المناظرات قوة العارضة، ومقارعة الحجة بالحجة، والفكرة بالفكرة، في التراث العربي والإسلامي

دراسات إسلاميــــــــــة

بقلم: صلاح عبد الستار محمد الشهاوي(*)

       المناظرات أو علم الجدل أو علم مقارنة الأديان – حسب المُصْطَلَح الأكثر شيوعًا في الوقت الحاضر – إنما هي علم لفن المجادلة ومقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة.

       وقد سار العقل المسلم – في عصور تَأَلُّقه الحافلة – وفق هذا المنهج؛ حيث كان يحقق النصر تلو النصر للإسلام وحضارته وأمته.

       وعبر أدوات هذا المنهج الفريد في مقارعة الحجة بالحجة وعرض الدليل على الدليل، اهتدت أقوام واعتنق الدين الحق أناس كثيرون من أهل الكتاب، ومن أجناس ومعتقدات مختلفة!

       والمناظرات من الأجوبة المُسكتة التي كانت تقوم في الأزمنة السابقة بين رجال الدين من الفقهاء والعلماء وأهل اللغة والمتكلمين والتي تقوم بصورة أو بأخرى في عصرنا الحديث مع اختلاف في الوجهة والموضوع. وكان بعض المناظرين يوصفون بأنهم نار تحرق. وذلك لقوة عارضتهم وإفحاماتهم في مناظرتهم. ويعد القرن الثالث الهجري عصر بروز هذا الفن وإن كان موجودًا بصورة أو بأخرى في القرنين الأول والثاني الهجري، فما زالت مناظرات: العلاف، وابن قتيبيه، والجاحظ، والنظام، وغيرهم من علماء القرن الثالث الهجري ومجادلتهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى تكشف عن درايتهم العميقة بالعهد القديم – التوراة – كما تظهر معرفتهم بالأناجيل سندًا محتوى. هكذا سار العقل المسلم في عصور تألقه الحافل – وفق هذا المنهج – مقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة – حيث حقق النصر للإسلام وحضارته وأمته وعبر أدوات هذا المنهج الفريد – كالحوار والمناظرة والمجادلة العلمية – اهتدت أقوام، واعتنق الدين الحق أناس كثيرون من أهل الكتاب ومن أجناس ومعتقدات مختلفة.

نماذج مختلفة من علم الجدل – فن المناظرة – على مر العصور الإسلامية

       يعتبر الإمام الباقلاني واحدًا من العقول الجبّارة في فن المناظرة والجدل ومقارعة بالحجة وبسط الأدلة وفق مقتضيات المنطق العقلي…

       يقول عنه صاحب «وفيات الأعيان» هو القاضي أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني البصري، الملقب بشيخ  السنة ولسان الأمة: كان حسب المنطق عظيم الجدل صاحب الأسفار النفيسة «إعجاز القرآن»، «كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الكفر والعناد»، «المقدمات في أصول الديانات». أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم لمناظرة القساوسة والمطارنة أمام الجمهور المسيحي.

       يقول الباقلاني: أخبر الملك بمقدمنا فأرسل إلينا من يلقانا وأدخلنا عليه، فقال الملك لترجمانه: أبلغه أن صاحبكم أخبرنا في كتابه أنك لسان المسلمين والمناظر عنهم وأنا أشتهي أن أعرف ذلك منك كما ذكروه عنك فقلت: إذا أذن الملك، فقال الملك: ما تقول في المسيح عيسى ابن مريم؟ قلت روح القدس وكلمته وعبده ونبيه ورسوله، كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. وتلوت عليه النص. فقال: يا مسلم تقولون! المسيح عبد. فقلت: نعم كذا نقول وبه ندين. قال ولا تقولون: إنه ابن الله. قلت: معاذ الله: «ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله» إنكم لتقولون قولاً عظيماً، فإذا جعلتم المسيح ابن الله فمن أبوه وأخوه وجده وعمه وخاله؟ وعددت عليه الأقارب فتحير وقال: يا مسلم! العبد يخلق ويحيى ويميت ويبريء الأكمهَ والأبرص. فقلت: لا يقدر العبد على ذلك، وإنما ذلك كله من فعل الباري – عز وجل-. قال: وكيف يكون المسيح عبدًا لله وخلقًا من خلقه وقد أتى بهذه الآيات وفعل ذلك كله؟. قلت: معاذ الله ما أحيا المسيح الموتى ولا أبرأ الأكمهَ والأبرص. فتحير وقل صبره وقال: يا مسلم! تذكر هذا مع اشتهاره في الخلق وأخذ الناس له بالقبول؟. فقلت: ما قال أحد من أهل الفقه والمعرفة: إن الأنبياء – عليهم السلام – يفعلون المعجزات من ذاتهم، وإنما هو شيء يفعله الله – تعالى – على أيديهم تصديقًا لهم يجري مجرى الشهادة. ثم اردفت قائلاً: لم اتحد اللاهوت بالناسوت؟ فقال: أراد أن ينجى الناس من الهلاك. فقلت: وهل درى بأنه يقتل ويصلب ويفعل به كذا ولم يأمن من اليهود؟ فإن قلت: إنه لم يدر ما أراد اليهود بطل أن يكون إلٰهًا، إذا بطل أن يكون إلٰهًا، بطل أن يكون ابنًا. وإن قلت: قد درى ودخل في هذا الأمر على بصيرة فليس بحكيم؛ لأن الحكمة تمنع من التعرض للبلاء فهبت. ثم قال الباقلاني لبعض المطارنة: كيف أنت؟ وكيف الأهل والأولاد؟ فقال له الملك مجيبًا عن المطارنة، ذكر من أرسلك يعني عضد الدولة في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء الملة! أما علمت أننا ننزه هؤلاء عن الأهل والولد؟ فقال الباقلاني: أنتم لا تنزهون الله – سبحانه وتعالى – عن الأهل والأولاد وتنزهون هؤلاء؟ فكأن هؤلاء عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله – سبحانه وتعالى-؟ فَسُقِطَ في أيديهم ولم يردوا جوابًا. ثم قال له الملك: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها؟ فقال الباقلاني: هما اثنتان قيل فيهما ما قيل: زوج نبينا ومريم ابنة عمران، فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها وكل قد برأها الله – تعالى – مما رُمِيَتْ به فانقطع الملك ولم يحر جوابًا.

       ومما يروى عنه في هذا السياق أنه ناظر – ذات يوم – كبيرَ بطارقة النصارى، فكان هذا الحوار الرائع الماتع:

       قال البطريق: هل انشق القمر لنبيكم حقًّا؟

       قال الباقلاني: نعم.

       قال البطريق: فلماذا لم يَرَه إلا أهلُ مكة؟

       قال الباقلاني: يا هذا، هل نزلت المائدة على المسيح حقًّا؟

       قال البطريق: نعم.

       فقال له الباقلاني: فلماذا لم يرها أحدٌ منكم؟ نحن قد آمنّا بأن المائدة نزلت أيها البطريق؛ لأن الله تعالى أخبرنا بذلك في القرآن الكريم، فآمنا به كل من عند ربنا.

       قال البرطيق للباقلاني: أوما سمعت عن عائشة زوج نبيكم؟

       – أراد اللئيم أن يطعن أم المؤمنين – رضي الله عنها – على غرار ما أثاره رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه المعاصرون!!

       وردّ الباقلاني في شموخ: أيها البطريق! هما امرأتان في التاريخ: امرأة لم تتزوج ومع ذلك ولدت، وامرأة تزوجت ولم تنجب.. ونحن برأنا التي لم تتزوج وأنجبت ولدًا؛ لأن الله برأها وقال لها: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِيْ لِرَبِّكِ وَاسْجُدِيْ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِيْنَ» (آل عمران: 43) وأنتم اتهمتم أم المؤمنين التي تزوجت ولم تنجب، والله برأها من فوق سبع سماوات وقال: «وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِيْنَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلٰئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيْمٌ» (النور:26).

       فسكت البطريق هنيهة، ثم عاد يقول أو على الأصح (يهذي): نبينا أطهر من نبيكم.. عيسى أطهر من محمد.. قال الباقلاني وهو متعجب مما سمع: و لِمَ؟

       قال البطريق: لأن المسيح لم يتزوج ومحمد تزوج.

       وسأل الباقلاني البطريق: أمتزوج أنت أيها البطريق؟

       قال البطريق: لا.. لأن الزواج نجاسة.

       فقال له الإمام الباقلاني: كيف تقول: إن الزواج نجاسة، ولم تتزوج أنت، ومع ذلك قلتم: إن الله تزوج بمريم؟.

       فهل أنت أطهر أم الله العلي القدير أيها البطريق. أنت لم تتزوج بقصد الطهارة! ومع ذلك قلتم: إن الله قد تزوج.. أأنت أطهر أم الله؟!!

       وهنا ما كان من البطريق إلا أن صرخ قائلاً وهو يرتعش من هول الحقيقة البازغة: يا إمام! والله لقد قلت حقًّا ونطقت صدقًا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

       هذا هو الباقلاني صاحب الأسفار النفيسة – إعجاز القرآن – كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الكفر والعناد – كشف الأسرار في الرد على الباطنية – المقدمات في أصول الديانات – .. وهذا هو منهجه في الانتصار للحق ولعقيدة التوحيد الخالص، وهذا هو المنهج ذاته الذي التزمه العقل المسلم عبر حقب إيناع الحضارة الإسلامية السمحة وتألق الفكر الإسلامي الوضّاء.

       * ومن ذلك أيضًا أن «شارمان» أسر أحد الأمراء العرب وأدخل عليه وهو بين فرسانه وجاشيته والموائد موضوعه والكل يأكل فصاح فيه إما أن ترتد عن دينك وإما أن تقتل، فقال الأمير العربي: بل أوثر القتل، فقال «شارلمان»: ولماذا؟ قال ستعرف بعد برهة. من هؤلاء الأشخاص الضخام الذين يلبسون الفراء ويجلسون على مائدتك؟. فقال شارلمان: إنهم مطارنة وقساوسة، فسأله الأمير العربي ومن هؤلاء النحاف الذين يلبسون السواد؟ فأجابهم: إنهم رهبان يصلّون من أجلنا. فسأله مرةً أخرى، ومن هؤلاء الذين يجلسون على الأرض ويلقى لهم فتات المائدة؟ فأجاب شارلمان: إنهم الفقراء، فصاح الأمير العربي أهكذا تعامل الفقراء، إن هذا مخالف للدين والشرف والمروءة، ولا يرضى ربك الذي تعبده والآن لن أتنصر أبدًا وهذه سمة دينك وإني أفضل الموت.

       * من ذلك أيضاً هذه المناظرة الرائعة التي جرت بين راهب وأبي حنيفة.

       قيل إن راهبًا طلب من علماء المسلمين الرد على بعض المسائل، فأجابه الإمام أبوحنيفة رضي الله عنه. قال الراهب: ماذا قبل الله؟ قال أبو حنيفة: هل تحسن العدد؟. الراهب نعم. أبو حنيفة: ماذا قبل الواحد؟ الراهب لاشيء قبله، أبو حنيفة: إذا كان الواحد الفاني لاشيء قبله فالله سبحانه وتعالى لاشيء قبله، الراهب: في أية جهة يكون وجه الله؟ أبو حنيفة: إذا أوقدت السراج ففي أية جهة يكون وجهه؟ الراهب: ذلك نور يملأ المكان وليس له وجهة. أبو حنيفة: إذا كان النور الزائل الحادث لا جهة له، فوجه ربي – جل وعلا – منزه عن الجهة والمكان. الراهب: ماذا يفعل ربك الآن؟. أبوحنيفة: يرفع أقوامًا ويخفض آخرين، وكل يوم هو في شأن. فخجل الراهب وانصرف.

       * ومن المناظرات قصة الشاب المسلم الأسير – واصل – الذي وقع في يد أحد المرتدين من الدين الإسلامي والذي كوفئ بأن أصبح أميرَ إمارة، والقصة واقعية ومن حقائق تاريخ حضارتنا الرائدة.

       قال التاريخ: سيق الأسرى إلى قصر الأمير، وكانت وجوههم ساهمة، طَبَعَها الحزن بمعالمه الكئيبة، وكيف لا يألمون لهذا المصير السيئ وهم يخترقون بلادَ الروم منكسرين لا منتصرين كما كانوا يأملون؟!.

       ونظروا إلى زميلهم – واصل – الشاب الفقيه الذي ترك دراستَه بدمشق واكتتب في هذه الغزوة الفاشلة، كان – واصل – يبدو غير مكترث بما حدث، فقد استمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من سرية ترجع غانمة إلا تعجلت أكثر أجرها، وما من سرية تروع وتحرج إلا استوفت أجرها كله».. ولكنّ واصلاً كان مكتئبًا لأمر واحد، فهو يعلم أن الأمير بشيرًا الذي يساقون إلى قصره كان مسلماً ثم ارتد، وأن ثمن ردته هذه الإمارة العريضة التي يتطاول فيها!

       واستعرض بشير الأسرى وكانوا ثلاثين، سألهم عن دينهم، وجادلهم في بعض عقائده، فلما جاء دور – واصل – أبى أن يرد عليه بشيء، فقال له: ما لك لا تجيبني؟! فقال: لست مجيبك اليوم بشيء، فقال: إني سائلك غدًا فأعد لي جوابًا، وجاء الغد، وأدخل – واصل – على الأمير الذي حمد الله وأثنى عليه ثم بادره الحديث قائلاً: عجبًا لكم معشر المسلمين! حيث تكفرون بألوهية عيسى وتقولون: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (آل عمران: 59)، وما يستوي عبد ورب!.

       ورأى – واصل – أن يستأمن لنفسه قبل أن يجيب، فاستوثق لحياته قدر ما يدافع عن عقيدته، فلما اطمأن قال لمحدثه: أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنتَ الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعزّ وأجلّ مما وصفتَ، وأما ما ذكرتَ من صفة هذين الرجلين عيسى وآدم فقد أسأت وأخطأت! ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويبولان ويتغوطان، وينامان ويستيقظان ويفرحان ويحزنان؟!

       قال بشير: بلى.

       قال واصل: فلمَ فرقتَ بينهما؟

       وردّ بشير: لأن لعيسى روحين اثنين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم الغيوب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرت من أحوال الناس!.

       – روحان اثنان في جسد واحد؟!.

       قال بشير: نعم.

       قال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف مكان الضعيفة؟

       – قاتلك الله! تعلم أو لا تعلم ماذا تريد؟

       أريد إنْ كانت علم، فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشري وآفاته؟! وإن كانت لا تعلم فكيف يطلع الغيب من يجهل مجاوره في جسد؟!

       فسكت بشير محتارًا!!

       واستطرد واصل: برضا عيسى أم بسخطه قدّستم الصليب؟!

       قال بشير: هذه من تلك.. ماذا تريد؟

       وأجاب واصل: إن كان بسخطه، فما أنتم بعبيد يعطون ربهم ما سأل، وإلا فبالله كيف تعبدون ما لا يدفع عن نفسه العدوان؟!

       قال بشير: أراك رجلاً قد تعلمت الكلاَمَ فسآتيك بمن يخزيك الله على يديه، وأمر باستدعاء رجل من علماء القسس ليجادل هذا – الشيطان – فلما حضر القس قال له بشير: هذا العربي له رأي وعقل وأصل في قومه، وأحب أن يدخل ديننا! فأقبل القس على «واصل» يحتفي به ويمتدحه، ثم قال: غدًا أغمسك في المعمودية غمسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك!!.

       قال واصل: فما هذه المعمودية؟!

       – ماء مقدس .

       – من قدّسه؟!

       – أناوالأساقفة من قبلي.

       – فهل كانت لكم ذنوب وخطايا؟ أم أنت وهم مبرؤون من النقص؟

       – كلنا فعلنا الخطايا وليس هناك مبرأ إلا يسوع.

       – فكيف يقدّس الماء من لم يقدس نفسه؟!

       وهنا اضطرب القس وحار ثم استدرك: إنها سنّة عيسى بن مريم غطسه يوحنا بالأردن ثم مسح له رأسه ودعا له بالبركة!

       فقال واصل: أو احتاج عيسى إلى تعميد يوحنا وأن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا إذن يوحنا فهو خير لكم من عيسى.

       فسكت القس واغتاظ بشير وامتلأ صدره على هذا القس، فصاح به كالمهووس: قم! دعوتك لتنصّره (تجعله نصرانيًا) فإذا أنت قد أسلمتَ!..

       وانتشر خبر الأسير الفقيه، ومحاوراته الطريفة بسرعة فائقة، حتى بلغ الملك وكبير بطارقته، فطلبه إليه وسأله: ما الذي بلغني عنك من انتقاصك لديني ووقيعتك فيه؟

       قال واصل: إني لم أجد بدًّا من الدفاع عن ديني.

       فتدخل كبير البطارقة محاولاً بوقاره وهيمنته الروحية أن ينهي هذا الأمر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدًا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتةً: هل للخبر الأعظم من زوجة وولد؟

       وعرف الملك على الفور مثار التساؤل فقال له: صه.. هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد!

       فقال واصل برباطة جأش ويقين فياض: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا، وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن.. عجبًا! تعبدون عيسى؛ لأنه لا أب له، فلمَ لا تضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان، أو عبدتموه؛ لأنه أحيا الموتى؟ فعندكم في الإنجيل أن – حزقيل – مر بميت فأحياه وتكلم معه، فضموه كذلك إلى شركة الآلهة! أو أنكم عبدتموه؛ لأنه أراكم المعجزات؟ فهذا – يوشع – رد الشمس إلى فلكها إذ كادت تغرب، أو عبدتموه؛ لأنه عرج في السماوات؟ فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار، أو أنكم…

       فقاطعه البطريق: اِخْسَأْ يا شيطان.. هذا التجديف أحلّ القتل!

       فقال واصل: إني أسير.. وثم ورائي منْ إذا بلغه خبري لم يمنعه مسلككم معي من أن يثأر لي.. أيها الملك: سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التي في كنائسكم هل تجدون لها في الإنجيل مبررًا؟ فإن كانت في الإنجيل فلا كلام لنا، وإلا فما أشبهكم بالوثنيين.

       قال الملك: وقد أخذته دهشة وانجلت عن بصره غشاوة – : صدقتَ قد يعقل ما تقول!

       وفي هذه الأثناء استشاط القس وامتلأ غضبًا فقال في حالة هستيرية: هذا شيطان من شياطين العرب، أخرجوه من حيث جاء، لا تقطر من دمه قطرة في بلادنا فتفسد علينا ديننا!!

       وعاد – واصل – ومن معه من الأسرى، وقد بدّلوا انكسارهم بانتصار.

       * ومن المناظرات ما رواه الأستاذ عبد الغفور الأسود عندما كان مبعوثاً للأزهر في ألمانيا من أنه ذات يوم ناقشه أستاذ كبير من أساتذة جامعة برلين بألمانيا في مسألة تحريم لحم الخنزير قائلاً: إن فقهاء المسلمين يقولون: إن لحم الخنزير يصيب من يأكله بأمراض منها مرض الدودة الشريطية وعقب قائلاً: إن دور الطبيب البيطري هو أن يعدم الحيوان المريض قبل أكله سواء أكان خنزير أم بقرًا؟ وهذه الأمراض كما تصيب الخنزير تصيب البقر وخلافه، فأجابه الأستاذ عبد الغفور قائلاً: يا دكتور! هذا كلام من لا يعرف عن ديننا شيئًا، إن ديننا الإسلامي يرسي لبنة الإيمان في قلب المسلم، فإن ثبتت في موقعها من القلب بين اللبنات الأخرى بعد ذلك يأتي الإيمان وعماد الإيمان هو الطاعة فإذا قال الله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِه» (المائدة:3).

       فهذا أمر منه – تعالى -، وعلى المسلم أن يطيع ربه وينفذ أوامره دون مناقشة، ولو جرب الإنسان جرعةً واحدةً من نهر طاعة الله لابتعد عن القلق والشقاء وشعر بالسعادة الحقيقية، إن الله تعالى يحب من عباده أن يطيعوه فيما أمر، فهذا الدليل على صدق إيمانهم وقوة عقيدتهم ويكره – سبحانه – عصيان عباده له ويعاقبهم عليه، حتى ولو كانوا أبناء وقد عاقب سبحانه سيدنا آدم عندما عصى ربه وأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، أجل أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض ليعود وذريته إلى الجنة ثانية طائعين إن لم ينسوا الدرس. أما ما ذكره بعض العلماء بحثًا عن الحكمة في منع لحم الخنزير هو اجتهاد منهم غير أن الحكمة هي الطاعة لما أمر به الله فحسب وقبل أن تؤمن بحرمة لحم الخنزير عليك أن تعلن إسلامك ويأتي بعده الإيمان بالتعاليم الإسلامية وهي دليل إيمانك أو عدمه.

       ومن المناظرات أيضًا ما كان يدور بين أصحاب المذاهب المختلفة كالمعتزلة والشافعية وغيرهم من ذلك ما جرى بين إسحاق الأسفرائيني أحد شيوخ الشافعية وبين القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة ومرجعهم في زمانه. قال السبكي في طبقاته قال عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة: «سبحان من تنزه عن الفحشاء». فقال أبو إسحاق: «أيعصى ربنا قهرًا». فقال عبد الجبار: «أفرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟». فقال أبو إسحاق: «إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فيحصى برحمته من يشاء». فانقطع عبد الجبار.

       وبعد أن طوفنا في هذه النماذج المشرقة من الجدل وقوة المنطق والحجة، بقى أن نذكر أن لهذا العلم ولشيوخه وأئمته في العصر الحديث – وإن كانت المناظرات تأخذ منحنى كتابي أحيانًا – دورهم في الرد والدفاع عن الإسلام والمسلمين وما مناظرات الشيخ أحمد ديدات والشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي والشيخ الباقوري رحمهم الله إلا صور مشرقة وحقائق تاريخية بارزة وما علينا إلا مراجعة آثار هؤلاء المدافعين والمنافحين عن الإسلام والمسلمين بطلب المزيد من الاستفادة جزى الله كل ما نطق بالحق ودحض الباطل خير الجزاء.

       إن الحاجة اليوم ماسة بالنسبة للمسلمين لإعادة استنطاق هذا العلم وصياغته: علم الجدل ومقارنة الأديان واستخلاص منهجية أخلاقية وعلمية متميزة في الحوار والمناظرة، في ضوء معطيات وإمكانات المنجزات العلمية المعاصرة.. والخبرة الإسلامية الفكرية والعلمية بمختلف تطلعاتها واهتماماتها مطالبة – في المرحلة الراهنة – بإلحاح – بإعادة تكييف الوسائل والمناهج للاستفادة من تراثنا المشرق، وحقائق التاريخ في هذا المجال، قصد إعادة الحضور والموقع الفاعل للعقيدة الإسلامية، وصياغة دور جديد للإسلام والمسلمين في عالم لا يقبل إلا الذكاء والواقعية والاستغلال الأمثل للخبرات والإمكانات والمهارات.

والله ولي التوفيق.


(*)      دمشيت – طنطا – مصر. تليفون محمول : 0109356970

           salahalshehawy@yahoo.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان  1432هـ = يوليو 2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35

Related Posts