اشتهر به عمر، عن هذه الدرة، وعن العدل الذي اشتهر به عمر، فأصبح مضرب المثل:

       «قال الشعبي: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج، ولما جيء بالهرمزان، ملك خوزستان أسيراً إلى عمر، لم يزل الموكل به يقتفي أثر عمر، حتى عثر عليه بالمسجد نائماً، متوسداً درته، فلما رآه «الهرمزان» قال:

       هذا والله الملك الهني، عدلت، فأمنت، فنمت، والله إني خدمت أربعةً من ملوك الأكاسرة، أصحاب التيجان، فماهبت أحدًا منهم هيبتي لصاحب هذه الدرة»(12).

*  *  *

الهوامش:

  • البصائر: 6/71.
  • ربيع الأبرار: 1/659.
  • البصائر: 6/71.
  • ربيع الأبرار: 1/793.
  • سورة آل عمران، الآية: 14.
  • سورة الحديد، الآية: 23.
  • الإشراف: 206.
  • الإشراف: 207.
  • البيان والتبيين: 2/317.
  • ربيع الأبرار: 4/285.
  • لعمر قول جميل عن سياسته: «إني والله ما أدع حقًّا لله لشكاية تظهر، ولا نصب (غضب أو حقد) يحتمل، ولا لمحاباة بشر؛ وإنك والله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه». البيان والتبيين: 1/260. ربيع الأبرار: 3/72.
  • ربيع الأبرار: 3/188.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل – مايو 2012م ، العدد : 5 – 6 ، السنة : 36

Related Posts