الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ «حكيم الأمة» المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
الحجر الأسود مقياس، كلُّ من يمسّه يتبدَّ لونُه الأصليّ، وتَتَعَرَّ حالتُه التي كانت خافية عن الناس. فإن كان مطبوعًا على الحسنات، يَعُدْ أشدّ إحسانًا وصلاحًا من ذي قبل، وإن كانت طينته معجونةً بالسيئات، يَعُدْ أشدّ إساءة من ذي قبل. وكثيرُ من الناس يبدون صلحاء بظاهرهم؛ ولكن الأصل يظهر بعد وضع شيء على المِحَكِّ.
وربما تقول أنت – أيها المخاطب – حسنًا فعلتَ إذ أبديتَ هذه الحقيقة؛ حيث إني لن أتوجّه لأداء الحج. لا، يا أخي! رُحْ لأداء الحج؛ ولكن حَاوِلْ أن تعود إبريزًا بل إكسيرًا. والطريقُ إلى ذلك سهلٌ أيُّ سهل، وهو أن تتصل بكيميائي روحانيّ يغيرك من داخلك وهو الرجل الربّاني الذي يكون كحجر الفلاسفة الذي لا يمسّ الحديد إلاّ ويحوّله ذهبًا خالصًا، وقد يجوز أن يُشَكّ في كون حجر الفلاسفة ذا مفعول معروف به من أنه يحول الحديد إبريزًا؛ ولكن الرجال الربانيين يتمتعون بميزة مُمُيِّزَة وهي أنهم يغسلون أدران المتصلين بهم الخلقيّة؛ فعليك أن تدعم علاقتك مع صالح من الصلحاء الأتقياء قبل أن ترحل للحج، لأن صحبته تجعلك تُوَفَّق للتوبة النصوح التي إذا حَظِيتَ بها ثم توجهتَ للحج، يكون حجّك مبرورًا، وتعود مُوَفَّقًا للأعمال الصالحة من أكثر ذي قبل. ولا أقول أن تدخل في دائرة مريدي الصلحاء وأتباعهم، فذلك ليس بواجب، وإنما الواجب أن تتصل بهم عن الحبّ والإعجاب، وتعيش في صحبتهم أيامًا.
إذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فلماذا يحدث عكس ذلك ؟
كثير من الناس يطرحون هذا السؤال؛ ولكنهم لا ينظرون في حالة الصلاة التي يصلّونها. أيها السادة! إنّ مثل صلاتكم مثل رجل يقول لكم: إني أحتاج إلى إنسان، فتقدمون إليه مُقْعَدًا مضغة من اللحم، وإذا قال لكم: ماذا سنصنع بهذا المقعد؟ أفهل هذا إنسان؟ فتقولون ردًّا عليه: إنك قد طلبتَ إنسانًا، فقدّمتُ إليك الإنسانَ الذي لك أن تلاحظه فتجده حيوانًا ناطقًا. نعم هذا الإنسان إنسان في اصطلاح المنطق؛ ولكنه ليس إنسانًا يصلح أن يُوظَّف لأداء خدمة من الخدمات.
حالة صلواتنا
تلك هي حالُ صلواتنا التي هي صلوات بالاسم، ولكنها ليس لها يدان ولا رجلان ولا فم ولا رأس ولا عينان، وقد يكون لها يدان؛ ولكنها تكون هي مقطوعة الرأس، وقد يكون لها الرأس؛ ولكنها تكون كفيفة البصر؛ من هنا يعدّ البصيرون بالحقائق أمثال هذه الصلوات لاغية، كالمقعد الذي يكون بمنزلة مضغة من اللحم فاقد الجوارح؛ ولكن الفقهاء قالوا بصحتها أي تحقّقها نظرًا إلى أنه إذا أفتوا بعدم تحققها، فإن الناس يتركونها بتاتًا، فالوجود إذًا خير من العدم؛ لكن حكمهم بصحتها مثل قولنا في شأن المقعد: إنه حيوان ناطق فهو إنسان، فكذلك صلواتنا صلوات في المصطلح؛ ولكنها ليست صلوات في الحقيقة.
صورة الصلاة أيضًا لاتخلو من الفائدة
ولكن ذلك لايعني أن تترك مثلَ هذه الصلاة باعتبارك إيّاها لاغيةً؛ لأنها ليست غير مُجْدِيَة من كل الوجوه؛ لأنها خير من تركها تمامًا؛ لأنّ الله تعالى بفضله قد يقبل صورةَ الصلاةَ أيضًا، وقد ضرب الشيخ الروميّ (جلال الدين الروميّ الرجل الرباني الشهير 604-672هـ = 1207-1273م) مثلاً عجيبًا لقبول مثل هذه الصلاة لدى الله تعالى، في بيته الفارسي الذي معناه بالعربية: إن هذا القبول يرجع إلى رحمتك كصلاة المستحاضة التي قال العلماء يجوزاها شرعًا، على حين إن جريان دمها كان مستمرًا خلال الصلاة كذلك؛ فهي نجسة في الواقع، ولكن صلاتها تُقْبَل بمجرد رحمة الله تعالى. وكذلك جميع صلواتنا التي هي لاغية في الواقع؛ ولكنها قد تُقْبَل من قبل الله بفضل رحمته ولطفه، كما أن صلواتنا هذه اللاغية في الواقع تتدرج وسيلةً إلى الصلاة الحقيقية الصحيحة، كبعض الطلاب المهملين الذين لا يقرؤن الدروس على الأساتذة عن تحضير مسبق، ولا يراجعونها بعد تلقّيها من الأساتذة، فقراءتُهم للدروس مثل عدم قراءتهم؛ ولكن الأساتذة العطوفين لا يفصلونها من المدرسة، ظنًّا منهم أنهم وإن كانوا مهملين الآن؛ ولكنهم قد يعودون بشكل تدريجيّ طلابًا مجتهدين؛ فقد يحدث أن الطلاب الذين يكونون مهملين في البداية، و يستمرون في الدراسة في إهمال، يعودون مجدّين، ونظرًا إلى هذه الأسباب حكم الفقهاء بصحة الصلوات التي تكون خالية من روحها. والحقُّ أن وجود الفقهاء رحمة للأمة؛ فلا تعدّوا صلواتكم لاغية تمامًا؛ ولكن لا تظنوها كاملة أيضًا.
وهنا تحققت الإجابة عن السؤال المطروح، وهو أن الله تعالى صَرَّح أن فعل الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ ولكننا لا نجد هذا الفعل في صلواتنا، لماذا؟ والإجابة تعني أن صلواتنا ليست كاملة، والفعل الذي صرح به تعالى هو شأن الصلاة الكاملة غير المنقوصة، ولذلك لا نلمس هذا التأثير في صلواتنا، إننا نسيء أداء صلواتنا، كما يسيء بعضُ الناس استخدامَ الأدوية. على أن النهي عن الفحشاء والمنكر يترتب على صلواتنا على قدرها في الضعف وعدم الصحة في الواقع، فلو كانت كاملة لنهتنا عن كامل الفحشاء والمنكر بشكل كامل، ولكنها ناقصة فهي تنهانا عن بعض الفحشاء والمنكر، ولا يمكن إنكارُ ذلك؛ لأن التجارب تؤكد أن المُصَلِّي لا يرتكب من الذنوب ما يرتكبه غير المُصَلِّي، ومن أتفه منافعها – الصلاة – أنّ كافرًا لا يقصد مُصَلِّيًا ليضلِّه في شيء من الأشياء، والكفرة لا يتعرضون له بشيء؛ لأنهم يرونه متقيدًا بالدين متصلبًا فيه، فيقطعون منه الرجاء ويتأكدون أنه لن ينخدع بتضليلهم.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس – أبريل 2011م ، العدد : 4 – 5 ، السنة : 35