الأدب الإسلامي
بقلم : أديب العربية الكبير معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الأربعة الخلفاء الراشدين، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربّه، في أول ظهور الإسلام، أن يعزَّ الله الإسلام بأحد العمرين، فكان «عمر بن الخطاب» موقع الاستجابة، والمختار من الله – سبحانه وتعالى – ليكون من أعضاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى مناصريه، ولم يكن يتقدمه في الصّحابة إلا «أبوبكر الصديق» – رضي الله عنه – ثاني اثنين إذ هما في الغار، والسابق في الإسلام.
كان عمر – رضي الله عنه – في «مكة» هو الصخرة التي ينكسر عليها صلف قريش، والطود الشامخ الذي يقف أمام حدتهم وعتوهم، وكان لايرى أن يهضم الحق، والإسلام حق، ولا يقبل أن يخدش العدل، وما دعا إليه الرسول عدل، فكان يسعى ألاَّ تهادن قريش، ولا يلان لها، وكان كما أمَّل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد مصادر عزة الإسلام، وزرع هيبته. كان يعمل فكرهُ، ويكد ذهنه، ويأتي بالرأي الأنضج، والقول السديد، كان ينطلق في صراحته من صرح الثقة القائم بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول الحق، ونبي الإيمان بالله؛ ينظر إلى الأمور بعمق، ويصل إلى جذورها، لا يقف عند الوشل، ولا يقتنع بالضحالة.
كان نعم الصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ونعم الوفي لرسالته بعد مماته، حمل الأمانة بعد أن تولّى الخلافة، بعد أبي بكر – رضي الله عنه – فكان خير مؤتمن عليها، وكان كفيًّا للفترة العسرة التي مر بها المجتمع، وهو يقابل نموًّا في أفراده، وتمازجاً بين طبقاته؛ من بادية تتحضر، وأمم تُسلم، ومعسكرات تقام، وتنمو، ويختبط فيها التفاعل بين قبائل شتى، منها المتناحر، ومنها المتحالف، ومن عادات تتبلور، وطبائع تتشكل؛ ومن مشاكل تظهر، وأخرى تزيد وتنمو.
لقد كان يقابل بحزم المشاكل التي تبرز بسبب هذا التفاعل، وتظهر بسبب هذا الامتزاج، بين شعوب كانت بينها حواجز عنصرية، وفوارق اجتماعية؛ وتباين في اللغات، وتضارب في الأمزجة والمشارب، بينهم المسلم حقًّا، والمسلم ظاهراً، وبينهم الحر وبينهم الرقيق، رجال ونساء، دخلوا المجتمع بسرعة فائقة، فكانت التفاتته ذات اليمين وذات الشمال بالسرعة نفسها التي يتحرك بها المجتمع الإسلامي في تطوره وتغيره.
يضاف إلى ذلك بعث الجيوش للثغور والمرابطة عليها، وتهيئة أسباب نجاحهم، وترتيب مدة بقائهم، والالتفات إلى أهلهم وذويهم ممن تركوا خلفهم، وكان أمر القبائل وبعثها للجهاد معقداً، يحتاج إلى فهم وإدراك؛ لما بينها من عداءات في الجاهلية، وترات متأصلة عندما كانت الحرب دائمةً بين القبائل لا تهدأ، فمن آخذ ومأخوذ، ومنتصر ومنهزم، وغافل ومتربص، وكان أقل حدث يخرج الضغائن من مكامنها، وأصغر هفوة تعيدها جذعة. فكان لهذا – رضي الله عنه – يحتاج إلى يقظة في اختيار القواد، ومتابعة الأمور، لايهدأ له بال، ولا تعرف الراحة إليه سبيلاً.
كان هو المحرك للأمور، وهو المحور الذي تدور عليه الدولة، يختار هذا، ويعزل هذا، ويستدعي هذا، يعاقب هذا، ويعاتب هذا، ويؤنِّب هذا، وعينه لا تغفل عما حوله وعن من حوله، الدواوين لها نظرة، والأراضي المكتسبة لها نظرة، وضمان عيش المحتاجين له نظرة.
كل شيء جديد، ويحتاج إلى وضع أسس له يسير عليها، ولابد أن تكون في حدود الإسلام، وفي إطار روحه، ولابد أن يكون العدل أساساً فيها، والنظرة البعيدة للمستقبل الذي بدت تباشيرُه، لابد أن تكون صائبةً، ولابد أن تكون محيطةً بكل الجوانب التي قد تبدو للذهن، وتبدو للمتبصر.
كان – رضي الله عنه – يستشير الصحابة، ويعطي الأمور حقها من الاهتمام، ثم بعد أن تتبلور الفكرة يقدم غير هيَّاب ولا متردد، ويتطلع إلى أن يشاركه الناس حماسه في التنفيذ المخلص المتكامل، ويدرس التجربة، ويراقبها، ويتابعها، ويعدل ما مال، ويصلح ما خرج عن القصد؛ يقظ لكل ما حوله، خاصةً الأمور المستجدّة، وما قد يسير فيه الناس خطأً، مما يصعب تعديله، إذا لم يبادر بالاصلاح في أول وقته.
لم يعط نفسه راحةً، فراحته في الإنجاز، والاطمئنان بأن أمور الناس تسير على الوجه الأكمل، لا يوفر نفسه عن أي أمر فيه نفع للجماعة أو للفرد؛ يراقب ويعسّ، ويشعر في أي نقص يحدث في جانب من جوانب المجتمع بأنه مسؤول عنه، وأنه حدث بسبب غفلته، ولا يرضى أن يحمل أحد عنه الحمل؛ لأنه يرى أنهم إذا حملوه في الدنيا فلن يحملوه في الآخرة.
بيده درة يؤدب بها من لا تكفيه الإشارة، ولا ينفع فيه الزجر، وفي قلبه رحمة تنسكب شآبيبها على الأيِّم وعلى الرضيع، وعلى اليتيم وعلى الفقير، وفي رأسه ذهن صاف يفرق به بين الأمور ما يحتاج منها إلى شدة، وما يستحق اللين؛ لم تكن حياته قالباً واحداً جامداً لا يفرق بين من يحتاج إلى الغلظة، وبين من يكفيه اللين.
ليس عنده عُقد، فهو لايخفي أمراً عن الناس إذا أقدم عليه، أو ذرعه رغماً عنه، شجاع في قول ما يدور في ذهنه، وما يحوك في صدره، وهذا فيه راحة لمن حوله؛ لأن فيه تأكيداً بانعدام الحقد عنده، وتأكيداً بأن قلبه صافٍ تجاه الناس وإن أخطؤا.
إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – شخص فذّ، أجمع من جاء بعده من رجال السياسة الإسلاميين، والأدباء، والمؤرخين، والكتَّاب، أنه لم يأت بعده مثله؛ وأصبح الفخر لأي حاكم أن يحوز أكبر عدد من الميزات التي اشتهر بها، وجوانب العبقرية التي عرفت عنه، حتى القصص المنحولة عنه لتمجيده، أو تمجيد أحد بغية مماثلته، كان يُحرَصُ فيها على إتقان إظهار جانب من جوانب تصرفه الناجح.
وسوف نحاول أن نلمس في هذه العجالة بعض القصص، والشواهد، والنصوص، التي تبرز بعض الجوانب المضيئة في حياته، وسوف نجد فعلاً أن من يحاول أن يلحق به من حكام العصور المتتالية، سوف يلهث دون أن يقارب خطوه، أو يقترب من صفِّه، ناهيك بمحاولة مسامقة كتفه.
ومن أبرز صفاته الحزم، ولعل طبيعته ساعدته على أن يستفيد من هذه الخصلة، ليجعل من مجتمعه مجتمعاً جادًّا، متصفاً بالصفات الحميدة، فلا يتكبر، ولا ينافق، ولايكذب، ولا يتزلَّف؛ وكان – رضي الله عنه – شديداً في محاربة هذه الرذائل؛ بل إنه كان يتلبب من يشعر أن عنده شبهة منها، ويزمجر ويزأر، حتى علم الناس أنه لايتغاضى عن الخطأ، ولا يغمض عينيه عن الزلل:
«سمع منشداً ينشد:
ما ساسنا مثلك يا ابن الخطاب
أبرَّ بالأقصى وبالأصحاب
بعد النبي صاحب الكتاب
فنخسه عمر وقال: أين أبوبكر، ويلك!»(1).
لقد زلَّ هذا الراجز زلةً كبرى في عيني «عمر»، وتركيزه على عمر ومدحه، أنساه «أبا بكر»، المثل الأعلى لعمر، والصديق الحميم له، ومن يحتل المنزلة الكبرى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبهه «عمر» يعنف على خطئه، وأيقظه بخشونة من نومه، ولعله لم يغب عن ذهن «عمر» ما قد يكون في خلد الشاعر من تزلف، ليس من طبيعة «عمر» أن يقبله؛ ولكنه فضل أن يكون التقريع على الثابت من الخطأ، لا على الشبهة في غيره.
هذا جانب من جوانب حزمه – رضي الله عنه – عدم السكوت على الخطأ، والتنبيه إليه بقوة، تُذَكِّر المخطئ لو جاء على حافة الزلل، وتردع من وفقه الله للاعتبار.
ومن حزمه أنه لايقبل أن يتعدى القوي على الضعيف، أو القادر على العاجز، ومن هذا الباب تدخل الحيل والتحايل، ويظن بعض الناس أنه أذكى من آخر، فيغشه، أو يدلس عليه، فعمر بالمرصاد لمثل هذا التدني في الخلق، فهو مسؤول عن تربية الناس، وهو حارس على تصرفهم، فلا يأتي منه إلا المُرْضي، وهو ما يدخل ضمن الشرع؛ وإذا كان هناك بقايا من أيام الجاهلية، فهو يقظ لها، ومتنبه، وإذا كان هناك عادة بدأت تنتقل إلى المحيط الإسلامي من مجتمع آخر، فإن عينه ناظرة، وإذا كان هناك أمر بدأ يتبلور إلى ما هو منتقد، أو يتشكل إلى شكل يخل بحق الفرد أو الجماعة، فليس عند عمر تساهل تجاهه.
والتصرف الآتي يدخل في هذا الإطار:
«قال «الغزالي» في الإحياء:
تزوج رجل على عهد «عمر بن الخطاب» – رضي الله عنه – وكان قد خضَّب لحيته، فنصل خضابه، فاستعدى عليه أهل المرأة عمر، وقالوا:
حسبناه شابًّا.
فأوجعه «عمر» ضرباً، وقال له: غررت القوم»(2).
ويسارع عمر – رضي الله عنه – ليصحح مجرى تفكير «المغيرة بن شعبة»، عندما أحس أنه سلك الطريق الذي لايريده أن يسلكه معه، ومرةً أخرى يعمد عمر إلى هذا التصرف؛ لأنه يخشى أن ينزلق المغيرة إلى مزلة الرياء، وزلق النفاق، فإن كان في الأمر رائحة النية السيئة، فإن عمر قضى على ما يوجب الإثم، والقصة كما يلي:
«قال المغيرة لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :
نحن بخير ما أبقاك الله لنا.
فقال له عمر: أنت بخير ما اتقيت الله»(3).
فـ«عمر» لايخدع بالألفاظ البَّراقة، فهو ليس في حاجة إليها، فبريق إيمانه يغطي على كل بريق مدح، بشهادة المغيرة نفسه، إذ قال عنه:
كان أفضل من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع»(4).
و«عمر» لا ينخدع بالمظاهر، وما يأتي تحتها من حيل، وما تنطوي عليه من خداع، فله من الذكاء والنباهة ما يجعله على علم بها وبأصحابها، وله من التجربة وعمقها وطولها ما يعطيه سرعةً لالتفاتة لمقابلتها بما تستحقه من المقاومة والعلاج، وهو في كل موقف من هذه المواقف يؤدب، ويضع العبرة لمن يريد أن يعتبر، والقصة الآتية تُري سرعة التفاتته إلى الداء، وسرعة علاجه له، بالدواء الناجع:
«نظر «عمر» إلى رجل مظهر للنسك، متماوت، فخفقه بالدرة، وقال: لاتمت علينا ديننا، أماتك الله!»(5).
مسكين هذا المتماوت، إنه لم يعرف «عمر»؛ ولكن الدرة عرَّفته به، إن عمر لم يتوان في خفق الرجل بها، ليوقظه من غيه، ويعيده إلى جادة الصواب، إن عمر نظر إلى الأمر، نظرةً عميقةً، إن في هذا العمل، لو تمادى الناس فيه، إماتة للدين؛ لأنها تقضي على حقيقته، وتخدش صفاءه، ويصبح الدين وسيلةً من وسائل الخداع، لكسب المال، أو الجاه، أو أي مصلحة من المصالح، أو منفعة من المنافع.
وعندما يظن شخص أنه أفقه من «عمر»، يدرك أنه مخطئ في ظنه هذا، وأنه قدَّر نفسه أكثر من قدرها، ولم يعده إلى الصواب إلا عمر، وقد سلك معه سبيلاً فيه عدد من المراحل:
المرحلة الأولى: أفهمه أن رايه خاطئ، وظنه في غير محله، وأن ما اتخذه عمر كان تصرفاً سليماً، وكانت الحجة في هذا قوية بلجاء.
المرحلة الثانية: أن اعتراضه على عمل «عمر» يوجب عقاباً بدنيًّا كاد «عمر» أن يقدم عليه، ولعله أحجم؛ لأنه يريد أن ينذر حتى يُعذَر فيما بعد لو عاد المعترض، فأدبه.
المرحلة الثالثة: لم يترك الرجل في متاهة، يتخبط في بيداء الفكر ليعرف السبب الذي أغضب «عمر»؛ بل فسر له خطأه، وأراه فداحة جرمه، والنص هكذا:
«لما أخذ عمر – رضي الله عنه – في التوجه إلى الشام، قال له رجل:
أتدع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: أدع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدرّة، حتى لا تجعل الرد على الأئمة عادةً، فيتخذها الأجلاف سنةً»(6).
ومعرفته بالناس، وتجربته في الحياة، وتبصره فيما يمر عليه، وعمق نظرته داخل نفس الإنسان، جعلته يدرك أموراً قلَّ أن يتنبَّه لها غيره، وملاحظته لها توقفه في صف علماء النفس؛ و«عمر» تكاد تكون عنده حاسة خاصة به، يعرف بها النفاق، والتقرب الرخيص؛ وقد يدرك غيره بعض هذا فيتردد في اتخاذ خطوة تجاهه، أما «عمر» فلا يتردد، بل يقدم على تقويم المعوج، وإصلاح ما فسد، ووضع الأمر في نصابه، ولعله يفكر في أنه لو تراخى في الأمر، وجعله يمر دون إصلاح، استفحل، وأصبح من العسير رده فيما بعد، أو من المستحيل إعادته إلى جادة الصواب، والقصة الآتية فيها نباهة، وفيها قوة ملاحظة، وفيها سرعة تصرف، وفيها جرأة، وفيها تأديب وتقويم:
«جلس رجل إلى عمر – رضي الله عنه – فأخذ من رأسه شيئًا، فسكت عنه، ثم صنع به ذلك يوماً آخر، فأخذ بيده وقال:
«ما أراك أخذت شيئاً».
فإذا هو كذلك.
فقال: انظروا إلى هذا صنع بي مراراً، إذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئًا فليره.
قال الحسن: نهاهم، والله أمير المؤمنين، عن الملق»(7).
قلنا إن «عمر» تكاد تكون عنده حاسة خاصة، يعرف بها مدارج النفاق الاجتماعي، وها هو «الحسن البصري» يؤكد هذا، فالرجل الذي أراد أن يتملقه رده «عمر» بالأسلوب الذي اختاره لرد أمثاله، رده بصراحة وحزم، ووقف موقف قوة إذ لم يلغ مبدأ أخذ شيء متعلق بالشخص دون علمه، مما قد يعيبه أمام مجالسيه، ومن ينظر إليه، بل وضع القاعدة، التي تسمح بالجانب المضيء، وتحول دون الجانب المظلم، و«عمر» يمشي بنور الله – سبحانه وتعالى – وليس فقط بعقله، ولقد كان حدسه في محله، إذ ظن أنه لم يَعْلق به شيء يوجب أن يتقدم أحد لأخذه، وعمر استفاد من خزنه للتجارب، فليست هذه هي المرة الأولى، التي يتقدم فيها هذا الرجل، ليقوم بهذا العمل المفتعل؛ وهذا لايعني أن الرجل سيء النية؛ ولكنه أخطأ الطريق للتودد لعمر. وبعض الخطأ تأتي منه فائدة، لقد استفدنا من رأي «عمر» في أن من أخذ شيئاً من أخيه، عليه أن يريه إياه، وما أجمله من توجيه نفسي.
وعمر يغلب عليه الحذر، وهذا لا يتأتي إلا من اليقظة، وشدة الانتباه، والتوجس لمكامن الخطر، فهو في زمنه، كمن يسير في غابة، ملتفة الأشجار، متشابكة الأغصان، كثيرة الطرق، متشابهة الجواد، ملأى بالسباع والحشرات الخطرة؛ ولهذا فلا يستغرب منه أن يلتفت التفاتة المتحفز عندما يبدر أمر، يُشتمُّ منه رائحة الازورار عن الطريق المستقيم؛ وقد يبدو الأمر عاديّاً عند أول نظرة؛ ولكنه عند التمعن يظهر منه مدخل تطور يؤدي إلى شيء خطير، فمثلاً في القصة الآتية يسمع – رضي الله عنه – دعاءاً غريباً عليه، فيدور الأمر في ذهنه: لماذا عمد إليه الداعي؟ وترك الدعاء المعتاد، ثم إذا استمر الناس يدعون بأدعية من عندهم، فما مآل الأدعية المألوفة، التي جاءت في القرآن والسنة، ورغم أن الرجل الداعي جاء بحجة قوية، وبيّنَ أن دعاءه مبني على آيات قرآنية، إلا أن «عمر» رأى فيه اقتساراً، وتكلفاً، خشي أن يؤدي بصاحبه وبالناس، إن اقتدوا به، إلى الجنوح عن منهج الإسلام المتلقى من نبي الإسلام، إلى اجتهاد واستنباط ربما أدى بعد مدة إلى خلل عظيم، والقصة كالآتي:
«سمع عمر – رضي الله عنه – رجلاً يقول:
«اللهم اجعلني من الأقلين».
فقال: ما أردت بهذا؟
قال: قوله تعالى ﴿وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾(8).
وقوله ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (9).
فقال: عليكم من الدعاء بما يعرف»(10).
«عمر» عندما يعالج أمراً ملتوياً، فإنه يأتي بالمنطق المقنع؛ لأن ما يقوله يأتي من تفكير عميق، ويفتح أبواب التصرف السليم.
والقصة التالية تُري كيف جاء تفكيره بمعان مرتبة، وأقوال مترابطة، أوصلته إلى نتيجة، لابد أنها أخجلت الرجل المتكابر، المتغطرس الذي أوقعه سوء حظه في طريق «عمر»، ومن نحس طالعه أن طرقت كلماته سمع الخليفة عمر:
«قال بكير بن بكر المغفاري، روايةً عن أبيه، عن رجل منهم يقال له فضلة:
«خرج عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يمشي، وبين يديه رجل يخطر، وهو يقول:
أنا ابن بطحاء مكة كديها فكداها.
فوقف عليه عمر، فقال:
إن يكن لك دين فلك كرم، وإن يكن لك عقل فلك مروءة، وإن يكن لك مال فلك شرف؛ وإلا فأنت والحمار واحد»(11).
ويغلي الدم في رأسه عندما يرى أمراً مزرياً، فتسابق درته غضبه، وتهوي على صاحب العمل المنتقد، وينافسها جزاؤه له بما حضر العقاب من حجر ملقى في متناول يد عمر، والقصة هكذا:
«قال عثمان بن سيار:
بينما «عمر» في دفن «زينب بنت جحش» إذ أقبل رجل من قريش مرجلاً شعره بين ممصرتين (الممصرة كبة الغزل المصبغة). فأقبل عليه «عمر» ضرباً بالدرة حتى سبقه شدًّا، وأتبعه رمياً بالحجارة. وقال:
كيف جئتنا؟ ونحن على لعب؟ أشياخ يدفنون أمهم»(12).
وتمر كلمة أمامه اعتاد الناس على التلفظ بها دون التمعن في الخطأ فيها؛ ولكن عمر – رضي الله عنه – لا يتركها تمر دون أن يعترض طريقها، ويكشف الجانب المظلم في تكوينها، ويرشد إلى القول الصائب الذي يمكن أن يتلفظ به في مكانها، والقصة كما يلي:
«سأل عمر رجلاً عن شيء، فقال:
الله أعلم.
فقال عمر: قد خزينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم، إذا سئل أحدكم عن شيء، فإن كان يعلمه قاله، وإن كان لايعلمه قال: لا علم لي بذلك»(13).
وفي رواية أخرى يقول الجاحظ:
«لقد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم، إذا سئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أدري»(14).
ولا يمر به أمر يخشى أن يؤدي إلى ضرر بالمسلمين إلا وقف عنده، يصلح ما اعتقد فيه من عوج، واللهجة التي تحمل توبيخه، أو تقريعه، أو تنبيهه، أو زجره، تتوقف على درجة الخطأ، وما يظن أنه يوصل إليه من أذى، أو ما يأتي منه من خلل، وعلى الشخص نفسه، فلكل شخص ميزان يتناسب معه، فللجاهل ميزان، وللعاقل العالم ميزان، ولمن قصد الأمر الخاطئ ميزان، ولمن وقع فيه من غير علم ميزان، وأحد المواقف التي ارتاب فيها «عمر»، ونبه إليها بطريق زجر غير مباشر القصة الآتية:
«قال ابن جريج:
رآني «عمر» وأنا متقنع، فقال:
يا أبا خالد، إن «لقمان» كان يقول: القناع بالليل ريبة، وبالنهار مذلة.
فقلت: إن «لقمان» لم يكن عليه دين»(15).
لقد صدق «لقمان» في قوله، وصدق «عمر» في ظنه، وهل هناك ذلة أكبر من ذلة الدين؟
وحزم عمر، وعدله، لا يقصر دون كبار الصحابة – رضي الله عنهم – . ولعله في حرصه على عدم إخراجهم من هذا الحيز يعطي العدل حقه من الاحترام والقوة، وهم معه في هذا، يساعدونه على أن يبقى الإسلام في المعاملات مضيئ الداخل، مشع الخارج، ولهذا لما شكى رجل عليَّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – فرغم ثقته في علي، ورقي درجته في العدل في مجتمعه، لم يتوان أن يسأل عليًّا عما ادعاه الرجل، والقصة كما يلي:
«قال ابن الأعرابي:
كان «عمر بن الخطاب» يطوف بالبيت، فقال له رجل:
يا أمير المؤمنين، إن «عليًّا» لطمني.
فوقف «عمر» إلى أن وافى علي، فقال له عمر:
يا أبا الحسن، ألطمت هذا؟
قال: نعم.
قال: ولِمَ؟
قال: لأنني رأيته نظر إلى حرم المسلمين في الطواف.
فقال: أحسنت.
ثم أقبل على الملطوم، فقال:
وقعت عليك عين من عيون الله»(16).
إن نظرة علي – رضي الله عنه – مثل نظرة عمر – رضي الله عنه – للأمور، وهو صادق فيما يقول، ولم يحتج عمر إلا أن يسمع قوله، فلم يسأله بيِّنةً، أو شهوداً؛ بل أخذ قوله وحكم به على الرجل، واعتبر أن عليًّا موفق فيما فعل، وإنما هو يمشي بنور الله فيما فعل، وأنه يساعد «عمر» في عمله في منع المنكر، وحماية الناس من أذى جوارح الناس، سواءاً كانت الجارية يداً، أو لساناً، أو عيناً.
فما عمله «عمر» هو حزم وعدل.
ويقفز حزم «عمر» إلى الأمام، ويغلبه الحذر من الناس، لما يعرفه عنهم، من تجربته الطويلة لهم، فينبه رجلاً لم يكن بدرجته من الحذر، إلى ما غفل عنه، فيدل قوله على عمق في التفكير، ومعرفة بما في داخل الأمور، ولايكتفي بالظاهر؛ لأن الظاهر قد يخدع، وقد يوتى فيه المرء من مأمنه، وفي القصة الآتية توضيح لهذا:
«قال رجل لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – :
إن فلاناً رجل صدق.
قال: سافرت معه؟
قال: لا.
قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟
قال: لا.
قال: فهل ائتمنته على شيء؟
قال: لا.
قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد»(17).
لقد وضع عمر – رضي الله عنه – ثلاثة أمور لوزن أمانة الرجل، كل أمر فيه محك كاف ليبين الصدق من الكذب، وبدونها لا يصح الحكم على أحد من مظهر تقواه، وقد جاء رجل خيّر من نسل «عمر»، فمر بتجربة ينطبق عليها ما قاله عمر، وكاد «عمر بن عبد العزيز» أن يقع في الشرك الذي حذر منه جده، والقصة كما يلي:
«وفد بلال بن أبي بردة على عمر بن عبد العزيز بخناصرة (بليدة من أعمال حلب) فسدك بسارية المسجد يصلي، فقال «عمر» للعلاء بن المغيرة:
إن يكن سر هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراقين بلا مدافع.
فقال العلاء: أنا آتيك بخبره.
فقال له: قد عرفت مكاني من أمير المؤمنين، فإن أشرت بك على ولاية العراق ما تجعل لي؟
قال: عمالتي سنة، وهي عشرون ألف ألف.
قال: فاكتب لي.
فكتب له. فلما رأه «عمر» كتب إلى والي الكوفة:
أما بعد، فإن بلالاً غرنا في الله، فكدنا نغتر، ثم سبكناه فوجدناه خبثاً كله، فلا تستعن على شيء من عملك بأحد من آل أبي موسى»(18).
مجمل القصة ينطبق على ما استشهدنا بها عليه، وإن كانت القصة لاتخلو من الضعف، وفيها ما يوحى بالنحل، إذ كيف عرف «بلال» أن هذه غلة العراق، ثم هل يعقل أن يعطيه كل حقه منها، و«عمر بن عبد العزيز» رجل عدل، فلا يأخذ جميع ذرية أبي موسى بجرم واحد منهم. وبلال له أعداء كثيرون، ولهم معه قصص كثيرة فيها غمز ولمز، ولا يستعبد أنهم هم الذين نحلوه هذه.
* * *
الهوامش:
الأمتاع والمؤانسة: 3/103.
تحفة العروس: 107.
البصائر والذخائر: 1/15.
عيون الأخبار: 1/394. في البصائر ورد النص هكذا: «كان له عقل يمنعه من أن يُخدَع، ودين يمنعه من أن يخَدَع، 7/158.
البصائر: 6/38، ربيع الأبرار: 1/825.
ربيع الأبرار: 1/662.
البصائر: 6/139، ربيع الأبرار: 2/303.
سورة هود، الآية: 40.
سورة سبأ، الآية: 13.
ربيع الأبرار: 2/223، البيان والتبيين: 3/279، الحيوان: 1/338.
الإشراف: 211.
الإشراب: 215.
الحيوان: 1/338.
البيان والتبيين: 1/261.
عيون الأخبار: 1/363.
البصائر: 3/69.
عيون الأخبار: 3/178.
ربيع الأبرار: 1/794.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1433 هـ = فــــبرايـــر 2012م ، العدد : 3 ، السنة : 36