دراسات إسلاميــــــــــة
بقلم : أديب العربية معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
هذه حالات نقص العدد الذي طلب ليجلو الموقف إلى واحد فقط، ولهذه الحالات حالات مخالفة تمامًا، فقد لايكتفي أحد الطرفين بالشرط، ويقف عند العدد المشترط؛ ولكنه يطلب المزيد؛ لأنه وجد لذة في التعداد، أو دفعته ضرورة ملحة أن يستزيد من العدد، وهناك قصة طريفة تصلح مثلاً على هذا، وهي قصة قديمة تُروٰى في مجتمعنا، وتعكس بعض المعتقد في الجن، وما يقومون به من مشاركة مع الإِنس.
«حل ضيف ثقيل على رجل فلاح وامرأته، وأطال مدة بقائه دون سبب، ولم يكن لهم من المكان ما يحتمل أكثر من اثنين، فكان سببًا في التفرقة بين الزوج والزوجة في المنام والمعيشة، والفلاح شاب حديث الزوج.
بحث الفلاح مع زوجته الأمر، واتفقا على أنه لا بد من حيلة يقتلعان بها الأذى، ويوسعان من هذا الضيق، وأوصلهما تفكيرهما في ضوء ما يعرفانه عن طمع الضيف، وحبه لنفسه، وتفضيله لها على الآخرين، حتى فيما يخصهم، إلى أن يوهمه الزوج بأنه رأى فيما يرى النائم أن في البئر المهجورة في آخر المزرعة كنزًا ثمينًا، وأنه فكر في استخراجه، ويود من ضيفه أن يساعده وله ربع الكنز؛ أما هو (الزوج) فسوف يقوم بالمخاطرة الكبرى، وينزل إلى البئر، مستعدًا لمواجهة «الراصود» الذي يحرس الكنز، وقد يكون ثعبانًا ضخمًا سامًا قاتلاً، أما الضيف فما عليه إلا أن يمسك الحبل في أعلى البئر، ويساعده على النزول والطلوع.
فتحرك الجشع في نفس الضيف، وغلبه الطمع، فقال – وهذا ما يريده الفلاح – أنا الذي سوف أنزل إلى البئر، وأخرج الكنز منها، ولي ثلاثة أرباعه، ولك الربع، فوافق الفلاح.
فذهب واشترى حبلاً قويًا، وأدلى الضيف في البئر، وفجأة سمع صراخاً مدويًا في جنبات البئر، شق الظلام، وأزعج العصافير المستكنة بين طي البئر؛ فنظر، فوجد ضيفه البشع قد أمسك بجنّي يستجير وستغيث، فلما أطل الفلاح في البئر قال له الجني أنقذني من هذا الوحش، ولك أن استجيب لخمس رغبات تطلبها مني. فأخذ الفلاح يقنع ضيفه بأنهما لم يأتيا هنا ليضيعا الوقت في صيد الجن، وإنما أتيا لأخذ الكنز.
فاقتنع الضيف، وأطلق سراح الجني، فصعد الجني إلى أعلى، وكان الضيف قد وصل حينئذ إلى أسفل البئر، وفي القاع تركه الفلاح، وهذا هو المطلوب. ورفع الحبل، وبدأ يتشاور مع الجني في خمس الرغبات التي اشترطها، ورأيا أن تتركز على كسب المال، ليستغني الفلاح، فاتفقا على أن يذهبا إلى المدينة القريبة، وأن يدخل الجنّي في بنات بعض الموسرين، ويلابسهن، ولا يخرج إلا إذا قرأ عليه الفلاح، بعد أن يكون اشترط مبلغًا مجزيًا.
وصلا إلى المديْنة فلابس الجني أول بنت، فأحضروا من اعتادوا أن يحضروه من القراء؛ ولكن الجني لم يخرج، فعرض الفلاح عليهم أن يحاول، فوافقوا، فقرأ على البنت، وخرج الجني، وشفيت البنت، ودفع المبلغ المشترط.
ثم أخذ يخرج من واحدة إلى أخرى حتى استكمل خمس دخلات، وكان الفلاح في كل مرة يضاعف المبلغ عدة مرات، حيث إن الجني كان يرتقي في اختياره في كل مرة، حتى بلغ في الخامسة أعلى مبلغ يحلم به، مما لم ير بعده مبلغاً أعلى منه.
ثم جمع ثروته وعاد أدراجه إلى مزرعته وزوجته؛ ولكن الجني أعجبته اللعبة، وطاب له التنقل في الملابسة، فاختار ابنة أغنى رجل في المدينة، وكان في الأصل قاطع طريق، جمع ثروة عظيمة قبل أن يستقر في هذه المدينة؛ ولكنه بقي فاتكاً مخيفًا متسلطاً، فبحثوا عن الفلاح فلم يجدوه، فأرسلوا خلفه كوكبة من الخيل، فردوه.
ثم بدأ القراءة على الجني، فأبى الجني أن يخرج، وقال له: إن الشرط شرط، وقد وفيت لك بشرطي، ولا طريق لك عليّ.
فلما أظهر الفلاح عجزه أصر والد البنت على أن عليه أن يزيح هذا الجني وإلا أزاح رأسه من فوق كتفيه، فأظلمت الدنيا أمامه، وركبه الحزن، وصغرت ثروته أمام احتمال الموت، وندم على ما أقدم عليه من أول الأمر.
ثم عاد إلى الجني يستعطفه، ويذكره أنه سبق أن أنقذه، وأن المروءة تقتضيه أن يراعي ظرفه، فينقذه من هذه الورطة التي أوقعه فيها، وإن البنات كثر، وإنه يمكنه أن يختار واحدةً ليس لأبيها سلطة، ولا به جبروت، خاصةً وأنه لا يطلب مالاً، وإنما يتلذذ بهواية سخيفة، لا يقدم عليها إلا الأطفال أو ناقصي العقل، وأن متعته من هذه اللعبة لا تعادل ألمه هو في ما يتهدده من خطر، وليس أشد من القتل.
إلا إن الجني كان في صمم، وكأنه لا يسمع، وكأن ما يقال ليس فيه منطق، وأخذ يردد قوله إنه وفي بشرطه، وأنه لا طريق له عليه، وإن من حقه الآن أن يفعل ما يريد، وفي لحظة يأس تذكر الفلاح الحل، لقد انفتح الباب المغلق له، فصاح بالجني: «تخرج وإلا».
فرد الجني هازئًا: «وإلا ماذا؟».
فقال الفلاح بلهجة تهديد واثق فيه: «وإلا ذهبت، وأحضرت لك ضيفي».
فارتعش الجني، وشرق بريقه، وقال: «بل أخرج ليس من البنت فقط، ولكن من المدينة كلها».
وهكذا نجح «البرنجي سبب»؛ ولكنه السبب الذي زاد عن العدد، ولم يكن أول العدد إلا فيما استعمل له.
ونعود مرة ثانية إلى الأسباب الرئيسة في بعض قصص تراثنا، وما أكثرها.
وتساءل رجل بسذاجة عن أمر، فجاءه الرد دامغًا، حمله تفسير رئيس واحد، ومن سمع جواب السؤال لم يحتج إلى زيادة؛ لأن الجواب كافٍ:
«قال رجل لخالد بن صفوان:
ما لي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع علي النوم؟
قال: لأنك حمار في مسلاخ (جلد) إنسان».(1)
لقد كان خالد قاسيًا في رده؛ ولكن لعل له عذرًا في هذا، فقد يكون هذا السائل له أسئلة سابقة مماثلة، فامتلأ صدر خالد منه، فأفرج ما به عليه بهذه الطريقة.
وكثير من الناس يجلب له سؤاله الساذج الأذى، ويفاجأ بالجواب، بعد أن يفوت الأوان لتدارك أذاه. وقد يقع في هذا أذكى الناس؛ ولكن هذا قليل، والأغلب يأتي من السذّج أمثال الذي سأل الإِمام أبي حنيفة السؤال المشهور الذي انتهى بالجواب المشهور: «يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي».
وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يختار سببًا رئيسًا يكتشف به خيانة عماله، فهو لا يطلب تقارير مطولة، ولا يرسل جواسيس مختفية، ولا يبث عيونًا مترصدة، ولكن الماء والطين هما كل ما يحتاج ليعرف ما عليه ماله.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«لي على كل خائن أمينان: الماء والطين»(2).
كل شي يمكن إخفاءه إذا كان منقولاً، فمن السهل أن يخبأ الذهب، ومن غير الصعب أن تخفى الفضة، ومن الممكن أن تحجب الرياش، ويُستر الأثاث، إلا البيت؛ فإنه لايمكن تغطيته بغطاء يخفيه عن الأعين، والبيت عندما يبنيه العامل فهو المفتش الأمين للخليفة عمر، هو المفتش الذي لايخون ولا يدلس ولا يرائي، لغته فصيحة، وصوته عالٍ، لا تخطئه العين، ولا يحتجب عن القلب.
يذهب العامل حيث نصِّب، فقيرًا مدقعًا، لا يملك أجار بيته إلا بالجهد والتعب، ولا يضمن قوت يومه يوميًا، فإذا مر به سنة أو ما إليها، «أبت الدراهم إلا أن تظهر أعناقها». أصبح له بيت، فإذا سئل من أين له هذا؟ أجاب بأن بعضًا من هذا هدايا أهديت له، وعطايا أتحف بها، ووفرًا من رزقه، فيقال عن الهدايا: أفلا جلست في بيت أمك ورأيت هل تأتيك الهدايا؟
وهكذا يقف بطينهِ البيت شاهدًا على انحراف العامل، وتقف المزرعة وما استنبط فيها من ماء شاهدًا آخر، والاثنان يكونان الشاهد الرئيس الذي تنبه له عمر، وخدم عمر:
«مر عمر ببناء بآجر وجص فقال: لمن هذه؟
قالوا: لفلان.
فقال: تأبى الدراهم إلا أن تخرج أعناقها، وشاطره ماله»(3).
والأمر الرئيس يأتي باتفاق قوم عليه دون أن يعلموا أنهم أجمعوا عليه؛ ولكنهم اتفقوا لأن مجرى تفكيرهم سلك طريقًا واحدًا، وكان طريقًا صادقًا ومنطقًا، ولهذا كانت إصابة الهدف واحدة:
«قال الحجاج لجلسائه:
ليثبت كل منكم في رقعة أطيب الطعام عنده.
ففعلوا؛ فإذا في الرقاع كلها الزبد والتمر»(4).
وعندما يقول الحجاج لابن القرّيّة:
«من أعقل الناس»، فإن المتوقع أن يعدد العقال، فيوضع على رأسهم أعقلهم، موسوماً بأن هذا ما جعله السبب الرئيس في الاختيار والتقرير؛ ولهذا جاء الجواب محددًا:
«من يحسن المداراة مع أهل زمانه»(5).
ولو حاولت أن تختار سببًا آخر، أو تعريفًا يقلع هذا من مكانه، ويثبت غيره فيه لما استطعت.
ورغم أن هناك من قال: إن ابن القرّية لا وجود له، وإنما هو اسم مخترع، علقت عليه أقوال كثيرة، فما يهمنا هو هذه الأقوال، فبجانب القول السابق الرئيس وهو مختصر، هناك قول يسير على نمطه، ويمثل جوابًا رئيسًا مختصرًا:
«قال الحجاج لابن القرّيّة:
أيّ الثمار أشهى؟
قال: الولد، وهو من نخل الجنة»(6).
ولكن هذا النمط من الاكتفاء بالجواب الرئيس ليس دائمًا هو المسيطر على الإِجابات التي يتطلع إليها سائل مثل الحجاج، فقد يأتي الجواب من عاقل تغري إجابته الصادقة، وحكمته البليغة، بطلب مزيد من الأسباب، ولا يكتفَى بالرئيس منها ليسمع ما هو محكم صادق:
قال الحجاج لخُريم الناعم:
ما النعمة؟
فقال: الأمن؛ فإني رأيت الخائف لا ينتفع بعيش.
قال: زدني!
قال: الصحة، فإني رأيت السقيم لا ينتفع بعيش.
قال: زدني!
قال: الغِنَى، فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش.
قال: زدني!
قال: الشباب، فإني رأيت الهرم لا ينتفع بعيش.
قال: زدني!
قال: لا أجد مزيدًا»(7).
ولذة الإِجابة أغرت الحجاج بأن يطلب المزيد، فلا يكتفي بالأمن تعريفًا للنعمة، وقد استحلب الباقي استحلاباً حتى لم يبق في الضرع نقطة واحدة، وأعلن المسؤول ألاّ مزيد.
وخلافاً للمدفعي، الذي أستعد بعشرة أسباب منعته من الرمي، واكتفى مُكَلِّمهُ بأول سبب، ما فعله أعرابي بتعريف النعمة دون أن يطلب منه ذلك، ولم يجد من يكتفي بأول تعريف، بل أعطى ثلاثة التعاريف التي ذكرها في مستهل حديثه؛ وأردفها بدعاء، ولولا أن الدعاء خاتمة الحديث لأمكنه أن يزيد:
«حضر أعرابيّ وليمة، فرأى نعمة، فقال:
النعم ثلاث: نعمة في حال كونها نعمة، ونعمة ترجى مستقبله، ونعمة تأتي غير محتسبة؛ فأدام الله لك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترجوه، وتفضل عليك بما لاتحتسبه»(8).
ويأتي سبب رئيس واحد بصيغة جواب مجلجل، على أمر جلل، فيكون سببًا رئيسًا كافيًا، بإقرار صاحبه بأنه لايملك غيره، وليس هناك سواه، وأنه يقب وحده شامخًا، يقف بما جيء به له، ولا يحتاج إلى معضد، أو سبب آخر يقف بجانبه، فيسنده:
«طلق أبو الخِندف امرأته أم الخندف، فقالت له:
يا أبا الخندف، طلقتني بعد خمسين سنة؟!
فقال: ما لك عندي ذنب غيره»(9).
إما أن يكون أبو الخندف قد شرب المرّ من أم الخندف، وعيل صبره، ونَفَدَ تحمله، فعمد إلى أقرب الحلال إلى الله، فأطلق سهمه، ورمى نبله، أو أن أبا الخندف طلق بطرًا، ولم يرع العشرة، ولم يهتم بصحبة خمسين عامًا هي مدة العِشرة الزوجية بينهما. وبدهشة أم الخندف نشعر أن أبا الخندف ظالم، وكان بإمكانه – إن كان جيبه يسمح – أن يتزوج أخرى، ونحن نضمن له أن هذا سوف يحقق هدفه من الإِغاظة، وإيذاء شعور أم الخندف أذى كافيًا بالغًا. ولكن قد يكون أبا الخندف في حالة تستوجب أن يكشف على عقله، فقد يكون في «قُفْشِ رأسه» ما يبرر فعله، ويبرئ ساحته، ويفيه من اللوم!
* * *
الهوامش:
- عيون الأخبار: 2/136.
- عيون الأخبار: 1/431.
- عيون الأخبار: 1/431.
- ربيع الأبرار: 2/728.
- ربيع الأبرار: 3/142.
- ربيع الأبرار: 3/545.
- ربيع الأبرار: 4/46.
- تمام المتون: 39.
- الامتاع والمؤانسة: 3/183.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1432هـ = يونيو 2011م ، العدد : 7 ، السنة : 35