كلمــــة العــــــدد
شهدت الأيام الأخيرة من شهر أبريل 2011م = جمادى الأولى 1432هـ حدثًا كبيرًا أثلج صدور المسلمين في كل مكان، وهو المصالحة بين «فتح» و«حماس». وذلك لأنهم شهدوا على مدى ما يقارب أربع سنوات خلافات شديدة بينهما؛ بل صدامات مسلحة، واعتقالات متبادلة، مما ظلّ يـُـدْمِي قلوبهم، ويدمع عيونهم، ويجرح مشاعرهم؛ إذ كانوا يرون أن أشقّاء الهدف والمصير يتقاتلون، بدلَ أن يقاتلوا مُتَّحِدِين عدوَّهم المشترك، عدوَّ الله ورسوله: الصهاينةَ الخبثاءَ الذين أقاموا في أرض فلسطين دولة غير شرعيّة، وتَصَالَح جميعُ القوى المعادية للإسلام على دعمهم والوقوف بجانبهم بكل أسلوب متاح.
جرى التوقيعُ على هذه المصالحة في حفل أقيم في العاصمة المصرية: القاهرة، التي شهدت عشرات الجلسات حول هذا الموضوع الهامّ، التي دُرِسَت فيها أوراقٌ ومقترحاتٌ عديدة، كان من بينها الورقة المصرية التي تمت صياغتُها عام 2009م. وبما أنها كانت في مجملها تقف بجانب «فتح» وتؤيد رؤية «محمود عباس» فيما يتعلق بالحلّ، فظلت حركة «حماس» تمتنع عن التوقيع عليها؛ ولكنه حدث أخيرًا ما دَفعَها – حماس – إلى التوقيع عليها والرضا بالمصالحة، وهو أنّ وفودًا فلسطينية من «حماس» و«فتح» وفصائل فلسطينية أخرى ومستقلين لا يَنْتَمُون إلى فصيلة ذات هويّة واصلت زيارة القاهرة بعد سفوط «مبارك». وهذه الوفودُ دَرَسَتْ الوضع عن إخلاص وصدق نية مع القيادة المصرية الجديدة مُمَثَّلَةً في المجلس الأعلى للقوات المسلحة و وزارة الخارجية وإدارة المخابرات العامّة حول إعادة استئناف الحوارات الفلسطينية ودفع الأطراف إلى الجلسات المشتركة للتوصل إلى تفاهم واتفاق فلسطيني بعدما طال الخلاف والتفرق والضياع.
لكن هذه الزيارات المخلصة والدعوات الملحة ظلّت تُقَابَل بردّ مصري فحواه: رغم أن مصر حريصة على التفاهم الفلسطيني، ومعنيّة عنايةً قصوى بالقضية الفلسطينية، ومُتَمَنِّيَة من أعماق القلب أن تتصافى الأطراف الفلسطينية كلُّها؛ ولكنها في وضعها الحالي الذي أسفرت عنه الثورة الأخيرة مشغولة للغاية بملفّات داخليّة كثيرة؛ فهي عاجزة عن التفرغ لرعاية وإدارة الحوار الفلسطيني بالشكل المطلوب الذي كان عليه في السابق؛ ولكن الإخوة الفلسطينيين إذا أرادوا التحاور المباشر في القاهرة دونما رعاية مصرية مباشرة، فإنها – مصر – مستعدة لاستضافتهم، وتوفير كل ما يحتاجون إليه لإدارة الحوار والتوصل إلى اتفاق مثمر دائم بنّاء، ستدعمه – مصر – وترعاه وتمهد السبيل لإنجازه على أرض الواقع.
وهنا اقترح بعضُ المخلصين على القيادة المصريّة أن تكتفي هي باستضافة حوار غير مُعْلَن بين «فتح» و«حماس» يحضره المصريون يتم فيه دراسة المواقف ومراجعة الأفكار والآراء وتلمّس المخرج من الأزمة. وفي ضوء هذا الاقتراح وصل إلى القاهرة في أواخر أبريل 2011م – جمادى الأولى 1432هـ وفد من «فتح» وآخر من «حماس» وعندما بدأ الحوار فوجئ الحضور بأن حركة «فتح» تراجعت عن جميع تحفَّظاتها على مقترحات حركة «حماس» وأن «فتح» وافقت على جميع المطالب التي عرضتها «حماس».
إنّ قبول «فتح» بمقترحات «حماس» أزال العائق الأساسي الذي كان يعترض سبيلَ المصالحة. وهنا جرت صياغة ملحق جديد أضيف إلى الورقة المصريّة، وتضمّن الملحقُ كلَّ النقاط التي كانت تريدها «حماس» والتي من أجلها ظلت ترفض التوقيع على الورقة المصرية. على كل فوقَّعت «حماس» على الورقة المصرية القديمة، بينما وقعت «فتح» على ورقة التفاهمات الجديدة التي اعتُبِرَت ملحقًا أساسيًّا ومكملاً للورقة المصريّة.
والملحق الجديد كان محتواه: 1 – الانتخابات: اتفقت الحركتان على تشكيل لجنة الانتخابات بالاتفاق بين الفصائل، على أن يصدر الرئيس مرسومًا بذٰلك، تُجرىٰ الانتخابات بعد سنة منْ توقيع الاتفاق، وَتشمل الانتخابات التشريعي، ورئاسة السّلطة، وَالمجلس الوطني بالتزامن. تشكيل محكمةٍ انتخابيةٍ على الشكل التالي: تسمي الفصائل 12 قاضيًا بالتوافقِ، وَيختار الرئيسُ منهم ثمانيةً، وَيصدر بذٰلك مرسومٌ رئاسيٌ. 2- المنظمة: اِتَّفَقَتْ الحركتان على تشكيل إطار قيادي للمرحلة الانتقالية غير قابلٍ للتعطيل، وَبما لاَ يتعارض مع صلاحيات اللجنة التنفيذية. 3- الأمن: تشكيل لجنة عليا مشتركة للأمنِ بالتعاونِ وَالتوافق. 4 – الحكومة: تُشَكَّل الحكومة الجديدة من الكفاءات، وَيتم تسمية رئيسها وَأعضائها بالتوافق. ومهمتها تهيئة الأجواءِ للانتخاباتِ المقبلة، والإشراف على تحقيق المصالحة الداخلية، والإعمار، ومتابعة وثيقة الاتفاق وَتوحيد السلطة، وَمعالجة ملف الجمعيات. 5 – التشريعي: اِتفقت الحركتان على إعادة تفعيل المجلس التشريعي وفق القانون.
اكّد المعلّقون وَالمحلّلون السياسيون وَالخُـــبراءُ بقضايا العالمين الإسلامي والعربي وَالقضية الفلسطينية بالذات والمُعْطَيَات السياسية الحاضرة أَنّ هناك أجواءًا سياسيةً ساهمت في تقريب وِجهات النظر، وَعَمِلَتْ علىٰ تجاوز كثير من العقبات. ومن بين أهم العوامل السياسية: 1 – لِكل منْ فتح وحماس أوراق قوة وَعناصر ضعفٍ، والطرفانِ قادران على التأثير في أعمالِ الآخر. 2 – الحاجة الفلسطينية العامة الملحة والمطالبة بإنهاء الخلافات، وَكان آخرها الحملة الشعبية لإنهاء الانقسام. 3 – وصول التسوية إلى أُفقٍ مسدودٍ، وشعور «محمود عباس» بعدم جدية «نتنياهو»في المفاوضات. 4 – سقوطُ نظام «حسني مبارك» و وجود قيادة مصرية جديدة تريد الانفتاح والتفاهم مع جميع الفلسطينيين والتعامل معهم على قدر المساواة، بعيدًا عن حالة الاصطفاف لصالح طرف، كما كان يفعل «مبارك» واللواء «عمر سليمان». 5 – الاضطرابات الحاصلة في أرجاء الوطن العربي، وحاجة الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال وخارجه في حماية أنفسهم وقضيتهم في هذه المرحلة الحرجة. 6 – حاجة «محمود عباس» لموقف فلسطيني قويّ وهو يتوجّه إلى مجلس الأمن في شهر سبتمبر القادم 2011م لعرض مشروع دولة فلسطينية. 7 – رغبة واشنطن والدول الأوربية في تمرير تهدئة فلسطينية في هذه الأوقات المتوترة في المنطقة، واحتمال بروز ضغط أمريكي على الكيان الصهيوني.
لكن وجود قيادة مصرية جديدة كان من أهم العوامل التي أدت دورًا مهمًا في إنهاء الخلافات الفلسطينية؛ حيث إن بروز توجّه سياسي مصريّ جديد في التعاطي مع الموضوع الفلسطيني كان أحد مُعْطَيَات تكرار زيارة الوفود الفلسطينية المخلصة التي احترقت ألماً على الوضع الفلسطيني المأساوي والتي زارت مصر متفائلة، يحدوها الأمل والرجاء في نصر الله كلَّ من ينصره، إن الله قوي عزيز.
وكل من اجتمع بالقيادة المصرية الجديدة وَجَدَ أنها جَدَّدت خطابها تجاه أهميّة المصالحة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وأنها مع المقاومة الفلسطينية المشروعة، وضدّ الحصار على قطاع غزة، وأنها مع فتح المعابر بالكامل.
وفعلاً قد فتحت هي معبر «رفح» الشهير بدءًا من يوم الجمعة: 23/ جمادى الأخرى 1432هـ = 27/ مايو 2011م وسيظل المعبر مفتوحاً منذ الساعة التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً، ولا يحتاج الفلسطينيون للدخول منه إلى مصر إلى الحصول على التأشيرة وإلى القيام بالإجراءات القانونية المعقدة؛ حيث إن الفلسطينيين الذين لم يبلغوا 18 عاماً من عمرهم أو تجاوزوا 49 عامًا لايحتاجون إلى الإجراءات القانونية للدخول إلى مصر. أما النساء الفلسطينيات فكلهن مُعْفَيَات من الإجراءات القانونية. إن فتح معبر «رفح» يؤكد أن مصر الجديدة بقيادتها الانتقالية قد غيرت التوجه الذي كان ينتهجه «مبارك» من الوقوف السافر بجانب الصهاينة وفرض الحصار على الإخوة الفلسطينيين، الأمر الذي كان يكرهه الشعب المصري أشدّ الكراهية، ولقد كان التوجه السلبي الذي كان يتبنّاه «مبارك» ضدّ الفلسطينيين أحد عوامل الغضب ضدّه وأحد العوامل المفجرة للثورة الشعبية العارمة التي أطاحت بحكمه. ولاشك أن هذه القرارات التي تنصبّ في صالح القضية الفلسطينية، والتي يتخذها القيادة المصرية الانتقالية الحاليّة لن تسرّ الصهاينة وراعيتها الكبيرة القويّة أمريكا، بل أثارت حفيظتهما بشكل لايقدره إلا الخبراء العليمون بنفسيّتهما الشيطانية التي تملي عليهما تحطيم كل محاولة تنفع الإسلام والمسلمين والعرب عن قريب أو بعيد.
وحقًّا إن المحللين يتأكدون أن القيادة المصرية الجديدة تريد بتوفيق الله مالم ترده قط القيادات المصرية السابقة. ومن جانب آخر إن قيادة كل من «حماس» و«فتح» فهمت حاجة مصر إلى مصالحة فلسطينية، تساعد القاهرةَ على التوجّه نحو علاقة مصرية فلسطينية جديدة، وتخفف من الضغط الصهيوني أو الدوليّ أي الأمريكي – لأن أمريكا تجعل كل خطوة ضد العرب والمسلمين والإسلام دوليّة وإن لم تكن دوليّة في الواقع، صدورًا عن ثقتها وتباهيها بكونها القوة العظمى الوحيدة – المرتقب الذي سيرفض اي فتح للمعابر أو اي إعمار فلسطيني، طالما لاتوجد حكومة فلسطينية مقبولة.
من هنا يرى الخبراء والمحللون أن المصالحة الفلسطينية الحالية لن تَفْشَل كالمصالحات السابقة؛ بل إنها ستنجح كل النجاح إن شاء الله؛ لكنهم يقترحون خطوات يجب تنفيذها لضمان استمرارية النجاح، وهي: 1 – تشكيل حكومة جديدة قوية فاعلة. 2 – إنهاء ملفّ الاعتقالات وطرد الموظفين وإغلاق الجمعيات الخيرية. 3 – البدء بإعمار قطاع غزة وفتح المعابر. 4 – تشكيل قيادة فلسطينية وبدء اجتماعاتها وكسر حاجز الخلافات السابقة بينها. 5 – وبدء عمل اللجان المشرفة على إنهاء الانقسام، مثل ملف الضحايا والتعذيب والطرد الوظيفي ودمج الوزارات وإعادة تفعيل المجلس التشريعي وتصحيح المراسيم الصادرة من الطرفين.
فالفشل مُسْتَبْعد – ولله الحمد – لاسيما لأن المناخ الدولي في صالح هذه المصالحة، فهذا المناخ يرحب بها، كما أن المناخ العربي يؤيدها تأييدًا مطلقًا، والموقف الأمريكي الحاليّ يبدو مهادنًا لها نظرًا للظروف التي تمرّ بها على ساحة الحرب على الإرهاب، التي المُؤَشِّراتُ بشأنها ليست متفائلة؛ بل إنها تميل ميلاً كبيرًا إلى التشاؤم.
لكن هناك مخاوف واقعية من قبل الدولة الصهيونية كالسابق؛ حيث إنها بذلت محاولات لنسف المصالحة، كما أنها تقدر على إثارة مشكلات مستقبلاً، من خلال الدخول المباشر على الخط للعرقلة، ومن خلال شن عدوان واسع على «غزة» أو شن حملــة اعتقالات في «الضفـة» أو خداع «محمود عباس» مرة أخرى بمفاوضات مع «نتنياهو» أو إصرار «محمود عباس» على العودة لنهج التفرد والاحتكار؛ ولكن هذه المخاوف ستتكسر بإذن الله على صخرة رغبة قوية من قبل الفلسطينيين جميعًا في المصالحـة، و وجود حارس قوي للاتفاق من خــلال الدور المصـريّ الصـادق النية في الوقت الحاضر.
مجمل القول إنّ المصالحة الفلسطينية التي أتت بتوفيق خاص من الله الذي بفضله وحده هيأ لها المناخ الملائم يجب تقديرها واحترامها ورعايتها واستثمارها وجعلها تؤتي أكلها، وتُفَوِّت الفرصة على العدوّ المتربص بالفلسطينيين الدوائر، أهلكه الله بقدرته.
وهي حقًّا الأمنيةُ الحلوة اللذيذة العزيزة التي عاشها الفلسطينيون منذ وقت طويل؛ لأن اتحاد الصف، ورأب الصدع، وترتيب البيت من الداخل، وتجاوز الخلافات، هو أول خطوة على الطريق نحو مقاومة العدوّ، واستعادة الحق المغصوب، واسترداد الأراضي المحتلة، وإفشال جميع المؤامرات التي ينسجها العدوّ لسدّ الطريق وعرقلته وزرع الأشواك بل الصخور دون الغاية المنشودة. «وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ»(يوسف/21).
(تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الأحد والإثنين 2-3/ رجب 1432هـ = 5-6/يونيو2011م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35