دراسات إسلامية

بقلم : د. أبو اليُسْر رشيد كُهُوس / المغرب

3 – إقامة العدل (Justicia): المقصود بالعدل الاستقامة في حقوق الله وفي حقوق عباده. يقول ربنا تبارك وتعالى يخاطبنا معشر الأمة المحمدية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُونُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ﴾ (النساء: من الآية 135)، ويقول عز من قائل: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُونُوْا قوَّامِيْنَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ (المائدة: من الآية8). والقسط المذكور في الآية هو: العدل، والمقصود بالعدل هو عدل الحكم وعدل القسمة، فالأول هو الفصل فيما يقع بين الأفراد من تشاجر وخصومات، والثاني هو المساواة بين أفراد المجتمع، وذلك بقطع دابر المترفين، وتقليم أظافر المسرفين والمبذرين، وتسوية الفساد الطبقي، والتكافل الاجتماعي من كفالة اليتيم والمسكين والعاجزين، بالإضافة إلى توفير الشغل للقادرين .

       أما إذا كان الظلم محل العدل والإنصاف، فلا شك أن مآل ذلك العمران إلى خراب، ويرحم الله العلامة ابن خلدون القائل: “الظلم مؤذن بخراب العمران”.(23)

       وعَلاوة على ذلك، فإن العدل دعامة لهذا العمران الأخوي وهو أم المطالب التي يقصد إليها الشرع. هو صلب الدين، وبه بعث الله رسله وأنبياءه مبشرين ومنذرين، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنـٰـتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتـٰـبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25).

       وهنا لابد من تنمية وتوفير حاجيات الاقتصاد للتصدي لضرورات الإنتاج والتصنيع؛ لأن “المجتمع المسلم محتاج إلى حد أدنى من الرفاهية المادية ليضمن بالمعاش الكريم الراحة الخلقية والروحية لرجاله ونسائه”.(24)

       4 – التكافل الاجتماعي: لقد فرض الله تعالى حدًا أدنى من التكافل هو الزكاة. وحض عليه بل وشدد في فرضيته قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: من الآية 34). وجعلها الركن الثالث للإسلام، وما ذكرت الصلاة إلا وذكرت معها الزكاة ﴿وَأقِيمُوا الصَّلوٰة وآتُوا الزَّكوٰة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكعينَ﴾ (البقرة:43)، وذلك راجع لأهمية هذا الركن في التأليف الاجتماعي.

       وجاءت نصوص شرعية كثيرة تبشر من قام بهذه الفريضة بطهارة النفس وفوزه في الآخرة، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ﴾ (الأعلى:14).

       والزكاة شرط المواطنة القلبية المذكورة في قوله جل وعلا: ﴿فإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلوٰة وآتَوُا الزَّكوٰة فإخْوَانُكُمْ فِي الدِّيْنِ وَنُفَصِّلُ الآيـٰـتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ﴾ (التوبة:11). أما وظيفتها الاجتماعية فهي مربوطة ربطاً محكمًا بالوجه العبادي الإيماني، لا كما يزعم المطموسون فكريًا من اللاييكيين – ومن سار في ركابهم من دعاة على أبواب جهنم – الذين جردوها من مغزاها التطهيري الفلاحي الأخروي.

       فالمال مال الله، كما قال الله تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: من الآية33)، والإنسان مستخلف فيه، وممتحن به، ترى ماذا سيفعل به؟ وفي ماذا ينفقه؟ وبأي نية ينفقه؟

       أرشد الله الإنسان إلى البذل من ماله في سبيل الله حتى لايكون هذا المال سببًا لخسرانه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَـٰـسِرُونَ﴾ (المنافقون:9). ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثـْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:188). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَـٰـسِرُونَ﴾ (المنافقون:9).

       فالزكاة فريضة من الله تعالى على كل مال – فصيح وصامت – حال عليه الحول وبلغ نصابه. هدفها إغناء المستحق لسنته، لقول فاروق الأمة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه [إذا أعطيتم فاغنوا].(25) يعني من الصدقة.

       إلى جانب ذلك إغناء الفقراء والمساكين وكل الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن، قال الباري جل وعلا: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَـٰـتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَـٰـكِينِ وَالْعَـٰـمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:60). ينبغي أن تقوم هذه الفريضة بمَهمة الاستثمار والتنمية لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، والتحرر من التبعية الاقتصادية للغرب، وتشجيع الرساميل الموجودة ومشاركتها في التنمية.

       وهنا قضية يجدر الحديث عنها، وهي أن علماءنا الأفاضل اجتهدوا في هذا العصر ووسعوا وعاء الزكاة، حتى يشمل الثروات المعدنية والبحرية والفلاحية والصناعية والتجارية والمنتوجات الحيوانية، والمستغلات من عمارات ومصانع، والنفط، والعسل… وحتى لايبقى وعاؤها كما تركه من تقدم من سلفنا الصالح رحمة الله عليهم الذين لم يكونوا يعرفون مثل هذه الأنواع من الثروات، قاصرين على الإنتاج الزراعي البدائي المنحصر في الأنعام والقمح والشعير.

       وأفضل اجتهاد في المجال اجتهاد العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله الذي قعد هذا الفقه ووضع دعائمه في موسوعته النفيسة المسماة بـ:”فقه الزكاة”، التي جمع فيها مسائل الزكاة القديمة والحديثة، وأحكامها النصية والاجتهادية.

       وفضلاً عن ذلك، فإن هناك رأيًا قيمًا تفرد به الإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري الأندلسي رحمه الله (ت 456هـ) أورده في كتابه: المحلى بالآثار (6/156 وما بعدها) وهو أن في المال حقًّا غير الزكاة مستدلاً بقول ابن عمر رضي الله عنهما: “في مالك حق سوى الزكاة”، وساق مجموعةً من الأخبار والآثار للدفاع عن رأيه السديد.

       وفي القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص كثيرة تؤيد رأيه، منها على سبيل المثال لا الحصر قوله سبحانه وتعالى: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 141). قال ابن عمر رضى الله تعالى عنه : “كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة”.(26) وقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّيْنَ، الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلـٰـوتِهِمْ سَاهُوْنَ، الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون: 5-7)، هذا وعيد مانع الماعون.

       في حديث عبد الله مسعود رضى الله تعالى عنه: “كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية الدلو والقدر”، وفي حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “فما حق الإبل؟” قال: [تعطي الكريمةَ(27)، وتَمنحُ الغزيرةَ(28)، وتُفْقِر الظَّهر(29)، وتَطْرِق الفَحْل(30)، وتسقي اللبن]. وفي حديث عبيد بن عمير قال: قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حق الإبل – فذكره نحوه – زاد: [وإعارة دلوها(31)](32). فالماعون يحرم أن تمنع جارك استعمالها. وسع هذا إلى كل أدوات الإنتاج والعمل، وإلى مرافق ذات النفع العام.

       أما السنة فجاءت أحاديث كثيرة تبين ذلك: عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ: [إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِيْ فِي الْبَقَرَةِ (لَيْسَ الْبرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ)](33)، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله تعالى عنه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: [ثَلاَث لايُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالكَلأُ وَالنَّارُ](34)، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في الباب.

       أضف إلى ذلك أن تشريع الإنفاق كان قبل تشريع الزكاة، بل جعل الله تعالى الإنفاق من سمات المتقين الواردة في أوائل سورة البقرة ﴿الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلـٰـوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة:2-3).

       وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من زكاة وصدقة وحقوق أخرى متعلقة بالأموال، فإن الشرع حث كذلك على البر والبذل(35)، يقول الله جلت عظمته في تعريف البر والحث عليه: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلـٰـئِكَةِ وَالْكِتَـٰـبِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَـٰـكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلـٰـوة وَآتَى الزَّكَـٰـوةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّـٰـبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177).

       فنلاحظ بعد الإيمان بأركانه يأتي إيتاء المال على حبه إيثار الله وحبه على الحياة الدنيا ومينتها، ولا يُنال البر من لم يتصف بهذه الصفات البارزة المذكورة في الآية الكريمة.

       فوجب إذن أن ينبعث التطوع الإيماني من إرادة كل مسلم ومسلمة، محبةً لله واحتسابًا الأجر عليه. فكفالة المسلم وصيانة حرمته حيًا وحفظ عهده ميتًا، أن يكون مكفولاً لا متسولاً خاملاً عالةً على المجتمع. أن نسعى ليكون منتجًا، ليكون معطيًا يحرث في دنياه لآخرته، لا ليمد يده ليتلقى الصدقات في الطرقات وعلى أبواب المساجد.

       وعلى هذه الأركان قام العمران الأخوي الأول فكان نموذجًا خالدًا في التاريخ، ومازالت أنواره تشع على صفحاته، وكان شجرةً راسخةً ذات جذع عظيم قوي تغالب الرياح المزمجرة.

       لنتحدث في الفقرة الآتية عن شرائط العمران الأخوي المكملة لكلامنا هذا، الموضحة له.

خامسًا: ما السبيل إلى عمران أخوي؟

       لبداية العمران الأخوي، ولإحلاله في أرض المسلمين، وجب توفر شروط أربعة وهي:

       1 – الاستقرار على الشورى: الشورى “الجسم الذي تتجلى فيه إرادة الأمة ووحدتها”(36)، والشورى ليست هي “الديمقراطية” كما يعتقـد بعض المتمسحين بالثقافة الإسلامية المعجبين بتخوم حضارات شاخت وأفكار وهنت، إنما هي مبدأ إسلامي نبت في تربة إسلامية وأصله إسلامي، عكس الدَّمَقْرَطة التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، لاذكر للآخرة فيها ولا للشريعة. ولعل من الخطورة بمكان أن نستعمل مصطلحات نبتت في غير أرض الإسلام، ونعرض عن بيان القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.

       الشورى لابد أن ندرجها في سياقها القرآني، لا كما يفعل البعض يعزلونها عن سياقها، فتفقد معناها يقولون (وأمرهم شورى بينهم) كمن يقول (ويل للمصلين) ثم يسكت.

       وها هنا سر دقيق لايتم حديثنا إلا به؛ “إنما تكون الشورى شورى لها حُرْمَة الاسم وحقيقةُ المعنى إن توفر في المتشاورين مجموع شروط بعضُها يكمل بعضًا، ويؤسسه، ويُسنده، ويسبقه، ويلتفت إليه. هذه الشروط أخلاقيات في الأفراد، وعقيدة، وسلوك عملي، أمور تتداخل لتعطي للوَلاَية بين المومنين التي فرضها الله عز وجل مضمون الأخوة الجامعة ومدلولها السياسيَّ ورباطها التكافليَّ وعِمادها العَدليَّ”(37).

       سياق الشورى هو قوله جل وعلا: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰـئِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلـٰـوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ (الشورى:36-39).

       وردت الشورى في سياق شروط تسعة أولها الإيمان وآخرها الانتصار على البغي، فإن عزلتَها من سياقها، ضاعت الشورى، وأصبحت دَمَقْرَطَةً غافلةً عن الله وذكره والدار الآخرة.

       “جَرِّدِ الشورى من سياقها، وأَخْرِجْها من مائها، فإذا أنت تُزَوّر، وإذا أنت تُلبس اضطراب الناس في تنظيم المجتمع والدولة لباس كذب، إن نَعَتَّه بالإسلامية . لايكون التداول شورى، ولا الدولة دولة القرآن حتى يكون ما عند الله مطلب المومنين المتشاورين، حتى يكون التوكل على الله سبحانه ذخيرتهم، وحتى يكون اجتناب الإثم والفواحش قضيةً عامةً يتناولها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنقد والملاحقة والمحاربة، وحتى تكون الأخوة والمحبة وكظم الغيض والتسامح لحمة المجتمع وسداه، وحتى تكون الاستجابة لله ولرسوله الباعث المنهض، وحتى تكون إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله مادة العدل والإحسان، وحتى يكون التناصر على بغي الباغين وعدوان المعتدين وتحرير أرض المسلمين بالجهاد الدائم برنامج الدعوة، ومخطط الدولة”.(38)

       وهنا قضية قد يكون من الأهمية بمكان معاودة التأكيد عليها، وهي أن سياق الشورى نجده واجبات وفضائل متحدةً وملتحمةً، ذلك أن الله جل وعلا أدرج مبدأ الشورى بين تسعة فضائل واجبة تميز تفكير المؤمن وعاطفته وسلوكه وأخلاقه، عن تفكير المنحرفين والضالين والكافرين، وتميز المجتمع المسلم في سلوكه وأخلاقه عن المجتمعات اللائيكية “laicismo” المادية.

       ولأهمية هذا المبدأ نجد في القرآن سورةً باسمه “سورة الشورى”، ونجد النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في محطات كثيرة، في غزوة “بدر” و”أحد” و”الأحزاب” وغير ذلك، كذلك في عهد خلفائه الراشدين كان هناك مجال واسع للشورى، بدءًا من اختيار الخليفة وانتهاء بالعلاقة التي تربط الراعي بالرعية.

       لكن الذي حدث، بدءًا من الانكسار التاريخي الأول، ذلك الانحراف الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية الذي تحوّل فيه أمر الأمة من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، وافترق القرآن والسلطان وانفرط عقد الأمة، مرورًا بإحلال القهر والاستبداد مكان العدل والشورى، وصولاً إلى التفرد بالسلطان بعيدًا عن شورى الأمة، وغيرها من المعطيات المنافية لروح الإسلام وشريعته الغراء، جعل الأمة في مريج ووسط بحر هائج وأمواج متلاطمة… وتحول ذلك العمران الأخوي الذي وضع دعائمه المتينة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسار على منهاجه خلفاؤه من بعده، إلى فرق وطوائف ومذاهب تتطاحن بينها. ورغم هذه الفتن الحالكة، والخطوب العظيمة، فإن أمل الأمة في غد الإسلام الذي يعاد فيه بناء العمران على منهاج خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

       2 – المشاركة العامة في تنظيم الجهود: إن “الأمم تبدأ نشأتها متجمعة العزيمة مشحوذة الهمة متوفرة الجهد؛ لأنها تواجه تحديات جمةً”(39).

       يأتي “شرط المشاركة العامة في تنظيم الجهود لبناء القاعدة الاقتصادية الضرورية ليكون لنا، في يدنا، من مال الله ما ننفق ونُؤتي. فإنه إن عمنا الفقر، وجرَّتنا التبعية في ذيل قطار الرأسمالية، وأرغمت أنوفنا المديونية، وخاننا العجز العلمي التكنولوجي، وتسربت من بين أصابعنا رؤوس أموالنا، لن نستطيع العيش مع أبناء الدنيا الناجحين”(40).

       3 – اتضاح الأهداف: وهذا الشرط يميله الاستقرار على الشورى ويمليه نجاح الجهود المبذولة لمواجهات التحديات والنهوض من الكبوة والتطلع إلى المستقبل الزاهر الذي تشرئب إليه الأعناق.

       فما نسطره في الأوراق وما نخططه من برامج محكمة، وما نضمره في الصدور من خير، كل ذلك يجب أن يطبق في أرض الواقع، لا مجرد خطب طنانة ومدبَّجة، ودعايات كاذبة، وشعارات براقة، سرعان ما تتبخر وينمحي أثرها كالرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف.

       بيد أن الأهداف المرجوه يجب أن تكون واضحةً وضوح شمس النهار، منبثقةً من الشريعة الإسلامية الغراء، مستظلةً بظلها، مقتحمة العقبة لتحقيق المهمة المنوطة بها، وهي الغاية الاستخلافية الواردة في قول الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّـٰـلِحَـٰـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَـٰـسِقُونَ﴾ (النور:55).

       وقوله جل في علاه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُور مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الْصّـٰـلِحُوْنَ﴾ (الأنبياء:105).

       4 – ملاءمة الوسائل المتاحة للأهداف العمرانية: “العالَمُ يعج بالوسائل المالية المادية العلمية الصناعية. هي في مُعظمها رهينةٌ في يد أبناء الدنيا. وما فضَلَ منها وقع في حوزة المسلمين، فهو مسخر لأهداف المستكبرين في الأرض. فعُدَّتنا لأسلمة العلوم والخبرات ورأس المال الشارد منا توازي أو تكاد في الأهمية عُدتَنا لفرض الأهداف الإسلامية وتحبيبها وإنجاحها.

       وكل ما نحققه إن شاء الله من نُجح في هذه الميادين يكون للمسلمين والمستضعفين عربونَ أخوة، وعطاء تأليفيًّا. كان الفاروق عمر رضى الله تعالى عنه عطل في زمانه عطاء المؤلفة قلوبهم لتقديره انتفاء العلة. فلم يرَ أن يُعطيَ أحدًا شيئًا ليحبب إليه الإسلام. العلة في زماننا قائمة بالناس، واقعة بهم، فما نحققه للكافة من خير هو دعوة واجبة. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”(41).

*      مسك الختام:

       وخلاصة المرام في تحقيق المقام:

       يتبين من خلال هذا العرض عناية الإسلام ببناء مجتمع العمران، يتعانق فيه التعاون والمحبة، ويسيران جنبًا إلى جنب، لبناء جدار الأمة الذي انتقض وليستخرجا من تحته كتر البشارة الإلهية والمحمدية الموعودة، خلافة ثانية على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز.

       فالإسلام لا يريد من الإنسان أن يبقى فردًا منقطعًا في فلاة، أو منفردًا في جبال، بل حضه على السعي في إعمار الأرض وتحقيق العبودية الكاملة لله جل وعلا مع المؤمنين، وهذا ما نلاحظه في الخطاب التكليفي القرآني؛ حيث يخاطب الناس بصيغة الجمع، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ…) (يَا أَيَّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا…) (إلاَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّـٰـلِحـٰـتِ وَتَوَاصَوْا بالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر). إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا السياق وهي كثيرة.

       – إن غاية العمران الأخوي تحقيق الوجود الإنساني الذي حدده قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُوْنِ) (الذريات:56).

       – ولن يتحقق هذا العمران الأخوي إلا بالإسلام وتربية الإسلام وأخوة الإسلام، فبالإسلام قام صرحه، فإذا تبرمت الأمة اليوم وضاقت بتعاليمه، لابد أن تهوي عائدة إلى الحضيض الذي كانت فيه، وإلى براثن الجاهلية وأوحال الفتن ما ظهر منها وما بطن.

       – إن العمران الأخوي يتميز عن غيره من حضارات بمعالم واضحة، وأصول ثابتة، وأسس راسخة، أصلها في الأرض وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فهو يربط الأرض بالسماء، ويجعل الدنيا مزرعةً للآخرة. ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّـٰـلِمِينَ﴾ (التوبة:109).

والحمد الذي بنعمته تتم الصالحات

*  *  *

الهوامش:

  • المقدمة، ص:262.
  • Islamiser la modernite, ABDESSALAM YASSINE, el ofok impressions MAROC, edition, mars 1998, p261.
  • مصنف ابن أبي شيبة، 3/70، والسنن الكبرى للحافظ البيهقي رحمه الله، 7/23، والمصنف للحافظ عبد الرزاق ح 7286.
  • تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [700-774هـ]، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2/1420هـ = 1999م، (ج3/ص348).
  • أي: النفيسة.
  • أي: الكثيرة اللَّبَن وَالْمَنِيحَة الشَّاة اللَّبُون أوْ النَّاقة ذات الدَّرّ ثُعَار لِدَرِّهَا فإذا حُلِبَتْ رُدْتْ إلى أَهْلهَا.
  • أي: عِيرهُ لِلرَّكُوبِ .
  • أي: عِيرهُ لِلضَّرَابِ.
  • سنن الإمام أبي داؤد 2/167 – 168 باب حقوق المال.
  • أي: ضَرْعهَا.
  • سنن الإمام الترمذي، باب ما جاء في أن في المال حقًّا سوى الزكاة، سنن ابن ماجه باب ما أدي زكاته فليس بكنز، المصنف للحافظ عبد الرزاق، والمعجم الكبير للطبراني وغيرهم.
  • سنن الإمام ابن ماجه، باب المسلمون شركاء في ثلاث.
  • البذل: التوسع في الخير.
  • سنة الله، للإمام عبد السلام ياسين، مطبوعات الخليج العربي، تطوان، ط 2/1426هـ = / 2005، ص:309.
  • العدل، ص: 554.
  • سنة الله، ص 310-311.
  • مفاهيم ينبغي أن تصحح، د. محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط 11/1425هـ = 2005م، 352.
  • العدل، ص 183.
  • العدل، ص 184.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34

Related Posts