كلمة المحرر

   يهلّ علينا العام الهجري الجديد 1426هـ مُوَدِّعًا وراءه العام الهجري 1425هـ  والمسلمون يعيشون كثيرًا من المثبطات . والزمان : الأيام والأسابيع والشهور والأعوام من خلق الله تعالى ، وهو الذي يُفضّل بعضه على بعض ، وهو الذي يجعله ذا سعادة أو شقاء ؛ فهو بذاته ليس مسعودًا أو منحوسًا ، وإنما السعادة والنحس من قبل الله عزّ وجل لحكمة يعلمها ومصلحة يقررها في إدارة الكون وتحريك الأيّام والليالي . وإذا شاء الله عزّ وجلّ أخرج الرجاء من الياس ، وإذا شأء حوّل الرجاء يأسًا ، والانتصار انكسارًا ، والفتح هزيمة ، إنّه فعّال لمايريد .

   أجمع أهل مكة على إفشال مشروع الدعوة الإسلامية والرسالة الإلهية الذي نهض به سيدنا النبي الخاتم محمد ﷺ ، فحاربوه والذين آمنوا به بكل ما كانوا يقدرون عليه من الوسائل المادية والمعنوية ، وحالوا بكل طريقة متاحة وكل حيلة اهتدوا إليها دون انتشار الدعوة ؛ فتناولوا سيدنا محمدًا ﷺ والجماعة القليلة العدد التي لبّت دعوته بصنوف الأذى التي لايمكن أن يتحملها إلاّ مثلها التي خالطت بشاشة الإيمان شغاف قلبها ، وأضاقوا عليها الأرض بما رحبت ، ولم يدعوا وسيلة للتعذيب و الإيذاء والحيلولة دونها و دون الإيمان بالله ورسوله ، إلاّ جرّبوها ، حتى احتشدوا ليلة ليقضوا على رأس «الفتنة» التي أقضّت مضاجعهم وسفّهت أحلامهم وسبّت آلهتهم وفرّقت جماعتهم – كما زعموا – بإزالتهم إيّاها بهجمة موحدة وضربة حاسمة ؛ ولكن سيدنا محمدًا ﷺ طلع عليهم خارجًا من بيته ، مجتازًا محاصرتَهم له ، وقد أخذ الله عنه أبصارهم ، و ودّع مكة مهاجرًا إلى «يثرب» التي تسمّت ببركته بـ«المدينة المنورة» ومعه وزيره الأول ، وصاحبه في الغار ، ومصدقه حين كذبه الناس ، و رفيقه في درب الدعوة ، وخليفته بعد وفاته ﷺ : سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ؛ فأصبحت المدينة دارًا وقرارًا، وعاصمة الدولة الإسلامية ، ومصدر الدعوة ، ومنطلق الانتصارات ، ودخل المهاجر ﷺ يومًا مكة فاتحًا إيّاها ، مطهرًا لبيت الله ، مُنَكِّسًا للأصنام ، رافعًا راية التوحيد والإسلام .

*  *  *

   الوضعُ في مكة قبل الهجرة كان من شأنه أن يكون مبعث يأس وإحباط إن لم يكن الداعي مثل سيدنا محمد ﷺ والملبّي للدعوة مثل الجماعة المؤمنة به التي أُلْهِمَتْ الثبات وأُشْرِبَت اليقينَ وحلاوة الإيمان ؛ ولكنه وإيّاها لم يكونا لييئسَا ويتراجعا أو يتنازلا عن المبدإ الذي نهض به ﷺ ، والدعوة التي كُلِّفَ تبليغَها ، والمهمةِ العظيمة الجليلة التي اُلْقِيَتْ عليه مسؤوليةُ إنجازها ، والأمانةِ التي أُسْنِدَ إليه أداؤها .

   هاجر من مكة ومِلءُ قبله الرجاءُ الذي لاينفد ، والأملُ الذي لاينتهي ، والإيمانُ الذي ينير كل ظلمة ، ويُطلع الصباحَ المنبلجَ من الأماني الحلوة من خلال الليل البهيم من الخوف واليأس .

*  *  *

   المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها حتى في الديار التي كانت مهد العروبة والإسلام ومهبط الوحي والقرآن ، ومولد الرسات الإلهية والنبوءات الربانية – التي أطلق عليها الغرب لغرض عندهم أو مرض في قلوبهم اسم «الشرق الأوسط» – عادوا يعيشون مثل ذلك الوضع الذي يبعث اليأس واللارجاء ، فيُحَارَبون من قبل أمريكا والغرب والصهيونية العالمية من كل جانب ، ويُحال دونهم ودون العمل بالإسلام الكامل الشامل – الذي يُسَمَّى بـ«التطرف» و«الأصولية» و«الإرهاب» و«العنف» – ويُحاصرون في كل مكان ، ويُعَذِّبون بكل أسلوب ، ويُصَبّ عليهم الأذى من كل نوع ، ويُوَجَّه إليهم جميعُ أنواع التهم ، ويُعَاقَبون في مواطنهم وفي خارجها ، وتحاك المؤامرات ضد دينهم وعقيــدتهم وكتابهم وشريعتهم ومناهجهم الدراسية ، وحضارتهم وثقافتهم ، وبلادهم وملوكهم وحكامهم ، ويُسلبون الحريةَ ، وتكمم أفواههم ؛ فإن أبدوا احتجاجًا فهم عاملون بالعنف ، وإن تعاملوا بمقاومة فهم إرهابيون ، وإن كالوا بمثل الكيل الذي كيل لهم فهم «جهاديون» متشددون لايليقون بعصر المدينة والتنّور، وإن ردّوا مكان الطوب بالحجر فويل لأمهاتهم ؛ لأن الدولة الأقوى بأسرها ، والحضارة بكاملها تنهضان لتنتقما ليس منهم وحدهم ولكن من بني جنسهم كلهم ومن دولهم كلها ، وتجري المحاولة منهما لإبادتها من الأرض !.

   ولكن المسلمين يُعَلَّمهم دينهم أنه لامكان لليأس في هذه الحياة فيما يتعلق بأي أمر من أمورها ، فضلاً عن أن يستجيبوا لليأس فيما يتعلق بدينهم الذي رضيه الله وحده لعباده ، ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة لمن الخاسرين ، أجل : ما معنى اليأس في شأنه وقد تكفل الله بحفظه وضمن بقاءه وخلوده ضمن كتابه الخالد .

   الأمر كله يرجع إلينا نحن المسلمين أنفسهم ، إلى ذنوبنا التي ارتكبناها علنًا وجهارًا ، ويعفو الله الحليم عن كثير منها ، فلنتب إليه تعالى مهما بلغت ذنوبنا عنان السماء ؛ لأنه تواب عفوّ غفور ، ولنعد إلى إيماننا لنجدده كل وقت ، وإلى يقيننا لنؤكده كل لحظة ، وإلى قلوبنا لنملأها من جديد بالرجاء والأمل والاستبشار بمغفرة الرب إذا عملنا بأوامره ونواهيه حسبما نستطيع ؛ لأنه لم يُكَلِّفنا إلاّ وسعَنا .

   إن الحق ظل وسيظل منتصرًا ، والباطل ظل وسيظل منكسرًا ، والواجب أن لانستعجل ونصبر ونصابر ونثبت ونثابر ؛ فالنصر مع الصبر، والنجاح مع الرجاء . ومناسبةُ الهجرة تعطينا هذا الدرس ، وتعلّمنا هذا المنهجَ فيما يتعلق بالدين والدنيا معًا .

[ التحرير ]

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.

Related Posts