محليات
[الكلمة الضافية التي ألقاها معالي الدكتور عبد العزيز العمار/ حفظه الله ورعاه وكيل وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة والإرشاد في الحفل الذي أقيم في المركز الثقافي الإسلامي في الهند يوم الأربعاء 6/ جمادى الأولى 1431هـ الموافق 21/4/2010م من قبل “جمعية علماء الهند المركزية” وقد حضره مسؤولو الجامعات والمدارس، والمنظمات والهيئات من مختلف ولايات الهند، ولقد كان لكلمة معاليه أثر طيب، استمع إليها الحاضرون بآذان صاغية، ولتعميم النفع نقلت الكلمة بنصها من الشريط وأردنا أن ننشرها على صفحات “الداعي” نفع الله بها طلبة العلم والعاملين في مجال الدعوة].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذا اليوم الطيب المبارك، نلتقي بهذه الوجوه المباركة، فشكرنا لفضيلة الدكتور الأخ عزير أحمد القاسمي، وجمعية علماء الهند المركزية، ومنسوبي المؤسسات الإسلامية في الهند، وفي بداية كلمتي أشكر لسفارة خادم الحرمين الشريفين على تعاونها في تنظيم هذا اللقاء، وعلى رأسها سعادة الأخ السفير فيصل بن حسن طراد وجميع الإخوة في سفارة خادم الحرمين الشريفين.
الأمر الأول:
أشكر الله سبحانه وتعالى الذي جمعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة المباركة، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في جنته، ونحن في هذا الوقت من المنتسبين إلى العلم، وإلى طلبه، منتسبين إلى الدعوة، علينا واجب عظيم، وأمر عظيم، لأن المحن الكبيرة والعقبات التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية عقبات جديدة ومتغيرة، وتحتاج من المسلمين إلى أن يواجهوها مواجهة عاقلة.
الأمر الثاني:
إنه بعد ما عرض فضيلة الدكتور عزير أن ألتقي بالإخوان، كان في ذهني أنه لقاء أخ بإخوانه، وليس هناك شيء يقال عنه محاضرة بقدر ما هو لقاء محبة وأخوة؛ ولكن مما لا شك فيه أن الموضوع الذي طرحه الإخوان، هو الواقع الذي نعيشه نحن الآن في هذه الدعوة، والإخوة المتكلمون الذين سبقوني – جزاهم الله خيرًا – قد مهدوا لي الطريق، بل أقول: قطعوا أكثر الطريق، وسهلوا عليّ، لأن كثيرًا من الكلام الذي كنت لأقوله قالوه، ولن أكرره، بل قالوا تسعين في المائة مما كنت أريد قوله؛ فلهذا – ولله الحمد – أنا أشكرهم على تقديمهم الأمور الطيبة المباركة، وبعض الأحيان يقال: إن المقدمة أكثر من الكتاب.
فأقول: إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن ألتقي بإخواني في هذا اللقاء الطيب، ويسعدني أن أنقل لكم مشاعر إخوانكم بالمملكة العربية السعودية، فأنتم وهم كجسد واحد، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما المؤمون في توادهم وتراحمهم، كالجسد، إذا اشتكى منه عضو واحد، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” وأنقل إليكم مشاعر إخوانكم من بلاد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين.
أنقل لكم تحيات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله – و ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز – سلمه الله – كما أنقل لكم تحيات معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم بن محمد آل الشيخ، وعلماء المملكة، وطلبة العلم فيها.
الإخوة الأفاضل: إن الدين الإسلامي هو دين الله الحق، وهو شامل لكل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما قال تعالى: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(المائدة/3).
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لهذه الشريعة أن تكون خاتمة الرسالات والشرائع، بما حباها الله من يسر وسماحة في مقاصدها العامة، والمجتمع يقوم على عقيدة صحيحة تنبثق منها نوره وأحكامه وآدابه، هذه العقيدة هي الإسلام، ومن هنا جاءت تسميته بالمجتمع الإسلامي، لأنه يتخذ الإسلام منهجًا لحياته، ودستورًا لحكمه، ومصدرًا لشريعته وتوجيهه في كل شؤون الحياة.
وهذه مناسبة طيبة اجتمع فيها نخبة من الإخوة الفضلاء، لتدارس ما يعود بالنفع على أبناء أمتهم، ويسدد خطاهم، وينهض بمؤسساتهم، ليقدموا بذلك النموذج المشرف لسلوك المسلم، الذي يسعى لتحقيق حياة كريمة، تنعم بها الأجيال الحاضرة والقادمة، ويدعو إلى الله على علم وبصيرة في إطار حضاري يراعي مصلحة الشريعة، ويعمل على تحقيقها، ويتجنب ما يسيء إلى الإسلام من معتقد، أو عمل ينافي سماحة الشريعة ومنهاجها، وكذلك تتوطد أواصر الإخوة، ويزداد التعاون على البر والتقوى، ونشر العلم والدعوة إلى الله على علم وبصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، خاصة في شبه القارة الهندية، والتي تضم أرضها ما يعتبر من أكبر الأقليات الإسلامية في العالم.
إن علاقة التعاون بين المملكة العربية السعودية والهند قائمة منذ قديم الزمان، وتطورت هذه العلاقات في السنوات الحاضرة، لتشمل مختلف أوجه التعاون، والمسلمون في الهند ينظرون نظرة تقدير وإعجاب إلى المملكة، لجهودها في رعاية الحرمين الشريفين، وحجاج بيته، وخدمة الإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم.
وفي مسيرة الحضارات الإنسانية تبدو هناك عدة عوامل مؤثرة وفاعلة في نجاح هذه الحضارة أو تلك، ومن شواهد الدراسات التاريخية يتأكد أن الحضارة الإسلامية تجاوزت الزمان والمكان وقد امتزجت مع الحضارات الأخرى وتفاعلت معها.
ومن تلك المناطق التي أثرت وتأثرت بالحضارة الإسلامية، وأصبحت إحدى منارات الإشعاع الثقافي في العالم أجمع هي منطقة شبه القارة الهندية.
وقد كان لهذه المجتمعات – وبشواهد تاريخية – موقف حازم و واضح في دعم الحضارة الإسلامية بمفكريها العظام الذين قدموا للإنسانية فكرًا مستنيرًا.
والهند هي الوطن الذي يحتضن أكبر أقلية مسلمة في العالم، وعلى الرغم من أنهم يمثلون أقلية فيها، إلا أننا نشعر بوجودهم في كافة جوانب حياتها الوطنية. لقد أصبح المجتمع المسلم يمثل إحدى المكونات السياسية التي لايمكن فصلها عن الأمة الهندية، وباعتبارهم جزءًا من مجتمع من مجمل الأمة الإسلامية على مستوى العالم، فإنهم قد ضربوا مثالاً رائعًا للتعايش السلمي مع أغلبية غير مسلمة، بينما يقدمون في نفس الوقت إسهامات رائعة في مجال دراسات المبادئ والعلوم الإسلامية. ويتواكب تاريخ مسلمي الهند مع تأريخ الإسلام في العالم، وإن كل فصل من فصول التأريخ على مدى الخمسة عشر القرن الماضية يشهد إسهاماتهم الرائعة في الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية في الهند.
وقد أردت أن آتي بهذه المقدمة كنموذج لحديثي عن “التعايش السلمي” لأننا إذا تحدثنا عن “التعايش السلمي” لا نتحدث عن خيال، ولا نتحدث عن أمر جديد، أو أمر نريد أن نحدثه، نحن نتكلم عن واقع، قد عاشه الإسلام، فالإسلام منذ أن جاء ضم في الدولة الإسلامية الكبرى – سواء كانت دولة الخلفاء أو الأموية أو العباسية، أو في الدول الإسلامية من شرق الأرض ومغربها – ضم مختلف الأجناس والأعراق والطوائف والديانات والمذاهب، وعلى الرغم من ذلك فقد حصل هذا التعايش، وأنا أردت هنا أن أمثل بواقع التعايش السلمي الموجود في الهند؛ لأنه يقرب الفكرة التي نريد أن نطرحها.
لقد دخل الإسلام بلاد الهند، وهي تعتز بحضارة أصيلة عريقة في القدم، وبصفة عميقة، وعلوم رياضية دقيقة، دخلوها وهم يحملون دينًا جديدًا سائغًا معقولاً سهلاً وسمحًا، وعلومًا اختمرت وتوسعت، وحضارة تهذبت ورقت حواشيها، يحملون معهم محصول عقول كبيرة، ونتائج حضارات متنوعة.
وأما في الاجتماع فكان أعجب ما عمله المسلمون معهم هي المساواة الإنسانية التي فطر الله عليها المسلم، وربي بها، فلا نظام طبقات، ولا جاهل يحرم عليه التعليم، ولا تقسيم أيدي الحرف والصناعات، ولا شك أنها أفادت الهند كثيرًا، وكانت حافزة لدعاة الإصلاح الاجتماعي. ولقد قرر هذه الحقيقة ما قاله رئيس وزراء الهند السابق: “نهرو” إذ قال: “إن دخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، وإن نظرية الأخوة الإسلامية، والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها أثرت في تأثيرًا عميقا” [هناك حديث كثير لا أريد أن أطيل، لأنني أريد أن أصل إلى النهاية؛ لأنني رأيت الوقت قد أوشك على الانتهاء؛ ولأنني تحدثت هنا كثيرًا عن ما نقله المسلمون لاحترام المرأة المسلمة وما نقلوه من علوم جديدة كذلك، وتأثير المسلمين في المدنية والصناعة وأساليب الحياة وتراث العلماء المسلمين العلمي في الهند والعناية باللغة العربية ودور علماء الهند في إثراء التراث الإسلامي والإنساني، وذلك من خلال الدول التي حكمت الهند في القرون الماضية، وكان في ذلك صورة واضحة للتعايش السلمي. وأخلص من هذا إلى أن التعايش السلمي أمر مهم جدًا، سواء كان ما بين الأديان، أو ما بين المذاهب، أو ما بين الفرق؛ ولكن السؤال الذي يطرحه نفسه دائمًا إذا كان هو التعايش، والمقصود بالتعايش ليس التنازل، وليس التعايش هو المجاملة؛ ولكن التعايش هو أن ترضى بهذا الإنسان الذي يعيش معك، أنه يعيش بمذهبه، أو بدينه، أو بفرقته، وأنكم تديرون هذا الكون الذي استعمركم الله سبحانه وتعالى فيه. والسبيل لتحقيق ذلك لا يكون إلا بالتقارب، والتقارب يكون بالحوار، والحوار ليس بالحوار الفلسفي، أو الحوار الذي يريد أن يغلب الآخر في رأيه، وأن ينتصر عليه، ويريد من الآخر أن ينهزم. والحوار الذي يطرحه المسلم يطرحه بجدية مع الآخر، بأنه هو وإياه في مكانة واحدة، والحوار الذي نطرحه ونؤيده، هو أن نصل إلى أفكار نتعايش فيها، ليس بلازم أن نصل إلى أفكار نتنازل عنها، أو ثوابت نتنازل عنها.
ومجمل كلمتي أقول: قد شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يختلف الناس في ألوانهم، وطباعهم، وأفهامهم، وهذا الاختلاف هو سنة من سنن الله في خلقه؛ فالله تعالى قد أقام الوجود كله على أساس التعددية والتنوع. وفي القوميات والأجناس تعدديه تتحدث عنها آية من آيات الله فقد قال تعالى {وَمِنْ آيـٰـتِهِ خَلْقُ السَّمـٰـوٰتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم/22) وهناك تعددية في الشرائع ثم في الحضارات كما قال سبحانه وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَّمِنْهَاجًا} (المائدة/48) وقال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَّاحِدَةً}(هود/118) فالحوار أمر مشروع، ومستمد من القرآن الكريم، فقد ورد لفظ الحوار في القرآن في ثلاثة مواضع، كما في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}(الكهف/34) وكما قال تعالى {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}(الكهف/37) وكما جاء في قوله تعالى {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِيْ تُجـٰـدِلُكَ فِيْ زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تُحَاوِرَكُمَا}(المجادلة/1) ويفهم من هذا أن الحوار هو مراجعة الكلام وتدواله بين طرفين، والأخذ والرد فيه، ولأهمية الحوار فإنه يعد أصلاً ثابتًا من أصول الحضارة الإسلامية، ومبدءًا من مبادئ الشرع الحنيف، وهو منهج اسلامي نجد جذوره في القرآن والسنة كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِيْ الأَرْضِ خَلِيْفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة/30).
كما أكد على أهمية هذا الحوار بين أصحاب وجهات النظر المختلفة، وأصحاب الثقافات والحضارات المختلفة، فقد علّم القرآن أتباعه كيف يجب أن يكون حوار، قال تعالى {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(العنكبوت/46). وكان منهج الحوار مع الحضارات القائم على التعامل والتفاعل بحيث يستفيد بعضها من بعض، ويكمل بعضها بعضًا في شؤون الحياة المختلفة، هو سبيل الدولة الإسلامية في التعامل مع الشعوب التي دخلت فيها، سواء كانت مسلمة، أو غير مسلمة، كان بالحوار، فالكل يعملون في مناخٍ يتسم بالحرية والتسامح والسلام والطمأنينة، وصارت التعددية سمة المجتمع الإسلامي، تعددية في الديانات واللغات والمذاهب، ونتج عن ذلك حضارة خاصة، وتطورت الثقافة الإسلامية مع الزمن وأصبحت مزيجاً من ثقافات الأمم القديمة، وخلقت من تمازجها ثقافة جديدة.
{فأي حضارة في الدنيا، وأي دول كبرى لا تقوم إلا بالرضى بالتعددية، لأنه إذا أرادت أن تطمس حضارة أخرى، أو لغة أخرى، أو ديانة أخرى معناها نهايتها هي. لو جئنا إلى الدولة الإسلامية وجدنا أن الدولة الإسلامية دخل فيها الأكراد، والفرس، والترك، والبربر، وتركتهم في عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم، ولم تطمسها؛ لأن الحضارة الإسلامية حضارة تحترم الإنسان الذي فيها، وبداية سقوط أي حضارة إذا بدأت تطمس وتقضي على الأقليات الموجودة فيها، فقوة الدول الكبيرة هي بقوة الأقليات فيها، وقوة الحضارات الكبيرة هي بقوة الأقليات التي هي فيها}.
ولا يمكن إنكار أهمية الحوار مع الآخر فهذا الحوار ليس فقط للدفاع عن الذات في مواجهة الآخر، وإنما هي خطوة نحو بناء تصور حضاري واحد، لعالم متكامل تجتمع فيها الخصوصيات الحضارية التي أسهمت في رقي الإنسان، ويسهم في تحقيق النمو والتكامل، وخلق الظروف المناسبة للسلام التي تسعى إليها البشرية. والحوار الإيجابي والفعال يعني الانفتاح على أصحاب العقائد المختلفة، من أجل توضيح ما خفي عليهم من عقيدتنا، وتوضيح البعد الإنساني لما ندعو إليه.
وتمتاز الحضارة الإسلامية بميزات أذكر منها ما يلي:
أولاً: الشمول الذي يستوعب قضايا الإنسان في نظرته للحياة، وفي علاقته بالآخرين.
ثانياً: الاعتراف بالآخر على مستوى نظرته للأديان السماوية، أو على مستوى الإسهامات.
ثالثاً: القدرة على المواكبة الجادة لقضايا الإنسان، والمتغيرات المكانية والزمانية.
إن الحضارات تتواصل، ولا يمكن أن تنغلق، فهي تعطي وتأخذ، ولذلك فإن التنوع هو مصدر إثراء وإعطاء لصالح تقدم الإنسان، بغض النظر عن هويته وثقافته. وذلك التنوع يؤكد حقيقة هامة، وهو أنه لايمكن لحضارة بعينها احتكار قيم التقدم وأساليبه، فالتقدم الإنساني هو محصلة حضارات متنوعة، وتجارب متعددة، وقد تزايد أهمية الحوار بين الحضارات، وتعمق الاقتناع به وبدوره في تحقيق وفاق ثابت بين أبناء الأمة الواحدة، وتفاهم مشترك بين الشعوب المختلفة، على أساس قاعدة الكرامة والعدالة والمساواة في هذه المرحلة من التأريخ الإنساني؛ حيث تتصاعد التحديات التي تواجه البشرية في المجالات كافة، وتتفاقم الأزمات التي تهدد حياة الأفراد والجماعات والتي تعوق الجهود المبذولة من أجل التنمية الشاملة، والتي تؤدي إلى اتساع الفجوة بين الدول المتقدمة صناعيًا، والدول النامية، وإلى نشوب الحروب واندلاع التوترات في مناطق شتى من أنحاء العالم. والتاريخ الحضاري بين الشعوب والقبائل على مدى الأزمان المتعاقبة هو مزيج متشابك من علاقات متباينة، والمصالح المتلاقية، وكلما تباينت وجهة النظر، واضطربت العلاقات، وتباعدت المصالح، قامت الحروب، والكوارث الماحقة، ولم تكن الحروب العالمية والإقليمية إلا إحدى نتائج فقدان سبيل الحوار، وعند الحديث عن أهداف الحوار، أقول: إن للأهداف أهمية كبيــرة في الحوار، وللحوار أهداف عدة هي:
أولاً: البحث عن قواسم مشتركة مع الآخرين لحل المشكلات القائمة، أو تخفيف آثارها عن الإنسان في رسالتنا في جوهرها {إلا رحمة للعالمين}.
ثانيًا: الحرص على الوصول إلى الحق، وتضييق هوة الخلاف ما أمكن، وتقريب وجهات النظر.
ثالثاً: الرد على الشبهات والطعون الموجهة ضد الإسلام. وذلك لإظهار الإسلام كما هو من كمال وجمال.
رابعًا: الإفادة مما عند الآخرين من منجزات علمية، وتقدم مدني.
وهل العلاقة بين الحضارات علاقة صراع أم حوار.
العلاقة بين الحضارات هي علاقة حوار، وليست صراع، حوار بين الحضارات المختلفة التي تعتمد ثقافات متفاوته في نظرتها إلى الكون والوجود، ويقصد بها رسم مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم ضمن دائرة التفاهم المشترك، والحوار وسيلة من وسائل التفاعل بين الحضارات ولمنع حدوث الصدام ونشوب الصراع، يكون الحوار المتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى على ثلاث منطلقات:
أولاً: الاحترام المتبادل والإنصاف والعدل، ونبذ العنصرية والكراهية بغير الحق، فالحوار مع الآخر هو نتيجة طبيعية للتسامح، والحضارة الإسلامية كانت هي حضارة العالم لعقود كثيرة؛ حيث أسهمت بكنوزها في مختلف مجالات العلوم في الإسراع بعصر النهضة الأوروبية، وأقول هنا: إن الحوار هو الاعتراف بحق الآخر واحترامه، فالاعتراف بحق الآخر واحترامه يعد شرطاً ضروريًا لجناح الحوار، والإسلام عمليًّا يعترف بالآخر، ويقر له بشروط متساوية في الخلق ومنذ النشأة، دون أن يحدد هوية الآخر أو نمط تفكيره أو انتمائه أو دينه {لَكُمْ دِيْنُكُمْ وَلِيَ دِين}(الكافرون/6).
فالحوار في الإسلام لا يأتي من باب المتنصر والمنهزم، ولا الغالب ولا المغلوب، وإنما يأتي الحوار لأن الإسلام يعترف بالآخر، فالذي يحاورني كذلك لابد أن يعترف بي.
حوار الحضارات ضرورة إنسانية وحتمية
إن التغير بين الأشياء سنة ربانية، ومعجزة كونية أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن تقوم الحياة وتستمر، بل ويعلو شأنها، ويرتفع جراء التنافس بين المتشابهات، والمرافقة بين المتغيرات والمتضادات كما قال سبحانه وتعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(هود/118) والإسلام في علاقته بالحضارات الأخرى متميز فما كان مشتركاً فلا مانع من التعاون، وتبادل المنافع والمصالح فيه مع الآخرين، أما ما كان من قبيل الخصوصية الحضارية التي تختص بها كل أمة بحسب دينها وثوابتها وهويتها الفكرية والتربوية والأخلاقية، فالأصل أن تحافظ الأمة فيه على خصوصيتها وهويتها وتميزها واستقلالها، والحضارة ليست ملكية خاصة لشعب أو جماعة؛ ولكنها إرث مشترك للجميع الذين ساهموا في بنائها؛ لذا فالحوار بين الحضارات ضرورة حتمية، وواجب أخلاقي.
وفي الختام أقول: ينبغي الاعتراف بأن مسيرة عمارة الأرض تعاني من خلل كبير، خلل في القيم والمبادئ والأخلاقيات، وخلل في الوسائل والماديات والمهارات، فيجب العمل على ما يلي:
أولاً: تدارك الخلل واصلاح مناهج السير الحضاري لتكون في توازنية متكاملة، توازنية القيم والماديات، وتوازنية المبادئ والوسائل، وتوازنية الأخلاق والمهارات، وفق منهج الاستخلاف الرباني لعمارة الأرض ليستقيم من بعد السير الحضاري العالمي وتحقيق ثماره الطيبة المنشودة للناس جميعًا على السواء.
ثانياً: إعادة التوازن بين حركة العلوم والتكنولوجيا من جهة، وبين القيم الأخلاقية والدينية من جهة أخرى، لضبط النتائج المعرفية؛ لتكون في صالح كرامة الإنسان، وسلامة البيئة، والتعايش البشري مع الأمن.
ثالثاً: العمل على منع العدوان والاضطهاد، والظلم بين الناس.
رابعًا: التأكيد على ضرورة السير معاً في السلام والوئام على أساس من إرادة الله سبحانه وتعالى لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل ووقف ظاهرة التدهور الأخلاقي والتفسخ الأسري.
خامسًا: تطبيق القيم الربانية والضبط التكنولوجي والمعرفي، والحوار الثقافي والحضاري بين الناس؛ لأنها من الضرورات الملحة من أجل الوصول إلى نظام عالمي رشيد، وعولمة عاجلة آمنة.
{إذًا الحوار أمر مهم جدًّا في الصورة التي ذكرتُها، ليس الحوار هو التنازل، ليس الحوار في المبادئ، أو الحوار في الثوابت؛ لكن الحوار كما ذكرتُ هو التعارف؛ لأنه إذا تعرفتَ على الشخص الآخر وعرفك تعايشتَ معه، فحصيلة هذا الحوار هو التعايش، وحصيلة التعايش هو بناء الحضارة الإنسانية التي تعيشها، نحن نعيش في هذه الأرض سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين، ليس هناك فرق في هذه القضية أن نعيش، كلنا نأكل، كلنا نشرب، وكلنا ننام، وكلنا ندرس، وكلنا نتعلم.
وهناك أمور إنسانية مهمة للجميع، هناك حضارة إنسانية للجميع، كل له حق فيها، هناك الأمن، وهذا حق الجميع، فنحن حينما ننفتح على الحضارات الأخرى، والديانات الأخرى والفرق، ولا أقول مذاهب؛ لأنه لي كلمة قصيرة عن قضية المذاهب، ولا أتكلم عن المذاهب المعروفة التي تعيشها، إذا عشنا هذا الذي نحن ندعو إليه، فهذا هو الإسلام وهذه حضارة الإسلام.
أما من يأتي – كما ذكر أحد المتحدثين – ويصف المسلمين بأنهم إرهابيون، أو أنهم غلاة، هذا لاشك أنه عدوان وظلم، وأن المسلمين بعيدون كل البعد عن أن يوصفوا بالغلو والتطرف، وإذا وقع – كما ذكر أحد الإخوان قبل قليل – من فئة قليلة لا يمكن أن يوصف بها الإسلام، أو أن يوصف بها المسلمون؛ ولكن لابد ومن المهم أن يكون لنا وقفة، ويكون لنا توضيح لهذه الأمور وإلا وصفنا بها نحن جميعًا.
الأمر الثاني: ما تطرق له المتحدث الأخير – جزاه الله كل خير – في موضوع التكفير، الحقيقة هذه قضية خطيرة، ومسألة عظيمة، وأنا أشكره عليها؛ لأننا تكلمنا قبل قليل في التعايش بين الفرق، أما ما بيننا نحن لا يصح هذا. بل بيننا الأخوة الإيمانية التي تتطلب منا أن يدعو بعضنا لبعض، وأن نعيش جميعًا في هذه الدنيا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نلتقي في جنات نعيم، فنحن بيننا من الصلات القوية التي لا يصح معها هذا. وقضية التكفير خطيرة فلا يجوز أن يكفر المسلم بأي ذنب، ولا في المسائل الخلافية، وقبل قليل كان يتكلم أحد الإخوان عن قضية الخلاف. نعم الخلاف موجود، وليس بعيب أن يكون هناك خلاف. وأنا أسمع كثيرٌ من الأخوان يقولون المذاهب أربعة، والمدارس أربعة، أقول لا، هي مدرسة واحدة، الكتاب والسنة؛ لكن لها أربعة أبواب: باب الإمام أحمد، باب الشافعي، وباب أبي حنيفة، وباب مالك، وكل يدخل من هذا الباب؛ ولكن في الداخل باب واحد هو الكتاب والسنة. فالإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي أخذوا من مشرب واحد لا يتغير حتى في أصول الاجتهاد عندهم؛ ولكن هناك من وصله الحديث أو لم يصله أو فهمه للواقع، حتى تلاميذ الأئمة قالوا بأقوال يختلف عنهم. سبحان الله تكلم الأخ وأنا كنت أقرأ قبل سنين طويلة في كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية “تعارض العقل والنقل” رأيت البارحة كتابًا وإذا مؤلفه ينقل من كتاب “تعارض العقل والنقل” عن ابن تيمية في هذا الموضوع.
يقول ابن تيمية: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة {أهل القبلة كلهم} ليس هنا مذاهب أربعة حتى المذاهب الألف وليس هناك شيء اسمه المذاهب الأربعة، والدليل عليها أن نقول المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل: أن الله تعالى هو عالم بالعلم أو بالذات، وهو تعالى هل هو موجود (هو يتكلم عن المعتزلة) أو أنه متحيز وهل هو في مكان أوجهة، وهل هو مرئي أو لا؟ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين (انظروا إلى هذه الكلمة) لكان الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلما لم يطالبهم في هذه المسائل بل ما جرى من حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام ولا في زمان الصحابة والتابعين علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن (هذه النقطة مهمة) الخطأ في هذه المسائل قادحٌ في حقيقة الإسلام وذلك يقتضي الامتناع عن تكفير أهل القبلة، إن الكفر (هذا الكلام ليس كلامي) حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة والعقل قد يعلم به صواب القول أو خطاؤه؛ ولكن ليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل تجب في الشرع معرفته، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، وقد نقل عن الشافعي – رحمه الله – (عفوًا هو قال: رضي الله تعالى عنه) قال: لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب (الخطابية من غلاة الشيعة؛ لأنهم قالوا: إن عليًّا رسول صامت وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسولاً ناطقًا.
أما أبو حنيفة رضي الله عنه فقد حكى الحاكم صاحب “المختصر” في كتاب “المنتقى” عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكوفي وغيره مثل ذلك بعدم تكفير أهل القبلة.
فما ذكره أخونا جزاه الله كل خير أنا أريده أنه يرفض رفضًا تاماً تكفير أحدٍ من أهل القبلة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن مسائل الخلاف التي اختلف فيها المسلمون لا يتوقف الإيمان بهذه الأمور.
فأعود وأقول: إن الأخوة الإيمانية تقتضي منا أن يكون بيننا المحبة والمودة، ولا نتجرأ في قضية التكفير ولا في قضية التفسيق، وأنا أذكر كلمة منذ سنين أعجبتني للشيخ محمد شفيع كان يتكلم عن المسائل الخلافية، أظن أنه ألف فيها رسالة، وسمعت هذا بأذني قبل وفاته – رحمه الله – قال: إن الخلاف أمر موجود في الأمة ولكن الذي ننكره التنازع والفرقة.
في ختام كلمتي أعود وأكرر شكري لفضيلة الشيخ الدكتور عزير أحمد القاسمي، ولجمعية علماء الهند المركزية، ولجميع الإخوان الذين جاءوا، لا أقول لسماع كلمة أخيهم؛ ولكن للقاء بأخيهم، فشكر الله لهم، ونحن في المملكة العربية السعودية تجمعنا بإخواننا في الهند علاقةٌ قويةٌ وراسخةٌ، نحن وإياهم نتوجه إلى قبلة واحدة، ونعبد الله سبحانه وتعالى، ونحن كالجسد الواحد معهم، نمد أيدينا لهم، وهم كذلك يمدون أيديهم لنا. نحن نجد من إخواننا في الهند كل محبة وكل مودة، وحينما نقترب منهم لا نريد أن يكون هناك خلاف، ولا نريد أن تكون صلتنا بهم سببًا للخلاف (وهذه نقطة مهمة) إذا كان هناك سببًا للخلاف نخرج ونترككم، ولكننا نعتقد إن شاء الله أن علاقتنا بإخواننا بمختلف مشاربهم، إنما هي علاقة أخوة ومحبة إيمانية، تعرفنا على كثير منهم، واجتمعنا بهم، وبقيت لنا علاقات بهم جيدة وقوية راسخة؛ لأنها في الله سبحانه وتعالى وما كان لله لايمكن أن يتغير، هذا ما أحببت أن أقوله لكم، واقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ولكم، وأن يلهمنا الصواب، ويبعدنا عن الغي والخطأ. إذاً إن كنت ما قلت لكم حقّاً فهو من الله، وما كان من خطأ، فإنه من نفسي ومن الشيطان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين*
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1431 هـ = أغسطس – أكتوبر 2010م ، العدد :9-10 ، السنة : 34