دراسات إسلامية
بقلم: الأستاذ محمد ساجد القاسمي (*)
إنَّ وسائل الإعلام الغربي من إذاعات وتلفزيونات وشبكة المعلومات الدولية لم تعد وسائل أنباء واطلاع فحسب، وإنما عادت سِلاحاً قوياً للغزو الثقافي. وهي تعبرالحدود، وتتخطّى الثغور، وتتسوَّر الجدران، وتقتحم البيوت؛ فلا إذن ولارسم ولاتصريح ، وتنقل الحياة الغربية بجميع فلسفاتها إلى أهاليها، وتسعى إلى صهرهم في بوتقتها.
كما أن الصحف والمجلات والكتب المطبوعة والمناهج التعليمية الغربية تحمل الثقافة الغربية بخيرها وشرها إلى أمم العالم، وتغيرهم داخلياً كلَّ التغيير. فهم لا يفكرون إلابعقل الغرب، ولايسمعون إلا بأذنه، ولاينظرون إلا بعينه.
قد أثَّرت هذه الحملة القوية للثقافة الغربية على الأمم كلها، فهي تكاد تفقد ثقافاتها وتنهزم أمام الغزو الثقافي. أما الأمة الإسلامية فهي لم تكن بمعزل عن تأثيرهذا الغزو في قليل وكثير، غيرأن لها إرادة رفض لكل مالاتنسجم وثوابتَها، وأنها تحمل قوةً عقديةً ومعنويةً للصمود أمام كل غارة تنال من ديانتها وعقيدتها.
فقد قال د. محمد عمارة:
«نحن الآن أمام إعلان صريح يتحدى بأنَّ القرن الحادي والعشرين هو قرن أمريكي، وبدأ التحدي بالعالم الإسلامي – والعرب بمثابة قلب هذا العالم – سعياً للسيطرة على ثرواته وإمكاناته، وأيضا لضعفه وتشرذمه، ولأنه رغم ضعفه الشديد تُوجد به إرادةُ رفضٍ لابد من كسرها».
فاستهدفت الدول الغربية الأمة الإسلامية بشكل خاص، لاسيما شبابها الذي هو أمل الغد وعدة المستقبل، فصدقت الغارة، فحاولت طمس هويته الثقافية وشخصيته الإسلامية، وصرفه عن جهة الإسلام إلى جهة أخرى، وقطع انتمائه إلي دينه وحضارته؛ ليكون فريسةً طيعةً لأهدافها ومؤامراتها، أو ريشةً تهوي بها الريح في مكان سحيق.
لقد انبهرت طوائف من الأمة الإسلامية بالحياة الغربية وأساليبها ومناهجها،فأخذوا يتبنونونها ويقلِّدونها تقليداً أعمى، ففقدوا هويتهم الثقافية وانسلخوا عن دينهم وحضارتهم ليلتحقوا بصفوف المتغربين، فلما توجَّهت الهجمات إلى دينهم وثقافتهم و حضارتهم لم يتمكنوا من الدفاع ؛ لأنهم لم يكونوا مسلمين بالمعنى الصحيح.
إنَّ التفوق المادي والعسكري للغرب، وتخلُّف العالم الإسلامي في مختلف المجالات قد مهَّد الطريق إلى الغزوات الثقافية. فاستسلموا للغزاة، وألقوا إليهم قيادهم، وأخذوا يكتبون ويتكلمون بلغات الغرب ويعتبرون ذلك معياراً للتقدم. فهم فقدوا هويتهم، وتجردوا عن شخصيتهم، وقطعوا انتماءهم لدينهم و عقيدتهم.
فلما وصل هؤلاء المتغربون إلى سدَّة الحكم استوردوا مناهج التعليم الغربي وأساليب الحياة الغربية وقاموا بتطبيقها في بلادهم، وساعدوا علي نشر الثقافة الغربية في أهاليها.
لقد تعرض الشباب المسلم والطبقة الحاكمة التي تديردفَّة البلاد للاستلاب الثقافي، وهو يعني فقدان الهوية الثقافة والشخصية الإسلامية وضعف الثقة بالنفس،فاعتاضوا عن شعورهم بالنقص الثقافة الغازية والحياة الغربية، وتركَّزت عنايتهم على استهلاك منتجات الحضارة الغربية، بدل أن يركِّزوا عنايتهم على الإبداع والابتكار، ثم توسعت هذه النزعة حتى عمت المجتمع كله، ثم عمت حتى شملت البلاد كلها، وأصبح سكان البلاد كلها عالةً على منتجات هذه الحضارة.
كما أنهم تعرَّضوا للاستلاب الحضاري،الذي من مظاهره فكرة العلمانية أي فصل الدين عن الدولة، ومظاهرانتشار الفساد والرذيلة والعنف، و ضعف الوازع الديني والخلقي، وانتشار الفاحشة في الشباب، وتعاطيهم المخدرات، وانغماسهم في الملذات، وملاحقتهم الأفلام الجنسية، والإقبال على الأدب الهابط، ورواج تجارة المنكر،والكتب التي تدعو إلي الفحشاء والمنكر، والتي تحمل الأفكار الهدامة. كما نشطت الحركات والجمعيات التبشيرية التي تبُثُّ السموم في المسلمين،والتي تنال من الإسلام ورُموزه، وتدعي بأن الإسلام يتعارض مع العلم، وأنه ليس صالحاً للبقاء في العصر، وأن اللغة العربية جامدة لاتساير مع الزمن، و أن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، وتثير النعرات القومية بين المسلمين لتنشقَّ عصاهم، وتتمزَّق وحدتهم.
ومما يضعف انتماء الشباب المسلم إلي دينه وعقيدته أن الحكومات الإسلامية ضغطت عليه ولم تتح له الفرصة للتعبير عن آرائه؛ لأن الكرامة مرتبطة بالحرية. مما أدى إلى ضياع الشباب المسلم وفقدان الشخصية والهوية الثقافقة لديه.
وقدعاملت الحكومات الإسلامية معاملة غريبة، فقامت بتكريم الإباحيين المتحررين من ربقة الدين، وحرمان المتمسكين بدينهم وعقيدتهم.
كل ذلك أوحى إلى الشباب أنهم يكرمون إذا كانوا أحرارا إباحيين. كأنه دعوة سرية إلى التحرر من ربقة الدين.
إن كون الشباب المسلم عرضةً للاستلاب الثقافي هوبسبب نقص في مناهج التعليم والتربية في العالم الإسلامي، حيث إن الشباب يدرس المناهج التعليمية المستوردة من الدول الغربية، وهي تُطَبَّقُ حرفيًا في الجامعات والكليات، دون أن يتم فيها تعديل أو تغيير وفقا للمعتقدات الإسلامية. كما أن عدداً كبيرًا من شباب الأمة يتلقون الدراسات العليا في الجامعات الغربية، فإذا عادوا إلى بلادهم كانوا سفراء للثقافة الغربية، وترجماناً لها في بلادهم.
وقد مرالمسلمون الهنود بهذه التجربة القاسية، حيث جاء«اللورد ميكالا» بخطة للتعليم في الهند على عهد الاستعمار الإنجليزي وأعلن عن خطته في البرلمان: «الغرض من وراء هذه الخطة التعليمية إخراج جيل هندي المولد والنشأة، غربي الفكرة والنزعة».
فإذا سرحنا الطرف في العالم الإسلامي وجدنا آثار الخطة التعليمية الغربية الميكالية واضحةً جليةً على الشباب المسلم، والطبقة المثقفة ثقافةً جديدةً، والطبقة الحاكمة ذات الكلمة النافذة واليد الطويلة. فهم مدينون للغرب أكثرمن دينهم وثقافتهم وحضارتهم.وانتماؤهم إلى ثقافة الغرب أعمق وأكثررسوخاً من انتمائهم إلى دينهم وعقيدتهم.
والحق أنَّ هؤلاء فقدوا هويتهم الثقافية وشخصيتهم الإسلامية ونسوا أمجاد آبائهم الأباة الغيارى الذين كانوا قد أقاموا صرح الحضارة الإسلامية ، ونسوا أنهم أشبال الأسود.
هؤلاء ثقافتهم ضئيلة، ومعرفتهم بدينهم وعقيدتهم قليلة، وفإذا وُجـِّهت الاعتراضات إلى دينهم وعقيدتهم لايستطيعون الرد عليها، ولا يستطيعون الدفاع عنه.
إن الحاجة ماسَّة إلى أن تتم إعادة النظر في المناهج التعليمية للجامعات في العالم الإسلامي، وإعادة وضعها، وتربية الشباب تربيةً دينةً، وتحصينهم بالثقافة الإسلامية، وإعادة الثقة إلى نفوسهم حتى يتمكنوا من مواجهة الغزو الثقافي.
إن أكبروأهمَّ مشكلات المسلمين اليوم هي أن معظم الطبقة الحاكمة في الدول الإسلامية والشباب المثقف قد تنكروا لدينه وحضارته، وأصيبوا بالردة الفكرية، وآمنوا بالفلسفات الغربية المادية.
وقد أوصا أمثال هؤلاء الشاعرُ الحكيمُ الظريفُ «أكبر» الإله آبادي، حيث قال:
«حذارِ حذارِ أن يقول لك أهل الحرم: إنَّك قليل الوفاء، وأما أهل الدير فإن شهَّروا أنك لاتحسن السير، فهذه تهمةٌ يمكن تحمُّلها».
وهنا يحلولي أن أسوق ماقال الشاعرالإسلامي الدكتورمحمد إقبال في إحدى قصائده مهيباً بالشباب المسلم ومذكِّراً إياه الدرس الذي نسيه:
«هل فكرت يوماً أيها الشاب المسلم! من أنت؟ ومن كانوا آباءك؟ أنت ابن أولئك الآباءالأباة الغيارى الذين امتهدوا الجزيرة العربية، الذين داسوا بأرجلهم تيجان كسرى وقيصر، الذين بنوا صرح الحضارة شامخاً غير مسبوقٍ به المثالُ، كأنَّهم أبو عذرها ، و ابن بجدتها.
كان شعارهم «الفقر فخري» يومَ كانوا سادةَ العالم، مستغنين – بماحباهم الله من المواهب الطبيعية – عن التكلف والتنطع. كانوا غيارى رغم فقرهم وقلة ذات يدهم، ينفقون ممارزقهم الله على الفقراء والمساكين، ولايغفلون عنهم لحظة.
لاتسأل ياصاح! عن أولئك المفترشين رمال الصحراء من كانوا وكيف كانوا؟ إنهم كانواسادة الدنيا وحماتها وبناتها.
لقد رزقني الله من الفصاحة والتعبيرما لوشئت أن أصورهم أصدقَ تصويروأدقه لفعلت، بيد أن صـورهم ومشاهـدهم تفوق وهمك وخيالك.
بينك وبين آبائك بون بعيد وفرق شاسع!هوايتك تقوُّل و ثرثرة، وميزتهم جهاد وعمل، أنت جامد وكسلان، وهم طوَّافون في أكناف الأرض.
لقد ضيعنا الميراث الذي ورثناه عن أسلافنا وآبائنا؛ فسقطنا من سماك العلى إلى الحضيض الأسفل.
لانذرف الدموع على حكومتنا المفقودة؛ لأنَّ أمورها دول، وهذا مماجرت به سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إنما تنفطر أكبادنا أسىً وحزنًا عندما رأينا كنوز أجدادنا ـ الكتب التي تحوي بين دفتيها جواهر العلم ودرره ـ في مكتبات لندن وإسكوريال.
إن مظاهر الرقي والتقدم التي نلمسها في جنبات أوربا يرجع فيها الفضل إلى علومنا ومعارفنا التي كانت لدينا».
فليعد إلى الشباب رشده ،ولتنهض الطبقة الحاكمة من نومها العميق، لتحل قضاياها المصيرية، ولتأخذ من رصيدها الفكري الثقافي كلما احتاج إلى رصيد علمي وفكري، ولتجنب نفسها الغزو الفكري والثقافي والإعجاب والانبهار، ولتعتمد على نفسها في بناء مستقبلها ومستقبل الأمة الإسلامية.
* * *
(*) أستاذ الأدب العربي بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1433 هـ = فــــبرايـــر 2012م ، العدد : 3 ، السنة : 36