الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ فوزي فاضل الزفزاف
جُبلت النفسُ البشريةُ على التحرر والانطلاق، والرغبة في تحقيق الشهوات، والاستغراق في الاستمتاع باللذات، والابتعاد عن كل قيد يُحد من تحررها، ويكبح من انطلاقها، ويهذب من شهواتها، ويقيد من لذاتها.
لذلك فالموعظة ثقيلة على السمع، مضيقة على النفس، بعيدة من القبول، لاعتراضها الشهوة، ومضادها الهوى، الذي هو ربيع القلب، ومراد الروح، ومربع اللهو، ومسرح الأماني.. إلا من نفعه علمُه، وأرشده قلبُه، وأحكمته تجربتُه، وأحسن الاستماع إلى من يعظه، واستفاد مما يحدث لغيره، قال الشاعر:
لن ترجع الأنفس عن غيها
حتى يرى منها لها واعــظ
وعندما قال الحكماء: السعيد من وعظ بغيره، فإنهم لا يعنون من وعظه غيره بقدر ما يقصدون من رأى العبر في غيره فاتعظ بها في نفسه، ولذلك كان الحسن يقول: اقترعوا هذه النفوس فإنها طُلعة “كثيرة التطلع” وحادثوها بالذكر “اجلوها بذكر الله” فإنها سريعة الدثور، واعصوها فإنها إن أُطيعت نزعت إلى شر غاية”، وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختم موعظته: يالها من موعظة لو صادفت من القلوب حياة.
وكان ابن السماك يقول: إذا فرغ من كلامه: أَلْسُنٌ تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
والموعظة الحسنة مانعة للنفس مما تشتهي، حاملة لها على فعل ما تكره وترك ما تحب، غير أن الموعظة الحسنة إذا تلقتها النفس بسمع قد فتقته العبرة، وقلب قد قدحت فيه الفكرة، لها من علمها زاجر، ومن عقلها رادع؛ فإنها تقبل على الطاعة، فيفتح لها باب التوبة، ويوضح لها سبيل الإنابة، فتنال خيري الدنيا والآخرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات”، يريد – عليه الصلاة والسلام – أن يبين لنا أن الطريق إلى الجنة سبيله تحمل المكاره في الدنيا والصبر عليها، والطريق إلى النار الجري وراء الاستمتاع بالشهوات، والانغماس في الملذات .
وهذا يرشدنا إلى شرف رسالة الداعية، وإلى مهمته السامية – التي هي امتداد لرسالة الأنبياء والرسل – عليهم جميعًا الصلاة والسلام – وهذا إذا أخلص الداعية النية في أدائها، وأجاد في توصيلها، وراقب الله وخشيه في أقواله وأفعاله.
ولذا قال الحكماء: خير الموعظة ما كان من قائل مخلص، إلى سامع منصف .
وقالوا: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان .
وقالوا: ما أحسن التاج! وهو على رأس الملك أحسن، وما أحسن الدر! وهو على نحر الفتاة أحسن، وما أحسن الموعظة! وهي من الفاضل التقي أحسن .
وقال زياد: أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون، أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا.
قال الشاعر:
اعمل بقولي وإن قصرت في عملي
ينفعك قولي ولايضررك تقصيري
وقال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما انتفعت بكلام كتبه إليَّ عليُّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كتب إليّ: أما بعد: فإن المرء يسره إدراك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من أمر دنياك فلا تكن به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعًا، وليكن همك ما بعد الموت .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ابن آدم: اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك؛ وصحّتك قبل سقمك؛ وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك؛ وحياتك قبل موتك”.
وقال عيسى ابن مريم عليها السلام: “ألا أخبركم بخيركم مجالسةً؟ قالوا: بلى ياروح الله، قال: من تذكركم بالله رؤيته، ويزيد في عملكم منطقه، ويشوقكم إلى الجنة عمله”.
وقال عيسى عليه السلام للحواريين: “لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية”.
وقال أشعياء لبني إسرائيل: “إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينًا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوةً، إن الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صح كفاه القليل من الحكمة، كم من سراج قد أطفأته الريحُ؟ وكم من عابد قد أفسده العجبُ؟ يابني إسرائيل: اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حققها بعمله”.
وقف حكيم بباب بعض الملوك محجب، فتلطف برقعة وأوصلها إليه، وكتب فيها هذا البيت:
ألم تر أن الفقر يرجى لـــه الغنى
وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
فلما قرأ البيت لم يلبث أن انتعل وجعل لاطئه “قلنسوةً” على رأسه، وخرج على عجل في ثوب فضال “الثوب الذي يلبس في البيت للنوم” وخاطب الحكيم قائلاً: والله ما اتعظت بشيء بعد القرآن الكريم اتعاظي ببيتك هذا!! ثم قضى حوائجه.
وذكر عن وهب بن منبّه أن يوسف عليه السلام لما لبث في السجن بضع سنين، أرسل الله جبريل إليه بالبشارة بخروجه، فقال جبريل: أما تعرفني أيها الصديق؟ قال يوسف: أرى صورةً طاهرةً وروحًا طيبًا لا يشبه أرواح الخاطئين، قال جبريل: أنا الروح الأمين، رسول رب العالمين، قال يوسف: فما أدخلك مداخل المذنبين وأنت رأس المقربين؟ قال: ألم تعلم أيها الصديق أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين، وأن البقة التي تكون فيها هي أطهر الأرضين، وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله!! قال يوسف: كيف تشبهني بالصالحين، وتسميني بأسماء الصادقين، وتعدني مع آبائي المخلصين، وأنا أسيرٌ بين هؤلاء المجرمين؟ قال جبريل: لم يكلم قلبَك الجزعُ، ولم يغير خلقك البلاءُ، ولم يتعاظمك السجنُ، ولم تطأ فراش سيدك، ولم ينسك بلاءُ الدنيا بلاء الآخرة، ولم تنسك نفسك أباك، وهذا الزمان الذي يفك الله فيه عنقك، ويعتق فيه رقبتك، ويبين للناس فيه حكمتك، ويصدق رؤياك، وينصفك ممن ظلمك، ويجمع لك أحبتك، ويهب لك ملك مصر تملك ملوكها، ويذل جبابرتها، وتصغر عظماءها، ويذل لك أعزتها، ويخدمك سوقتها، يخولك خولها، ويرحم بك ساكنيها، ويلقي لك المودة والهيبة في قلوبهم، ويجعل لك اليد العليا عليهم، والأثر الصالح فيهم، ويرى فرعون حلمًا يفزع منه حتى يسهر ليله، ويذهب نومه، ويغمى عليه تفسيره وعلى السحرة والكهنة، ويعلمك تأويله .
وقال المسيح عليه السلام: إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذ نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجلها إذ نظروا إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، هم أعداء لما سالم الناس، وسلم لما عادى الناس، لهم خير، وعندهم الخبر العجيب، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الهدى وبه عملوا، لا يرون أمانًا دون ما يرجون، ولا خوفًا دون ما يحذرون.
وقال داود عليه السلام: يارب: ابن أدم ليس منه شعرة إلا وتحتها لك نعمة، وفوقها لك نعمة، فمن أين يكافئك بما أعطيته؟ فأوحى الله إليه: يا داود: إني أعطي الكثير، وأرضى من عبادي بالقليل، وأرضى من شكر نعمتي بأن يعلم العبد أن ما به من نعمة فمن عندي لا من عند نفسه.
وقال أبوبكر: الصديق لعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – عند موته حين استخلفه: أوصيك بتقوى الله، فإن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه لايقبل نافلةً حتى تُؤدى الفرائضُ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا بالحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان لايوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا سمعت بهم قلت: إني أخاف ألا أكون من هؤلاء، وذكر أهل النار بأقبح أعمالهم، وأمسك عن حسناتهم، فإذا سمعت بهم قلت: أنا خير من هؤلاء، وذكر آية الرحمة مع آية العذاب: ليكون العبد راغبًا راهبًا، لا يتمنى على الله غيرالحق، فإذا حفظت وصيتي فلا يكونن غائبٌ أحب إليك من الموت، وهو آتيك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره إليك من الموت، ولن تعجزه .
وأوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبيائه: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلت الملوك عليه رحمةً، ومن عصاني جعلت الملوك عليه نقمةً.
وفي بعض الكتب: عبدي: كم أتحبب إليك بالنعم وتتبغض إليّ بالمعاصي، خيري إليك نازل، وشرك إليّ صاعد.
ومما أنزل على المسيح عليه السلام في الإنجيل: شوقناكم فلم تشتاقوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، يا صاحب الخمسين! ما قدمت وما أخرت؟ يا صاحب الستين! قد دنا حصادك! يا صاحب السبعين هلم إلى الحساب .
قال رجل لبعض الحكماء: عظني! قال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقال أبو جعفر لسفيان: عظني! قال: وما عملت فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟
كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء: أما بعد، فإنك لن تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تنال ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره، فليكن كلامك ذكرًا وصمتك فكرًا، ونظرك عبرًا، فإن الدنيا تتقلب وبهجتها تتغير فلا تغتر بها، وليكن بيتك المسجد. والسلام.
فأجابه أبو الدرداء: سلام عليك، أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله؛ وأن تأخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك؛ ومن فراغك لشغلك؛ ومن حياتك لموتك؛ ومن جفائك لمودتك، واذكر حياةً لا موت فيها في إحدى المنزلتين، إما في الجنة، وإما في النار، فإنّك لا تدري إلى أيهما تصير؟
قال هارون الرشيد لابن السماك: عظني! قال: كفى بالقرآن واعظاً، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر: الآيات 6-14.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34