إشراقة 

       أعتقد جازمًا – وكثيرًا ما أقول – أن من يُغْرَمُ بتوفيق الله عزّ وجلّ بالعلم والتعلّم والدراسة ، يستغني عن كلّ شيء من المال والثروة والعزّ والجاه والسمعة الكاذبة . إنّها دنيا غير دنيا الناس ، وسكانها لا يهمّهم شيء ؛ فقد يتشاغلون بالعلم والدراسة عن ذواتهم وحاجاتها المُلِحَّة . والسببُ في ذلك أن المرأ لا يهمّه إلاّ ما يَعْشَقُه ويُغْرَمُ به ، فعاشقُ العلم الهائم بالدراسة ، لا يتطلّع إلى حبيب غيره ؛ لأن الإنسان مطبوع في الأغلب على تبنّي هواية واحدة وعلى إفراد الحبيب بالحبّ ، فهو إمّا يحبّ العلم والفضل المعرفيّ أو يحبّ المادة والمعدة ، وبالتالي يكون عبدًا للأوّل أو الآخر . والمُتَوَزِّع بين حبّ الحبيبين لايكون مخلصًا ، ولا ينقطع إلى أحد منهما ، فلا يوفّيه حقَّه من الحبّ والاهتمام . وإذا كان كلُّ كليّ فيه جزئي ، فإننا قد نجد الحريص على العلم والمعرفة عبدَ المال والجاه والمهتمّ بهما جميعًا لآخر الحدود ؛ ولكنّ الأغلب أن الإنسانَ إمّا يهمّه هذا أو يهمّه ذلك .

       والمنقطعُ إلى شيء واحد من الأشياء هو الذي يختصّ فيه ، ويبلغ فيه الذروةَ ، ويمسك بزمامه ، ويأخذه بجوانبه . أمّا المُتَطَلِّع إلى هذا وذلك ، فيكون مُوَزَّع الهموم ، مُشَوَّش التفكير، مُشَتَّت البال ؛ فلا ينال هذا أو ذاك بشكل صحيح . فيما يتعلّق بالعلم أيضًا لايبلغ الذروةَ في أحد فنونه إلاّ من انقطع إليه دون سواه . رأيتُ عددًا من المعاصرين يُلمُّون بكل شيء ، فلا يُتْقنُون شيئًا ؛ فأقول في شأنهم : «يعرفون كلَّ شيء ؛ فلا يعرفون شيئًا» . وقديما قالوا : طلبُ الكلِّ فوتُ الكلّ . أي من يطلب جميعَ الأشياء لاينالُ شيئًا ؛ فلا يتقن فنًّا من فنونِ العلم إلاّ من يفرده بالدراسة والاجتهاد في تحصيله ، فيصبح فيه بحيث يشار إليه بالبنان ، ويصير فيه مرجعًا ومُعْتَمَدًا ، ويثق الناس بما يقول فيه وبما يأتيه ويذره ، ويقدّرون آراءه وطروحاته واستنتاجاته .

       وقد صدق الإمام الشافعي (محمد بن إدريس) رحمه الله المتوفى 204هـ – وهو ممن أنطقه الله عز وجل في أبياته بحقائق الكون ، ولاسيّما ما يتعلق بالعلم والرزق والعقل والحظّ والجدّ والسعادة وما إلى ذلك – :

لَنْ يَبْلُغَ الْعلْمَ جَمِيْعًا أَحَـدٌ           لاَ ، وَلَـوْ حَاوَلَـه أَلْفَ سَنَهْ

إِنَّمَا الْعلْـمُ عَمِيْقٌ بَحْـرُه         فَخُذُوْا منْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَه

       على كلّ ، فكنتُ أقول : إن الحريص على العلم والمعرفة ، لايهيم بشيء سواهما ؛ لأنّ من يعرف حبيبه عن بصيرة وهدى ، ويقدّر عاداته وصفاته ، ويشغفه حبًّا ، ويُغْرَمُ بحسنه وبهائه ، لايعدل به سواه في حال من الأحوال . كذلك الحريص على العلم والدراسة لايلفته شيء سواهما إليه مهما راق ولمع وفاح .

       إن العلم له ضراوة كضراوة اللّحم ؛ فكما أن الضاري به لا يصبر عنه ، كذلك الضاري بالعلم لايعيش إلاّ به وله وفيه ؛ فلا يرفع رأسَه إلى ما مَتَّعَ اللهُ به كثيرًا من الجهال أو أنصاف العلماء أو أشباه المتعلمين الذين إنما يهمّهم الدنيا وجمعها ، فيتنافسون فيها تنافسَ الكَفَرَة الفَجَرَة الذين جُعِلَت لهم الدنيا جنةً ونعيمًا . ألا ! إنهم مجرد المتظاهرين بالعلم وليسوا من عشاق العلم ؛ لأنَ العاشق له لايجد لذة في غيره مهما لذَّ وطاَبَ ، والعَاشقُ يتفرّغ لما يعشقه وينقطع إليه . إن ذلك مقياس الصدق والكذب في حبّ شيء : إذا أحبّ الرجل شيئًا انصرف إليه بهمومه كلّها ، ولم يفكر إلاّ فيه ، ولم يتحدث إلاّ عنه، ولم يُعْنَ بمساعيه كلّها إلا به ، ولم يذق لذة في المأكل والملبس وألذّ لذائذ الحياة . وقد صدق الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إذ قال :

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْعلـمَ لَيْسَ يَنَالُـه

مَنْ هَمُّه فـي مَطْعَمٍ أَوْ مَلْبَس

فَاجْعَلْ لنَفْسكَ منْهُ حَظّاً وَافرًا

وَاهْجُرْ لَه طِيْبَ الرُّقَاد وعَبِّس

       حَقًّا ، من عَلمَ حقيقة العلم ، وعرف عظمته ، زَهِدَ في الدنيا ، وأعرض عن بهرجتها ، ولم يتَحَلَّبْ فمه ولم تَتَلَمَّظْ شفتاه لحطامها الزائل ونعيمها الحائل، ولم يشغله الأفكار ، ولم تستقطب اهتمامَه الهمومُ ، ولم تجد مشاغلُ الحياة لديه مُتَّسعًا ؛ لأن الهموم كلها اختصرت في همّ واحد ، هو هم العلم والاستزادة منه . ومثله وحده يجوز أن يُسَمّى محبَّ العلم وعاشقه . وذلك ما عبّر عنه الإمام الشافعي رحمه الله أروع تعبير :

وَلاَ يَنَالُ الْعِلْـمَ إِلاَّ فَتًى

خَالٍ منَ الأَفْكَارِ وَالشُّغْل

       والراغب في العلم رغبة صادقة يكون أبيًّا قنوعًا لا يعرف الذلّ ، ولا يجد إليه الطمع سبيلاً ، فلا يتملّقُ لثريّ ، ولا يتذلّل لذي سلطة ، ولا يتحبّب إلى أمير ؛ لكي يحظى بشيء من دنياه العريضة . أما المتعالم الذي يتظاهر بصناعة العلم ؛ فإنّه يصانع الأثرياء ، ويجـامل الأمراء ، ويتودّد إلى كل من يملك سلطةً ؛ فقد يكسب بذلك دنيا واسعة وثروة طائلة ، وأسبابًا كثيرة تُنَعِّم له ولأسرته الحياةَ ، وتزيّن له المعاشَ ، وتُسَهِّل له مسيرة الحياة مهما طالت ؛ لأنه لم يعرف قدرَ العلم الذي تظاهر بأنّه نال منه حظًّا ، وصار «عالماً» ، أو كأنه رأى أن علمه لم ينفعه في دنياه التي كانت هي هدفَه المنشود ، فأذل علمه ونفسه ، من حيث ظنّ أنّه أكرمهما . أمّا العالم المقدّر لعلمه ونفسه ، فإنّه يترفّع عن الذلّ ، ويسمو بعلمه عن جميع المواقف التي تحطّ قدر علمه ومكانة نفسه . فها هو ذا الإمام الشافعي رحمه الله يكتفي بعلمه عن الذلّ ومسبباته ، فيقول :

حَسْبِى بِعِلْمِي إنْ نَفَعْ        مَا الذُّلُّ إلاَّ فِي الطَّمَعْ

ويقول :

فَاقْنَـعْ وَلاَ تَطْمَـعْ فَلاَ              شَيْءٌ يَشِيْنُ سِوَى الطَّمَعْ

       حـقًّا ، إنّ الطمع عيب لا عَيْبَ بعده ؛ لأنه يشين صاحبه بشكل لايشين مثله أيُّ عيب في الدنيا؛ فالذين يدّعون تبنّيَ صناعة العلم والدراسة ، ثم يمارسون الطمع ولايبالون بالذلّ الذي يلحقهم ، ويتملّقون للأمراء وأصحاب الثراء ، لينالوا من دنياهم ما يتفضّلون به عليهم مما ترضى به نفوسهم إذا رَضِيَتْ ، وقلّما ترضى ؛ والذين يُسَابِقُون المتهالكين على الدنيا وعبيدَ الدنانير والدراهم ، في كسب أكبر قدر ممكن من الدنيا ومتاعها الفاني ، ولايبدو من سيرتهم – بشكل من الأشكال – أنهم تعلّموا الدين ، وشرفوا بكسب العلم ، وسعدوا بالعيش حينًا من الدهر في رحابه .. هؤلاء لاينبغي أن يُسَمَّوْا «علماء» ؛ لأنهم خدشوا شرفَ العلم ، وأساؤوا إلى كرامته ، بإهانتهم مكانَته التي رفعها كتاب الله وحديث رسول الله ﷺ . والناس يحترمون العلماء – إذا احترموا هم علمهم – احترامًا عفويًّا ويجدون أنفسهم مضطرين لتوفيتهم حقَّهم من الاحترام والتقدير والإعجاب ؛ ولكن الذين لا يحترمون علمهم، لايحترمهم الناس ؛ لأنهم يرونهم يحرصون على الدنيا حـرصهم عليها ، ويركضون لكسبها ركضهم لكسبها ، فما دام العلماء خَدَمَةً للعلم ، يكون الناس خَدَمَةً لهم ، وعندما يكونون يفقدون هذه الصفة ، ينفضّ الناس من حولهم . ويصور الإمام الشافعي هذا الموقف أصدق تصوير، إذ يقول :

الْعِلْمُ مِنْ فَضْلِه ، لـمَنْ خَدَمَهْ

أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ خَدَمَهْ

فَواجبٌ صَـوْنُه عَلَيْـه كَمَا

يَصُوْنُ فِي النَّاسِ عِرْضَه وَدَمَهْ

       على كل ، فالمُغْرَمُ بالعلم والدراسة بصدق وإخلاص ، لايحيد عنه في حال ، ولا يتلفّت يمينًا وشمالاً ، ويصافيه الحبَّ ، فلا يكدّره برغبة في المال والجاه والوجاهة لدى الناس ، ولا يضيّع أوقاته الثمينة في غير العلم والدراسة ، ولا يحتضن غرضًا بعدما احتضن هذا الغرض النبيل الذي أشاد بذكره رب العالمين في كتابه الخاتم ، ولهج بذكره النبي الأعظم محمد ﷺ . فإذا رأيت رجلاً يزعم أنه يعشق العلم ويهوى الدراسة ، يوزّع أوقاتَ حياته في الاهتمامات الكثيرة ، والهوايات العديدة ، ويتبنّى أسباب جمع الدنيا ، ويبدو من سلوكه العامّ وتعامله مع الحياة أنه حريص على أسباب الزينة والرياش والأثاث ، والعز الظاهر ، والجاه الكاذب ، والمتعة الفانية ، فمعنى هذا أنه لم يدرك لذة العلم رغم تشاغله به واصطناعه له .

       الاشتغال بالعلم إذا كان لله ، هو العبادة والرئاسة ، والعز والشرف ، والزهد والطاعة ، والحزم والكياسة ، وفيه كل الأجور التي يتمناها المرأ من الأعمال التي يراها عبادات محضة ، وما أحسن ما قاله الشاعر العربي :

إنَّ التَّشَاغُلَ بالدَّفَاترِ وَالْمَحَا

بِرِ وَالْكتَابَـة وَالـدِّرَاسَـهْ

أَصْلُ التَّعَبُّـد وَالتَّـزَهُّـد

وَالـرِّئَـاسَـة وَالْكيَاسَـهْ

       إن السكران بالعلم ، لايفيق من سكرته ، مهما اصطلح الأطباء على علاجها ، ووصف الأدوية الناجعه فيها ؛ لأن طبيبًا لم يُوْلَدْ ليصف الدواء الصحيح لمعالجة سكرة العلم والدراسة ، ولن يُوْلَدَ ليشخّص الداء ويصف الدواء فيما يتعلق بهذا الباب من المرض والعلاج . وإذا كان المريض بأيّ مرض في الدنيا يتمنى أن يُعَافَى من مرضه في وقت عاجل وبشفاء كامل ؛ فإن المريض بهذا الداء يتمنى أن يزداد مرضه شدة وتعقيدًا ومستعصيًا على كل من يهمّ بعلاجه ، ويتخذ تدبيرًا لخلاصه منه . فما أكرم المرض ، وما أعجبه وأغربه ، وما أغلى ثمنه ، وأسمى مكانه ، وأعظم شأنه ؛ فلن يصيب الله به إلاّ من يريد به خيرًا في الدنيا والآخرة ، ولا يحرم إيّاه إلاّ من يريد أن يحرمه الخير الكثير الذي لا يُجْتَنَى بغيره .

(تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الجمعة 8/ محرم 1426هـ 18/فبراير 2005م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . صفر 1426هـ = مارس – أبريل 2005م ، العـدد : 2 ، السنـة : 29.

Related Posts