كلمة العدد
لقد أهلّ علينا شهر الحج والأضحيّة من جديد، كما يهلّ كلّ عام، ليُذَكِّرنا بدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام حين رَفَعَ هو وابنُه إسماعيل عليه السلام قواعد البيت: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوْكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ» (الحج/27). فقد جاء في ص 106 من الجزء التاسع من تفسير الطبريّ: أن إبراهيم عليه السلام وقف على الحجر، حين أمر الله سبحانه وتعالى أن يؤذّن في الناس بالحجّ، ونادى: أيها الناس! إنّ الله قد كتب عليكم الحجَّ، فحُجُّوا بيتَه العتيق.
فمن لدن إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا على مدى العصور المتتالية يهرع الناس إلى الكعبة، إلى بيت الله الحرام، إلى مكة المكرمة مُلَبِّين مُهَلِّلِين، يدفعهم الحنين والإيمان، والرجاء في ثواب الله تعالى، والخوف من بطشه وجبروته، والدموع الخاشعة الراجية تنهمر من عيونهم، وألسنتهم تصدح في صدق وإخلاص وإنابة: لبيك، أللهمّ لبيك، لبيك لاشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لاشريك لك.
إنّ الحجّ عبادة عظيمة في الإسلام جمعت بين التحرك الجسدي والإنفاق المالي والعبق الروحاني، واللذة الإيمانيّة العجيبة، التي يتذوّقها من يُرْزَق الحجَّ المبرورَ والجزاءَ الموفور والذنب المغفور. يبدأ الحجيج رحلتهم وقد تجردوا من كل زخارف الدنيا وزينتها حتى من المخيط من الملابس، كما تحرروا من همومها ومشاغلها، ومن سجن الأهواء والشهوات، وتركوا وراءهم جميع المصالح والأغراض، وانطلقوا من الغفلة والإهمال والصراع على الجاه والمال إلى عالم كله حريّة وعبوديّة وتذلّل وانحناء وخضوع، ولا مال فيه ولا جاهَ يشغلهم عن التفرغ للخالق البارئ والإله الصمد الذي يرجون مغفرتَه ورضوانَه، يسألونه أن يقبل توبتهم ويمحو حوبتهم، ويغمرهم بفيض حبه ورحماته، ويحدوهم حبُّهم لربّهم الغفور الشكور، الحبّ الذي يفيض من جميع جوارحهم ومشاعرهم وكل كيانهم، وهم يستحضرون عبقَ التأريخ وذكريات الأمس القريب والبعيد، وهم يشاهدون على الأرض المقدسة عن كثب المشاهد والمشاعر كلَّها.
يتوجّه الحجيجُ إلى بيت الله الحرام وهم مُحْرِمُون قد تجردوا من أزياء الدنيا التي أَلِفُوها وتَعَوَّدوها، فيتذكّرون يوم المحشر، يوم موقفهم أمام ربّهم، حين يكونون في موقف رهيب قد تخلّوا عن المناصب التي كانوا يعتلونها في الدنيا والمواقع التي كانت تُعِزّهم في الحياة، فلا يتقلدون اليوم وزارة، ولا رئاسة وزراء، أورئاسة دولة، ولا كرسيّ حكم أوإدارة، ولا خدم لديهم ولا أعوانَ، ولا يُصَنِّفُهم الفقر والغنى، أو البياض والسواد، أو العروبة والعجمة؛ وليس بينهم اليوم رفث ولافسوق، ولاجدال ولاسباب، ولاخصومة ولا صخبٌ، ولاتبادلُ اتّهامات، ولا تحاسد ولا تباغض، ولاعناية بالإجسام والأبدان، بل الاهتمام مُرَكَّز على القلوب وأفعالها، والنيات وإخلاصها، والأرواح وتزكيّها، والكل منيبون إلى ربّهم الغفور، وأبصارُهم شاخصة، وأكفهم مرتفعة، وأرواحهم تسمو إلى السماء وهم منهمكون في التضرّع والابتهال والدعاء الذي ينبع من أعماق قلوبهم.
وإذا كان الإسلام – دين الله المرضيّ وحده من عنده لعباده، ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة لمن الخاسرين حقًّا – بجميع عباداته يُعَزِّز قيم الجماعيّة ويعمل لتوحيد المسلمين وإنجاز التكافل والتراحم والانسجام والتوادد بينهم، ويؤكد على قيم الحبّ والمواساة والأمن والسلام لهم ولغيرهم ممن حولهم، فإنّ الحجّ بجميع أركانه ومناسكه يُجَسِّد ذلك كلَّه في أجلى معانيه وأسمى دلالاته وأبرع إشاراته؛ فحين تجتمع جموع الحجيج في موسم الحج العامّ وهم قد تحرروا من جميع القيود والمظاهر الدنيويّة المألوفة، تتلاقى فيه على كلمة التوحيد، فتعلن ولاءها لربّها الصمد، ورفضها لجميع أساليب العبوديّة لغيره، فتصرّ على مقاومة جميع قوى الظلم والاستكبار والاستعلاء والاستغلال في الأرض، وكل الأصنام المنحوتة والمنصوبة والمقبورة التي يعبدها الناس في شعور وفي غير شعور. وحين تفعل ذلك تعلن إعلانًا صارخًا أنّ الأمة الإسلامية أمّة متماسكة، يأخذ بعضها بحجز بعض، إذا اشتكى منها عضو تداعى له الكل بالسهر والحمّى، فلو طبقت إعلانَها هذا في واقع العمل، لفرّت كل خفافيش الظلام، ولانهارت أمامها كُل قوى الأرض بكل أسلحتها وعتادها، وكل مؤامراتها ومخططاتها؛ ولكنها في واقع السلوك ربّما لاتنزل على مستوى الشعور بالمسؤوليّة كما يجب أن تنزل.
ويأتي دور الحجيج ليطوفوا بالبيت العتيق ليؤكّدوا أنهم إنما يتمسّكون بالإسلام دينًا، وبالله ربًّا، وبدين الله الأخير منهجًا وسلوكاً؛ وأنهم يدورون حول الله الواحد الأحد الصمد؛ حيث إن الطواف باليبت إنّما هو صورة من صور التسبيح، وشكل من أشكال الخضوع لله الواحد الأحد، ثم إن الطائف بالبيت العتيق يؤمن مجددًا أنه يتمسّك بالحريّة، ويتحرر من عبوديّة جميع الطواغيث والجبابرة؛ لأنه كما قال ابن الزبير رضي الله عنه سُمِّي بـ«العتيق» لأنه تعالى أعتقه من الجبابرة (تفسير الطبري، ج:9، ص:107) فالطائف بالبيت يُصَحِّح عزمه على أنه لن يخضع لأحد إلاّ لله وحده، ولا يخضع لسلطان قوة على وجه الأرض، ويظلّ يحاول جهدَه أنّ يقاوم جميع صور الاستعمار والاستعباد والاحتلال لأرض الإسلام وأمة الإسلام؛ لأنّه ليس بوسعه، أن يحتمل العبودية لأحد والاستعباد من أحد إلاّ لله الواحد القهار.
الحقُّ أن الحجّ بجميع مناسكه وشعائره تحرير واقعيّ للإنسان المسلم من أشكال الاستعباد والاستلاب، والأنانيّة والدكتاتوريّة، والفرديّة والنرجسيّة، وجميع الحركات الباطلة والدعوات المضللة، والفلسفات الماديّة التي صَنَّفَت الناس بين العبيد والسادة، وحوّلت البعض آلهة من دون الله يفرضون على من يشاؤون من صور الذل والهوان، والفقر والهامشيّة، والشقاء والحرمان ما الله به عليم.
إنّ الحاج الحق العائد من الطواف بالبيت العتيق لن يُقِرُّ بتأليه القوى الجبارة التي أَوْغَلَتْ في بلاد الإسلام والمسلمين، وعاثت فيها فسادًا وإفسادًا. إن مشاهد الحج كلّها تؤكّد معاني أنّ القوة لله، وأن العزّة لله، وأن الأرض لله. وذلك حين ترتفع أصوات الحجيج كلّهم بالتلبية والتسبيح والذكر، وتتردد في الفضاء وتدوّى في أسماع الكون أنه لا إله إلاّ الله لاشريك له والملك لله دونما شرك؛ فالله هو المصدر والمرجع، وكلُّ خير ونعمة منه وإليه، وأن الإنسان هو القيمة النهائيّة في الوجود؛ حيث أعلن الله عزّ وجلّ:
«يٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقـٰـكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات/13)
وفي مشاهد الحجّ كلّها تتذكر جموعُ الحجيج رحلةَ أبيهم إبراهيم عليه السلام وأمهم هاجر عليها السلام إلى هذا الوادي غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، إلى هذه الصحراء الجرداء القاحلة التي لاتتحلى بالخضرة، وتتذكر مدى مقاومتهما لمحاولات الشيطات وقساوة المناخ، وإصرارهما على أن سلطان حبّ الله جلّ وعلا أقوى بكل الاعتبارات من سلطان الميل والهوى، وأن حبّ الله عزّ وتبارك هو المنتصر والميول والأهواء منكسرة أمامه لا مَحَالَةَ. ومنذئذ إلى يومنا هذا وإلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها لاتزال وستظل جموع الحجيج ترمي بالحصيات عدوّها وعدوّ الله الشيطان الرجيم، مما يؤكّد أن الجهاد ضدّ الميل والهوى والنفس الأمّارة بالسوء هو الجهاد الأكبر الأفضل.
والمسلمون في حجهم ولدى أداء مناسكه يتأملون إنفاذ أبيهم إبراهيم عليه السلام رؤيتَه في منامه بشأن فلذة كبده إسماعيل عليه السلام، فيتأكدون أنه لاعبوديّة لأحد إلاّ لله رب السماوات والأرض؛ ويتأملون اجتهاد هاجر عليها السلام للعيش في هذه الأرض التي لازاد فيها ولا ماء وللإبقاء على حياة ابنها إسماعيل عليه السلام تنفيذًا لأمر الله بشأن عمارة هذه الربوع المقدسة بعبادة الله وحده، فيتأكّدون أنّ العمل الجادّ المتصل والجدّ والكدّ له قيمته في حياة الإنسان على هذه الأرض؛ حيث يفتح الطريقَ إلى الحياة وينفتح به كلّ باب مُغْلَق. ويعود الحجيج بهذه الدروس العظيمة من رحلة حجهم إلى بلادهم ليعيشوا عاملين مكافحين من أجل حياة أفضل، وغد أشدّ إشراقًا، ومستقبل أكثر ازدهارًا من الذي عاشوه في الماضي.
وعلى رمال عرفات وجبل عرفات يقفون خاشعين متذللين أمام الله يتذكرون كبرياءه، ويتلمسون معرفته، ويتضرعون إليه ائتساءً بهدي محمد صلى الله عليه وسلم ، فيتأكدون أن حبّ الله أغلى قيمة في الكون وأنّ ذرة منه لاتساويها كنوز الدنيا كلها، وعلى هذا التراب الطاهر وربا حبل عرفات المعطرة بالمناجاة والخشوع يتصل المسلمون بربّهم عن طريق الإنابة الخالصة وترتفع دعواتهم المُفْعَمَة بالرجاء والأمل في المغفرة والرضوان من الربّ الغفور. وفي كل مكان من هذه الأمكنة من المشاعر المقدسة يشعر الحاجّ كأن ربّه يستقبله، وغفرانه يباركه، وأنه تعالى يتغمده برحمته، فيعود من رحلة الحجّ كأنه قد ولدته أمه مغفورَ الذنوب والخطايا كلها، ويعود هو انسانًا غير الذي كان من قبل، فهو معطاء للخير، محبّ لكل فضيلة، متنكر لكل رذيلة، لايعرف الحقد والحسد، والفحش والاعتداء، والكذب والبخل، والطمع والأنانيّة، والغيبة والنميمة. إن كيانه كله خير وعطاء، وبذل وسخاء، ومودة ورحمة، وعطف وحنان، وسلام وتسامح، وابتسامة في وجه كل إنسان، يتمتع بنظرة جديدة كل الجدة إلى ذاته، وإلى الكون كله، والحياة كلها، والناس كلّهم، بيديه نور الإسلام، وفي قلبه ضياء الإيمان، وعلى لسانه ذكر الله، وعقله مشرق بالأمل، وقلبه متفتح بريّا الحنان ولذة الذكر والشكر.
كلّ من رآه آمن بأنّه غير من كان قبل هذه الرحلة الإيمانيّة التي غيَّرته اليوم كلَّ التغيير، فهو اليوم المسلم المحبوب لدى الخلق المنشود لدى ربّه، النافع لنفسه ولكل من حوله، بكل حركاته وسكناته، وجميع تصرفاته في الحياة.
تلك هي المعاني التي يستوعبها الحاجّ في عبادته هذه التي تختلف عن غيرها من العبادات في الإسلام في مظهرها ومخبرها، فيعود وقد خلّف ذنوبَه على عتبة الماضي، واستحق جنّة ربّه يفضله ومنّه، وصار إنسانًا سويًّا عظيمًا قويمًا يساوي المَلَكَ في براءته من الذنوب.
إنّ الحجّ إكسير يقلب التراب تربًا، ويحول الإنسان الملطخ بالذنوب الغارق إلى أذنيه في الخطايا، إنسانًا بريئًا من الذنوب براءة من ولدته أمه من ساعته. وذلك إذا حَالفه التوفيق، وساعده الحظّ، وقارنته السعادة.
اللهم اجعلنا جميعًا من أولئك السعداء، ووَفِّقْنا للحج المبرور، الذي ليس له جزاء إلاّ الجنة.
(تحريرًا في الساعة 7 من صباح يوم الأحد: 22/ ذوالقعدة 1431هـ = 31/أكتوبر 2010م)
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذوالحجة 1431 هـ = نوفمبر- ديسمبر 2010م ، العدد :12 ، السنة : 34