الفكر الإسلامي
بقلم: الأستاذ زهير كحالة
قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُوْنَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة/35.
المسكن، كما يقول الإمام القرطبي رحمه الله، هو محل السكون، والسكن هو كل ما سكن إليه. وعلى ذلك حين يسكن المرء مكاناً ما فإنه يتراح إليه، ويجد السكون فيه. وقد جعل القرآن هذا المعنى النفسي اللطيف أشف وأرق حين نقله من نطاق الجماد إلى نطاق الإنسان، ومن ملابسة الأجساد إلى مخالطة الأرواح، فجعل الزوجة سكناً للرجل، في قوله تعالى: ﴿وَمن آياته ان خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ الروم/21.
والأزواج، كما يقول الامام ابن القيم رحمه الله، لفظ يشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران، وان الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان، لهذا لاتتحقق السعادة الزوجية إلا بمشاكلة الزوجين، فالطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات.
وقد كان من بديع صنع الله وحكمته أن وضع آدم موضع التكريم.
أولاً: حين أسجد له ملائكته أجمعين، ووضعه موضع الحفاوة.
ثانيًا: حين أسكنه جنته يتبوأ منها حيث يشاء، ومعه زوجه وسكنه وشطر نفسه وإلف قلبه وأباحهما كل ما في الجنة من ثمار طيبة، يأكلان منها أكلاً رغدًا واسعًا عنيئًا طيبًا. وقد عرفنا من القرآن أن الله علم آدم الأسماء كلها، فآدم إذن يعلم كل ما في الجنة من مسميات، ويدرك كل ما تحفل به من معطيات، ثم ساءت حكمة الله – بعد أن غذى عقله بالعلم أن يقويه بالإرادة، فأباحه كل ما في الجنة من نعيم إلا شجرةً معينةً اختصها الله بالتحريم، فنهى آدم وزوجه عن مداناتها والأكل منها وإلا اقترفا معصيةً، وانحرفا عن طريق مرضاة الله الذي غمرهما بفضله العميم، وكانا بحق ظالمين لنفسيهما بإتيانهما ما يخل بالكرامة والنعيم.
وعلى ذلك يكون المغزى التربوي الذي يمكننا استنباطه من هذه الآية القرآنية الكريمة ما يلي:
أولاً: إن أول عهد المرء بدخول مكان يراد فيه تكريمه وإسعاده، ينبغي أن يقترن بالمشاعر الهانيئة، والانتطباعات السارة، فلا يجوز للمربين الذين يريدون اجتذاب الأطفال إلى دور الحضانة أو الروضة أو المدرسة مثلاً أن يظهروا هذه الدور بمظهر لايبتعث السرور، أو يضنوا علينا بالتزيين والتجميل بما يجعلها زاخرةً بآيات الحسن والجمال، تبهج النفس وتقر العين. فكم من طفل جيء به إلى إحدى رياض الأطفال، فلما عاينها اشمأزت نفسه، وارتد طرفه، ودفع بأمه وأبيه يريد العودة إلى مسكنه حيث لم تسكن نفسه إلى الروضة أو الحضانة التي كان يزينها له أبواه، ويرددان على مسمعه أنها دار جميلة تحفل بدواعي الهناء، وتفيض بأسباب السرور. والمتربي إن لم يسكن معنوياً إلى شيء، يرفض مادياً أي شيء. فلا يستطيع المربي إطعام طفل نافر أو رافض إلا إذا سكن وارتاح. كما لايتسطيع المربي تغذية عقله إلا إذا سكن وتفتح. كذلك لا يستطيع المربي توجيه سلوكه إلا إذا سكن وانسجم. وكم من أم أو مربية أو خاضنة أو معلمة عانت كثيرًا حين غفلت عن هذه الحقيقة، وأصرت على إرغام الطفل على تقبل ما تريده هي، دون إعداده نفسيًا وجسميًا وعقليًا ليتقبله هو فكانت النتيجة أن نما الطفل نموًا سلبيًا، فلم يستفد من الطعام الذي أكله قسرًا وبعد ذلك قاءه. كما لم يستفد من التوجيه الذي قيد حركته وبعد ذلك طرحه. كذلك لم يستفد من لون اللعب الذي اختير له وبعد ذلك نبذه. إن سكن النفس إذن، ولا سيما عند الأطفال، ليشكل أول عتبة ينبغي أن يهتم بتهيئتها المربون قبل أن يجتازوها بالمتربين إلى داخل مبنى التربية السامق، بكل ما فيه من أرج الخير وألق النور. لهذا يحسن بالمربين الذين يريدون أن يفتتحوا دور حضانة يستشعر فيها الأطفال السعادة المتناهية حالماً يتخطون عتباتها أن يجعلوها بحق جنة وارفة الظلال، يانعة الثمار، دافقة الأنهار، إن لم تكن على الطبيعة فبالصناعة والمحاكاة، بحيث تصنع الأشجار والثمار والأنهار بمجسدات موحية أو برسومات ملهمة يشعر الطفل معها بأنه في الجنة مقيم. ولا بأس أن تسمى دار الحضانة أو الروضة «جنة الطفل»، وأن يضفي عليها طابع الجنان بالرسوم والتصاوير والمجسمات والتشكيلات إن لم تتول الطبيعة ذلك بسبب قصور العوامل الاقتصادية من جهة أخرى. ومن أجمل الأمثلة على هذه المحاكاة ما يعمد إليه البعض اليوم، حين يلصقون على كامل جدران الغرف رسومات من الورق يشعر معها الداخل إلى الغرفة أو الجالس فيها أنه في وسط حديقة غناء، أو أمام نهر رقراق، أو على شاطيء بحر زخار.
ولعل شيئًا مما رآه الناس بالأمس. الغابر في حاضرة الدولة الإسلامية، وما يزالون يرونه حتى الوقت الحاضر من آثارها الأندليسة، يعزز رأينا في تجميل دور العلم وإظهارها بمظهر الجنة الخلاب. فالرحالة المسلم ابن جبير المُتَوَفّٰى سنة 614هـ يصف المدرسة الكبرى التي أسسها في دمشق «نور الدين زنكي» سنة 567هـ فيقول «من أحسن مدارس الدنيا مظهرًا مدرسة «نور الدين» – رحمه الله –، وهي قصر من القصور الأنيقة ينصب فيه الماء في شاذروان وسط نهير عظيم، ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة، إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر».
ثانيًا: أن يحرص المربون على توفير عنصر المشاكلة والمجانسة في أي تجمع تربوي، كالصفوف الدراسية والفرق المدرسية، لما يحمله هذا التجانس والتساوي من معاني الائتلاف والتوحد. ولقد مر على بلادنا، في مشارف هذا القرن، عهد كان يجلس فيه، على مقعد واحد، شاب يبلغ الخامسة عشرة من العمر جنبًا إلى جنب مع طفل في الخامسة من عمره، وكلاهما في الصف الأول الابتدائي، دون مراعاة لفروق السن أو الجسم أو العقل أو الخلق، مما نجم عنه نمو تربوي معكوس، وكره شديد للمدرسة والمدرس والدروس.
ثالثاً: عدم مواجهة المتربي الذي نستقبله، لأول مرة في دور الحضانة أو الروضة أو المدارس أو المعاهد العليا أو حتى الجامعات، بسيل من الأوامر والنواهي، وبحشد من اللوائح التنظيمية، وبأكداس من القوانين والأنظمة والتعليمات والبيانات والاستبيانات، فإن الأوامر المشددة، والتعليمات الصارمة، والإجراءات المتوعدة، والعقوبات، تصدم النفس البشرية التي تطمئن إلى المباح، وترتاح بالانطلاق، وتتجدد حين لا تتكبل بالقيود، وتسعد حين تحلق في آفاق لا تحدها حدود، ولا تسدها سدود. وما يقتل مواهب الطفل شيء كالحجر على عقله وخياله. ولا يميت ملكاته شيء كتكبيل حركته ونشاطه. ولا يحول بينه وبين النمو السوي شيء كتطويق معلماته له بصارم الأوامر، ومشدد الزواجر، مما يجعله يخاف أن يطلب الإذن بالخروج لقضاء حاجته، أو لتجديد نشاطه، وتكون ثمرةتلك الأوامر الزاجرة، والتعليمات المدمرة، أن يتبول الطفل في ثيابه، بسبب منعه من الذهاب إلى الحمام لقضاء حاجته… وأن الطفل يصبح بالتالي عدواني السلوك، بسبب إجباره على الجلوس مكتوف اليدين، مشلول الحركة، في أثناء تلقي الدروس. إن آدم عليه السلام دخل الجنة ومعه إذن مفتوح بالتنعم بما يشاء من خيراتها، ولم يكن محظورًا عليه غير شجرة واحدة فقط من بين ملايين أشجارها.
وفي هذا من الدلالة التربوية ما سنذكره فيما بعد. لهذا لاينبغي أن تتجاوز المنهيات – على صعيد الكم – نسبةً ضئيلةً في لوائح التعليمات. كما لا تتطرق – على صعيد الوصف – إلى علة النهي وحكمة التحريم ما دام في المباح الثر مندوحة عن المحرم النزر.
وأيضًا على – صعيد النوع – لا تشتمل اللائحة كذلك على الممنوعات بتفصيلاتها، فيكفي منع أم الخبائث، على سبيل المثال، من غير أن تدرج معها كل بناتها من الخبائث، فإذا منع الكذب بالخط العريض مثلاً فلا لزوم لأن يدرج تحته بالخطوط الصغيرة الغش والتزوير والاحتيال والنصب والغرر وسائر الرذائل الأخلاقية المتصلة بالكذب المعتبر رذيلة الرذائل. وقل مثل ذلك عن الخمر، أم الخبائث، وقرينها القمار ناسف كل بيت، والزنى مفسخ كل مجتمع، وكل الموبقات المحرمة في الإسلام، فإن العبارة البليغة – على قصرها – أوصل إلى النفس من مستطرد الكلام ومسهب الأحكام.
رابعًا: بعد إذاقة المتربي – أول عهده – طعم الحرية المعسول واستمرائه له، قد يخلد المتربي إلى هذا الجو المتشبع بروح الانطلاق والتحليق، ويركن إلى نمطية في الحياة مقتصرة في تركيبتها على الإباحة المطلقة دون تقييد، مما يسمح للنفس أن تجمح فلا يكبح لها جماح، وللشهوات أن تستعر فلا يخمد لها أوار، وللعدوانية أن تطغى فلا تقلم لها أظفار. فإذا أراد المربون فرض بعض القيود أو وضع بعض الحدود لهذه الحرية فينبغي ألا تمنع هذه الحدود انطلاقة النفس في حركتها من جهة، ولا تنتقص من استمتاعها بلذة المباح من جهة أخرى. ويراعي المربون – كما سبق أن قلنا – أن تكون منطقة المحظور صغيرةً جدًا بالنسبة إلى منطقة المباح، فتشعر النفس بأنها رافلة في حلل النعيم السابغة التي لا يقلل من نشوة التنعم بملايين المباحات فيها محظور واحد. ولكي يكون لهذا المحظور أثره المنشود في نفس المتربين يراعي المربون تغليف ذلك الحظر بأوامر مشددة بحيث تمنع المتربين حتى من مجرد مداناة المحظور فضلاً عن مقارفته. ولا ضرورة لأن يبين المربون حكمة ذلك التحريم، كما أسلفنا، فإن ذلك أدعى لإظهار استعدادات المتربي الكامنة فيه ومنها ما يلي:
أ – إعمال فكره في محاولة لاستكناه السر الكامن في الشيء المحظور حتى استدعى ذلك التشديد في حظره.
ب – إثارة غريزة حب الاستطلاع في النفس البشرية التي تهفو لكل جديد ولو كان خطرًا، وتتطاول لكل علم ولو كان ضارًا، فكل ممنوع مرغوب، وكل محجوب مطلوب. ولكون حب الاستطلاع – شأنه شأن باقي الغرائز – لا يفتر ولا يقر له قرار الا باختراق الأستار لمعرفة الأسرار، فيحسن بالمربين ألا يشفعوا الحظر بالتعليل، لتبقى للمحظور جاذبيته المثيرة لغريزة الفضول وحب الاستطلاع، فمثلاً لو قيل للمتربي – إن لك أن تدخل جميع غرف المدرسة بلا استثناء إلا هذه الغرفة، فإنها محظورة عليك، لظل يسائل نفسه عن سبب الحظر، ويحاول باستمرار أن يصل إلى السر من وراء ذلك الحظر.
أما إذا قيل له ادخل كل غرف المدرسة إلا هذه الغرفة؛ لأن فيها مواد كيمياويةً سامةً تقتل كل من يفتح الباب ويلج الغرفة، لما أثار ذلك التعليل حب الاستطلاع لدى المتربي بعد أن عرف السبب. لهذا يضع المربون – لغرض تنشيط غريزة حب الاستطلاع في نفوس المتربين – لوائح ببعض المنهيات دون أن يذكروا سببًا للنهي أو علةً للتحريم، وهدفهم من ذلك تنشيط هذه الغريزة، وإبقاؤها حيةً فعالةً تقوم بدورها في دفع المتربي لطلب العلم باستقراء آيات الله في الوجود ولاستكناه الأسرار المودعة في الآفاق المنظورة، وفي الأنفس المستورة، كما قال تعالى «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» فصلت/53 أما إن كان الهدف من الحظر سلوكيًا لا معرفيًا، أي متعلقًا بثني المتربي عن السلوك الضار، فينبغي قرن التحريم بالتعليل، ليكون العلم بالسبب مانعاً من السلوك المسبب، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطٰنُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ المائدة/91.
ج – إعطاء المجال لظهور حرية الاختيار الممنوحة للكائن البشري ممارستها بصورة فعالة، وتنشيط حركة العقل الذي يملك أن يختار ويقرن اختياره بتحمل تبعة هذه الحرية والمحاسبة عليها، إذ بدون توفر المباحات والمحظورات لا يملك المرء أن يباشر عملية الاختيار ويتحمل تبعتها. ولهذا يحسن بالمربين أن يضعوا أمام المتربين – لغرض تنشيط حركة العقل في ممارسة حرية الاختيار – خطوطاً كثيرةً بينها خط مخالف لاستخراجه، وبدائل كثيرةً بينها بديل مخالف لاستبصاره، إذ لو كانت كل الخطوط متشابهةً لما تميز الخط الأعوج من الخط المستقيم، ولو كانت كل الطرق متوازية الاتجاه لما تميز الطريق السالك من الطريق المسدود. ومن واجب المربين – بالطبع – توجيه المتربين إلى اختيار الخط المستقيم لا الأعوج، وسلوك الصراط المستقيم لا المعوج.
د – الإرادة. فإنها قوة من القوى النزوعية المحركة التي تتلقى أوامرها من القوى العقلية المدركة. أي بعبارة موجزة إن الإرادة محكومة بالعقل. ولكي تكون الإرادة نزاعةً إلى الخير ينبغي أن يكون من ورائها عقل مؤمن. ولا تظهر الإرادة ولا تقوى إلا بوجود محظورات. وإلى هذا تنبه صاحب الظلال – رحمه الله – حين قال: «لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة، وكل متاعها، إلا شجرة واحدة، شجرة واحدة ترمز إلى المحظور الذي لابد منه في حياة البشر. فبغير محظور لاتنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق».
ولهذا يجدر بالمربين أن يعتنوا بهذا الركن الهام من بناء شخصية الإنسان، وهو الإرادة، وجعلها تنزع إلى الخير عن طريق توعية المتربي بما تؤدي إليه إرادة الخير (الخير الشرعي الذي حددته مقاييس الشرع لا الخير الوضعي الذي حددته مقاييس البشر) من عواقب حميدة، من جانب، وما تؤدي إليه إرادة الشر (الشر الشرعي أي الشر الذي حددته مقاييس الشرع لا الشر الوضعي الذي حددته مقاييس البشر) من عواقب وخيمة، من جانب آخر. فالآية حظرت على آدم وزوجه أن يدنوا من الشجرة المحرمة، والدنو ترجمة حركية للنزوع الإرادي، ومؤدى ذلك الوقوع في الظلم الذي هو شر مزدوج للظالم والمظلوم جميعًا. فإذا أردنا، إذن، أن نقوي إرادة الخير في أولادنا، فما علينا إلا أن نقرن ما أبحناه لهم بالخير المشروع، لتتحرك هممهم نحوه، ويقبلوا عليه، وأن نقرن ما حظرناه عليهم بالشر الممنوع، لتتحرك هممهم دونه، ويدبروا عنه. والصغير والكبير في ذلك سواء. فكلاهما – في مجال تلبية حاجة بيولوجية كالنوم مثلاً – يريد التبكير في النوم إن أقنعناهما بخير النوم المبكر وشر النوم المتأخر، إرادة استقبال الخير من جهة، وإرادة استدبار الشر من جهة أخرى. فكيف إذا تعدى الأمر مجال الحاجات البيولوجية إلى مجال الأوامر والنواهي الإلهية؟
خامسًا: أن يحرص المربون على إبعاد المتربين جسديًا عن منطقة المحظورات السلوكية، لأن في ذلك إبعادهم قلبيًا عن التفكير في تلك المحظورات، فإن القرب من الشيء يورث ميلاً يأخذ بمجامع القلب، ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع، كما يقول البيضاوي – رحمه الله –. ويقول الشوكاني كذلك «النهي عن القرب فيه سد للذريعة وقطع الوسيلة ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل». لهذا يخطيء الآباء الذين يمنعون أبناءهم عن شرب الدخان مثلاً ويتركون علب السجاير فوق المناضد على مرأى من الأبناء. كما تخطئ الأمهات اللاتي يخشين على أطفالهن من النار حين يتركنهم أعواد الثقاب. وما دامت الآية قد نصت على عدم القرب من الشجرة المحرمة، وما دامت المداناة تحرك الهمم وتثير الحوافز، فليحرص المربون إذن على منع المحظورات السلوكية بسد الذرائع لها. فلا يتقارب الطلاب والطالبات بعضهم من بعض بذرائع الفساد كالاختلاط، والتبرج وإبداء الزينة، وإسماع الصوت، ونشر الرائحة، مما يجعل الورع منهم يتخلى عن ورعه، والذاكر منعم يغفل عن ذكره، والساعي منهم لآخرته يسعى لدنياه، والصائن منهم لعرضه يهتك عرض سواه. وإذا كان هذا واقع الحال في ظل منائر العلم، فماذا نقول عن واقع الحال، في ظل منائر الإعلام، من برامج إذاعية وتلفاز، وصحف ومجلات، وكتب ونشرات، توقظ نائم الشهوات، وتحرك ساكن النزعات، وتطلق الفتنة من عقالها في عالم الجنس المدنس، والفن المزيف؟
سادساً: عدم محاسبة المتربي، إلا في حال التلبس بالفعل المحرم. فلا ينبغي محاسبة المتربي على مجرد اقتحامه منطقة المحظورات، بل حين يتلبس باقترافها. لهذا يجدر بالمربين ألا يتعجلوا في الحكم على المتربي وإنزال العقوبة به لمجرد دنوه من منطقة المحظور، بقصد الحيلولة دون لحوق الضرر به من جراء مخالفته، فإن الحرص على ترشيد المتربي ليس مبررًا لمعاقبته على فعل قبل وقوعه، كما أن حسن النية وإرادة الخير، من جانب المربي، لايقومان مقام العدل في إيقاع العقاب.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1432هـ = مارس – أبريل 2011م ، العدد : 4 – 5 ، السنة : 35