دراسات إسلامية
بقلم : الأستاذ محمد شكيب قاسمي(*)
المقدمــة
الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده، ولم يجعل له عوجاً، فيه هدى ونور أنزله بلسان عربي مبين، وتحدى به العرب أصحاب اللسان وأهل البيان، فعجزوا عن أن يحاكوه، بعد عجزهم أن ينافسوه، ثم جعل شريعته أحسن الشرائع حيث قال تعالى: ]أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ [المائدة:50]، فليس ثمة شريعة أحسن من شريعته عز وجلّ، وهي شريعة سارية بعقول البشر، جارية بما يحتاجه كل إنسان في حياته، صالحة لكل زمان ومكان.
والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيّد الخلائق والبشر، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون. وهو الذي أيّده بالقرآن العظيم، وأعطاه الهداية وأحسن التشريع ليهتدي به الناس ولينالوا رضا الله تعالى، ثم السعادة في حياتهم الدنيوية والأخروية حيث جاء بأحسن شريعة وأتمها. فقد أخرج البخاري بسنده عن مخارق قال: سمعت طارقاً قال: قال عبد الله: «إن أحسن الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم»(1). وأخرج أبو يعلى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد! فإن خيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»(2).
حقيقة الولاية
الوِلاية لغة: -بكسر الواو- هي الخطَّة، والإمارة، والسُّلطان. والوَلاية – بفتح الواو- النصرة لقوله تعالى: ]هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ[ [الكهف:44] أي النصرة له تعالى وحده(3). قال «سيبوبه»: الوَلاية «أي بالفتح» المصدر، والوِلاية «أي بالكسر» الاسم مثل الإمارة والنِّقابة؛ لأنَّه اسم لما توليته وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا(4). وقال ابن الأثير:وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالى(5). وقال ابن فارس وغيره: «كلّ من قام بأمر شخص فهو وليّه»(6).
الولاية شرعاً:
الولاية شرعاً: حق يستطيع الإنسان به تنفيذ قوله، رضي غيره أم أنكر. وقال الدكتور وهبة الزحيلي: «ويمكن أن نقول: الولايةُ هي القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على إجازة أحد. ويسمى متولي العقد «الولي». ومنه قوله تعالى: ]فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ[ [البقرة: 282](7).
والتعريف الأول أقرب أن يكون مأخوذاً من المعنى اللغوي للولاية وهو الإمارة؛ لأن الأمير يتصرف في أحوال مَنْ تحت يده، وينفذ أحكامه عليهم.
أقسام الولاية:
لقد ذهب الحنفية إلى أن للولاية ثلاثة أقسام:
1- الولاية على النفس: سلطة الولي التي تتعلق بنفس المولى عليه من صيانته وحفظه وتأديبه وتعليمه العلم أو الحرف وتزويجه. وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء، وهذا هو محل بحثنا.
2- الولاية على المال: تدبير شؤون القاصر المالية من استثمار وتصرف وحفظ وإنفاق. وهي تثبت للأب والجد ووصيهما. ووصي القاضى. قاله «الزحيلي».
3- الولاية على النفس والمال معاً: تشمل هذه الولاية الشؤون كلها شخصيةً كانت أو ماليةً. وهي تثبت للأب والجد فقط.
وحيث إن محل بحثنا هو الولاية على النفس – كما قلنا- فنتوسع فيها قليلاً بأن نذكر أنواعها، وهي على نوعين: ولاية إجبار، وولاية اختيار أو ولاية ندب(9).
أ- ولاية الإجبار: وهي التي لا يعتبر فيها إذن المولَّى عليه(10) ، فيزوّجه وليّه شاء أم أبى.
ولاية الاختيار: وهي التي يعتبر فيها إذن المولَّى عليه، فلا يزوِّجه وليّه حتى يستأذنه.
حكمة مشروعية الولاية في النكاح
الولاية مشروعة في النكاح سواء كانت ولاية جبر أو ولاية ندب؛ لأن بعض الأزواج قد لا يدرك وجه المصلحة لقصوره، وليس من أهل التصرف والولاية؛ ولأن المرأة لو باشرت عقد النكاح بنفسها تنسب إلى سوء التربية على وجه يواجه أولياؤها وأهلها العار، وبالجملة فإن النكاح مشروع لمقاصد جليلة، والتفويض إلى النساء قد يخل بهذه المقاصد؛ لأنهن يمكن أن يخترن من لا يصلح لهن، فكانت المصلحة في مباشرة الأولياء.
حقيقة النكاح ومشروعيته وحكمته
النكاح لغة: المخالطة والضم. يقال: نكح المطر الأرض أي اختلط في ثراها. ويقال: تناكحت الأشجار: أي انضم بعضها إلى بعض. ويراد بالنكاح الزواج يقال: نكح فلان امرأةً ينكحها نكاحاً إذا تزوجها ويراد به الوطء. ويقال: نكحها وينكحها أي باضعها.
قال «الأزهري»: «أصل النِّكاح في كلام العرب الوطء. وقيل للتزويج نكاح؛ لأنَّه سبب الوطء المباح».
وقال «الفيروزآبادي»: النِّكاح الوطء والعقد له(11).
النكاح شرعاً: عرّفه الحنفية بأنه عقد يفيد ملك المتعة أي حل استمتاع الرجل من امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي(12). وقال «ابن عرفة»(13): النكاح عقد على مجرد متعة التلذذ بآدمية، غير موجب قيمتها ببينة قبله، غير عالم عاقده حرمتها إن حرمها الكتاب على المشهور أو الاجماع على الآخر. وعرفه الشافعية بأنه عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أَوْ تَرْجَمَتِهِ(14).
إن مشروعية النكاح قد ثبتت بالقرآن، والسنة، والإجماع.
أما القرآن، فآيات كثيرة منها: قوله تعالى: ]وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم[ [النور:32]. وقوله تعالى: ]فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ[ [النساء:3].
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»(15). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»(16).
وأما الإجماع: فقد اتفقت جملة العلماء على مشروعيته(17).
شرع النكاح لما يترتب عليه من المنافع العظيمة، منها:
1 – أنه سبب لصيانة النفس عن الفاحشة، والأولاد عن الهلاك؛ فإنه لولا النكاح لاختلطت المياه فتشتبه الأنساب، وتضيع الأولاد لعدم من يدّعيها، وهذا هو قتل النفس معنى، بل أشد أنواع القتل.
2 – أنه سبب لصيانة المرأة عن الهلاك بالنفقة والسكنى واللباس؛ لأن المرأة عاجزة عن الكسب، لا تقوى على ما يأتيه الرجال من ضروب السعي وتحمل المشاق في سبيل الحصول على الزاد.
3 – أنه سبب للتوالد والتناسل وتكثير عدد المسلمين والموحدين للمولى سبحانه في أرضه على وجه يزيد في عمرانها وصلاحها.
4 – أن فيه قضاء الشهوة وتحصيل اللذة بطريقة جائزة.
وبالجملة فإن في النكاح حفظ الفروج، ودفع التباغض والتحاسد، وقطع التزاحم المفضي إلى حدوث الفتن والاقتتال، ففيه حفظ النوع الإنساني عن الهلاك والانقراض.
بيان الخلاف في علة ولاية الإجبار وانعقاد الزواج بعبارة النساء
اختلف العلماء في علة ولاية الإجبار، فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن علة ولاية الإجبار هي البكارة. وهذا هو قول الفقهاء السبعة من التابعين وقول عطاء، والشعبي، والنخعي(18). وذهب الحنفية والظاهرية إلى أن علة الإجبار هي الصغر، ففي الهداية: «ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها؛ وإن لم يعقد عليها وليّ، بكراً كانت أو ثيّباً عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرّواية»(19). فعلم أن علة ولاية الإجبار هي الصغر عندهم. واختاره ابن تيمية وابن القيم.
فتظهر ثمرة الخلاف في البكر البالغة العاقلة بأن يجوز للولي إجبارها على النكاح، وتزويجها بغير إذنها عند المالكية والشافعية والحنابلة، ولا يجوز عند الحنفية والظاهرية؛ لأن الولاية على الصغير والصغيرة إنما ثبتت لقصور العقل، وبعد البلوغ يكمل العقل بدليل توجه الخطاب إليها.
وأمّا الصّغيرة – سواء أكانت بكراً أم ثيّباً – فلوليّها إجبارها على النّكاح عند الحنفية والظاهرية؛ لأنّ ولاية الإجبار عندهم تدور مع الصّغر وجوداً وعدماً. ولا يجوز للولي إجبار الثيبة الصغيرة على النكاح عند المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن علة الولاية عندهم هي البكارة، وقد زالت.
التنبيه:
لتزويج الأب بغير إذنها شروط(20) ، وهي:
1 – أن لا يكون بين الأب وبين بنتها الباكرة عداوة ظاهرة.
2 – أن يزوجها من كفء.
3 – أن يزوجها بمهر مثلها.
4 – أن يكون من نقد البلد.
5 – أن لا يكون الزوج معسراً بالمهر.
6 – أن لا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم.
أدلة من قال: «إن علة ولاية الإجبار هي البكارة»: احتج الأئمة الثلاثة بأمور عديدة، منها:
1 – عن ابن عباس، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها، فصمتها إقرارها»(21). هذا الحديث يدل على أن البكر بخلاف الثيب، فيحمل كل ما ورد من استئذان البكر واستئمارها على الاستحباب.
2 – ولأن الباكرة لا تعرف أمور النكاح؛ بل هي جاهلة بها، ولهذا يقبض الأب مهرها بغير أمرها.
3 – ولأنه ورد في بعض الروايات: «وَالْبِكْرُ يُزَوِّجَهَا أَبُوهَا» قد زاده ابن عيينة في حديثه قاله الإمام الشافعي(22)، فهذا يبين أن الأمر للأب في البكر.
أدلة من قال: «إن علة الولاية هي الصغر»: واستدل الحنفية بكثير من الروايات، منها:
1 – عن خنساء بنت خذام قالت: أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر، فشكوت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تنكحها وهي كارهة»(23).
2 – عن جابر: «أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما»(24).
3 – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، وإذنها الصموت»(25).
وأجاب الحنفية عن أدلة مخالفيهم:
1 – لا تقاس هذه المسئلة على مسئلة المهر أن العادة قد جرت بقبض الآباء مهر الباكرة لاستحياء البنات من المطالبة والاقتضاء، فوجد الأذن دلالة نظراً إلى ما ذكرنا.
2 – وأما ما استدلوا من هذه الرواية: «الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها» حيث إنه خص الثيب، فلزم أن البكر ليست أحق بنفسها منه، فلا نعتبرها؛ لأن هذا يستفاد من المفهوم المخالف، وهو ليس بحجة عندنا.
الخلاف في انعقاد الزواج بعبارة النساء
إن فقهاء المسلمين والعلماء الكرام قد اتفقوا على أن للمرأة أن تباشر جميع العقود بنفسها أصيلةً أو وكيلةً، فيما عدا عقد الزواج، فقد اختلفوا فى مباشرتها إياه لنفسها أو لغيرها، وقد اختلفوا في هذه المسألة على رأيين:
فذهب الإمامان أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز انعقاد النكاح بعبارة النساء؛ لكن لو وضعت نفسها عند غير كفء، فلأوليائها الاعتـــراض. وذهب الإمام محمد إلى أنه ينعقــد لكن موقــوفاً، وذهب الأئمــة الثلاثة إلى عدم صحــة هذا العقد وقالوا: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلاً، وهذا هو قول العامة بالمدينة ومكة(26).
أدلة الجمهور: استدل الجمهور بالقرآن، والسنة، والإجماع.
أما القرآن:
1 – قال تعالى:] فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ[ [البقرة: 232].
2 – قال الله تعالى: ]إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ[، والمراد بالمعروف ما تناوله العرف بالاختيار وهو الولي والشاهدان(27).
أما السنة:
1 – عن أبي موسى، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلاّ بوليّ»(28).
2 – عن ابن عباس، قال: «لا نكاح إلاّ بأربعة: وليّ، وشاهدين، وخاطب»(29).
3 – عن عائشة رضي اللّه عنها، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ثلاثاً»(30).
4 – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها، إن التي تنكح نفسها هي البغي»(31).
أما الإجماع:
فقد أجمع كثير من الصحابة على عدم صحة النكاح بعبارة النساء، كعمر وعلي وعائشة وابن عباس من الكبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وسعيد بن المسيب والحسن من التابعين، فقد روي عن الشعبي أنّه قال: لم يكن في الصّحابة أشدّ في النّكاح بغير وليّ من عليّ بن أبي طالب(32).
أما العقل:
إن الزواج عقد خطير دائم ذو مقاصد متعددة من تكوين أسرة، وتحقيق طمأنينة واستقرار وغيرها، والرجل بما لديه من خبرة واسعة في شؤون الحياة أقدر على مراعاة هذه المقاصد، أما المرأة فخبرتها محدودة، وتتأثر بظروف وقتية، فمن المصلحة لها تفويض العقد لوليها دونها(33).
أدلة الحنفية: استدل الحنفية بأمور كما استدل الجمهور، وهي:
أما القرآن:
1 – قال الله تعالى:] فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ[ [البقرة:234].
2 – وقال تعالى: ]حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ[ [البقرة:230].
3 – وقال تعالى:] فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ[ [البقرة:232].
فهذه الآيات كلها تدل على أنها تملك المباشرة؛ لأن العقد نسب إليها في هذه الآيات الثلاث.
أما الأحاديث:
1 – عن ابن عباس قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها»(34). إن لفظ الأيم يطلق على امرأة لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً. واختاره الإمام الكرخي(35).
2 – عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر، فصمتها إقرارها»(36).
3 – وحديث الخنساء حيث قالت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من أمور بناتهم شيء».
4 – عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن عائشة رضى الله تعالى عنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب، فلما قدم أنكر ذلك ثم أقره(37).
أما العقل:
لأنّها تصرّفت في خالص حقّها وهي من أهلها؛ لأن عندها أهلية كاملة في ممارسة جميع التصرفات المالية لكونها عاقلةً بالغةً مميّزةً، فتكون أهلاً لمباشرة زواجها بنفسها، وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة.
واعترض الحنفية على مستدلات الجمهور بما يأتي:
1 – لا يمكن أن تستدل بحديث عائشة – رضي الله عنها-؛ لأن عملها مخالف لفتواها كما ذكر في الحديث آنفاً.
2 – وأيضا مدار هذا الحديث الزهري، وقد روى ابن علية عن ابن جريج أنه قال: لقيت الزهري فسألته عنه قال: لا أعرفه، أي أنكره الزهري.
3 – وإن حديث عائشة المذكور محمول على الأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن مولاها، أو على الصغيرة، أو على المجنونة. وكذلك سائر الأخبار التي رووا على هذا تحمل، أو على بيان الندب، أن المستحب أن لا تباشر المرأة العقد، ولكن الولي هو الذي يزوجها(38).
أجاب الجمهور عن هذه الاعتراضات:
1 – إن ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها من الحديث أثبت عند أصحاب الحديث مما روي عنها من نكاح ابنة أخيها(39).
2 – إن الزهري أنكر سليمان بن موسى فقال: لا أعرفه، وما تكلم عن الحديث، وليس جهل المحدث بالراوي عنه مانعاً من قبول روايته عنه، ولا معرفته شرطاً في صحة حديثه(40).
3 – لا يمكن أن يحمل حديث عائشة على الأمة؛ لأنه ورد في آخر الخبر: فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له والسلطان لا يكون وليا للأمة(41).
الخاتمة:
وجدنا أن أقوال العلماء وآراءهم تتعارض بعضهم بعضاً فنجد أن الأئمة الثلاثة قد ذهبوا في المسئلة الأولى وهي -علة ولاية الاجبار في النكاح- إلى أن علة ولاية الإجبار هي البكارة وذهب الحنفية والظاهرية إلى أن علة الإجبار هي الصغر، وأما المسألة الثانية وهي-انعقاد الزواج بعبارة النساء- فذهب الإمامان أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز انعقاد النكاح بعبارة النساء؛ لكن لو وضعت نفسها عند غير كفء فلأوليائها الاعتراض. وذهب الإمام محمد إلى أنه ينعقد لكن موقوفاً، وأما الأئمة الثلاثة فهم قالوا: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلاً، فوصلنا بعد مناقشة آراء الفقهاء العظام إلى أن رأي الحنفية صواب في كلتا المسئلتين المذكورتين لقوة أدلتهم ومستدلاتهم كما ثبت أثناء المناقشة.
فنسأل الله له خير الجزاء و جزيل الثواب.
* * *
الهوامش :
(1) أخرجه البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي في الجامع المسند الصحيح، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، (بيروت: دار ابن كثير واليمامة، ط3، 1407ﻫ/1987م)، ج5، ص2262، رقم5747.
(2) أخرجه أبو يعلى، أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في المسند، تحقيق حسين سليم أسد، (دمشق: دار المأمون للتراث، ط1، 1404ﻫ/1984م)، ج4، ص90، رقم2119.
(3) انظر: ابن منظور، محمد بن منظور بن مكرم الأفريقي المصري، لسان العرب، (بيروت: دار صادر)، ج15، ص405.
(4) المصدر السابق.
(5) ابن الأثير، أبو السعادات المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث، تحقيق طاهر أحمد الزواوي ومحمود محمد الطناحي، (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج9، ص359.
(6) انظر: ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب المعروف المالكي القزويني الرازي، مقاييس اللغة، (بيروت: دار المعرفة)، ج6، ص141.
(7) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، (دمشق: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج7، ص186.
(8) المصدر السابق، ج7، ص187.
(9) الحصفكي، محمد علاء الدين بن علي بن محمد، الدر المختار، (بيروت: دار الفكر)، ج3، ص60.
(10) الْمَوْلِيّ: هو بفتح الميم، وإسكان الواو، وكسر اللام، وتشديد الياء. ويقال أيضًا: الْمُوَلَّى: بضم الميم، وفتح الواو، وتشديد اللام المفتوحة مثل الْمُصلَّى عليه. انظر: النووي، تهذيب الأسماء واللغات، ج1، ص1486.
(11) الفيروز آبادي، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الشيرازي، القاموس المحيط، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، ج1، ص263.
(12) الحصكفي، الدر المختار، ج3، ص3.
(13) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي، ولد سنة 716ﻫ وتوفي سنة 803ﻫ، فقيه مالكي وإمام جامع الزيتونة وخطيبه، في العهد الحفصي.
(14) الخطيب الشربيني، شمس الدين محمد بن أحمد الشافعي، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج12، ص16.
(15) أخرجه البخاري في الجامع المسند الصحيح، ج2، ص673، رقم1806.
(16) أخرجه المسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيرى النيسابوري في المسند الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دارإحياء التراث العربي)، ج4، ص178.
(17) ابن قدامة، أبومحمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1405ﻫ)، ج7، ص3.
(18) البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، السنن، تحقيق محمد عبد القادر عطا، (بيروت: دار الفكر)، ج2، ص214.
(19) المرغيناني، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل أبو الحسين، الهداية شرح بداية المبتدئ، (بيروت: المكتبة الإسلامية)، ص191.
(20) الخطيب الشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، ج12، ص133.
(21) أخرجه الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب في المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، (الموصل: مكتبة العلوم والحكم)، ج10، ص307، رقم10747.
(22) أخرجه البيهقي في السنن، ج2، ص418، رقم14034.
(23) أخرجه النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب في السنن، تحقيق د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1411ﻫ/1991م)، ج3، ص227، رقم5382.
(24) أخرجه النسائي في السنن، ج3، ص227، رقم5384.
(25) أخرجه الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي في الجامع الصحيح، تحقيق أحمد محمد شاكر، بيروت: (دار إحياء التراث العربي)، ج3، ص170، رقم1107.
(26) الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس، الأم، (بيروت: دار الفكر)، ج7، ص235.
(27) الماوردي، العلامة أبو الحسن، الحاوي الكبير، (بيروت: دار الفكر)، ج8، ص252.
(28) أخرجه أبو داؤد، سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني في السنن، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار الفكر)، ج2، ص191، رقم 2087.
(29) أخرجه البيهقي في السنن، ج2، ص210، رقم2481.
(30) أخرجه الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس في المسند، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ص220، رقم1092.
(31) أخرجه الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود في السنن، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (بيروت: دار المعرفة)، ج3، ص194، رقم159.
(32) الماوردي، الحاوي الكبير، ج9، ص86.
(33) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج9، ص184.
(34) أخرجه أبو داود في السنن، ج1، ص638، رقم2098.
(35) المطرزي، أبو الفتح ناصر الدين بن عبد السيدبن علي بن المطرز، المغرب في ترتيب المعرب، تحقيق محمود فاخوري وعبد الحميد مختار (حلب: مكتبة أسامة بن زيد، ط1، 1979م)، ج1، ص52.
(36) أخرجه النسائي في السنن، ج6، ص393، رقم3263.
(37) أخرجه مالك بن أنس أبو عبد الله الأصبحي في الموطأ بروية يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مصر: دار إحياء التراث العربي، د.ط.، د.ت.)، كتاب الطلاق، باب ما لا يبين من التمليك ج2، ص555، رقم1160.
(38) السرخسي، شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، المبسوط، (بيروت: دار المعرفة)، ج6، ص56.
(39) الماوردي، الحاوي الكبير، ج9، ص88.
(40) الماوردي، الحاوي الكبير، ج9، ص87.
(41) الماوردي، الحاوي الكبير، ج9، ص89.
* * *
(* ) قسم الفقه وأصوله، كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية، بالجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1433 هـ = فــــبرايـــر 2012م ، العدد : 3 ، السنة : 36