الفكر الإسلامي
بقلم : الأستاذ عبد الله محمد كامل
روى ابن عبد البر من حديث أنس رضي الله تعالى عنه : قيل: يارسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: “العلم بالله عز وجل” فقيل: أي العلم تريد؟ قال صلى الله عليه وسلم: “العلم بالله سبحانه وتعالى”. فقيل له: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم! فقال صلى الله عليه وسلم: “إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله، وإن كثير العمل لاينفع مع الجهل بالله”.
من هذا نرى صلة العلم بالإسلام أنه أساس للمسلم ومصاحب له طيلة حياته ووسيلة إلى المعرفة الحقة بالله تعالى حتى ينضبط العلم ولا يكون إلا لصالح الدنيا وأهلها وطريقًا إلى سعادة الآخرة والرقي فيها .
ويكفي أن الله تعالى جعل أُولي العلم هم ثالث ثلاثة شهدوا على وجوده ووحدانيته، فأول الشاهدين هو الله تعالى بنفسه، ثم الملائكة الكرام، وضمّ الله إليهم أهل العلم حيث يقول الله سبحانه: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّه لاَ إلـٰـهَ إلاّ هُوَ وَالْملاَئِكَةُ وأُوْلُوْ الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إلـٰـهَ إلاّ هُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْم﴾ آل عمران: آية 18.
وجعل تفصيل القرآن الكريم وفهمه متوقفًا على العلم وكفى شرفًا للعلم والعلماء أن يكون كتاب الله تعالى مبنيًا على تفصيله وفهمه على ما أخبر به المولى تعالى في قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلىٰ عِلْم هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ﴾ الأعراف: آية 52.
والعلاقة في القرآن الكريم واضحة بين العقل والشرع وبين الفهم الصحيح لكتاب الله تعالى والتفكير المنطقي العقلي وتأمل قول الله عز وجل: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاّ العَالِمُوْنَ﴾ العنكبوت: آية 43، وموقع الآية في سورة العنكبوت واضح الدلالة على الربط بين التوحيد والفهم السليم والتأمل الصحيح في الكون والمخلوقات للاستدلال على الخالق جل شأنه وكمال صفاته حيث يضرب الله المثل لمن أشركوا بالله كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا واهيًا واهنًا ولو علم المشركون والملحدون أن أفكارهم وعلمهم بما سوى الله وتعيظيمهم وعبادتهم غير الله إنما هو سراب مثل بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئًا لعرفوا أن ما يدعون من دون الله ليس شيئًا وإنما وهم وخداع ثم يأتي الله بهذه الآية السابقة ليخبر أن العالم الحقيقي والعلم الصحيح والتفكير السليم هو الذي يعقل أن الكون كله مخلوق ومربوب لله واستخلف البشر فيه ليعمروا الدنيا بنور الله تعالى على هدى الرسل والأنبياء وما جاءوا به؛ ولذلك يأتي بعد هذه الآية ذكر خلق السموات والأرض بالحق وأن ذلك آية للمؤمنين ويتم الإعجاز العجيب بالأمر بتلاوة القرآن الْمُوْحىٰ به من الله وإقام الصلاة للصلة بالله على أساس علمي حتى تنهى عن الفحشاء والمنكر ونعيد قراءة الآيات مترابطةً مع بعضها السابقة واللاحقة لقول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إلاّ العَالِمُون﴾ واقرأ معي متأملاً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ السَّمـٰـوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ * اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ العنكبوت: الآيات 41-45.
وكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين قيمة العلم في الدين وأهمية الفهم والعقل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدين ويلهمه رشده” متفق عليه من حديث معاوية دون قوله “ويهلمه رشده” وهذه الزيادة عن الطبراني في الكبير، وحديث صحيح آخر يجعل رتبة العلماء بعد رتبة النبوة التي لا شرف فوقها حيث أخرج أبو داود والترمذي وابن حبان وابن ماجة من حديث أبي الدرداء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء”.
قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعُ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾ المجادلة: آية 11، يقول ابن عباس في شرحه وتفسيره لتلك الآية: “للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام”، فهل يدعي إنسان بعد ذلك أن هناك خصومة بين الدين والعلم وهل يكابر الذين يتركون الجامعات والمدارس والتعليم مدعين أنهم يتعبدون إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِيْ الَّذِيْنَ يَعْلَمُوْنَ وَالذِيْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾ الزمر: آية9، لقد ذكر الله تعالى هذا السؤال الجوهري في الآية بعد الإشادة بالقائمين لله في الأسحار سجدًا وقيامًا، وختم الآية بالإشادة بأصحاب العقول وأولي الألباب أي القمم بين أصحاب العقول فهل يكون سؤال الله تعالى عبثًا وهوىً، ذكره بين مدحه لصفوة العباد وصفوة العقلاء ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ الزمر: آية 9.
ونستمع إلى قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه.. العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والعلم تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق ومن شعره الحكيم رضي الله تعالى عنه:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو
على الهدى لمن استهــدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعـداء
ففز بعلم تعش حيا بـه أبـدًا
الناس موتى وأهل العلم أحياء
فأي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فاته من أدرك العلم ومن كلام ابن المبارك – رحمه الله – عجبت لمن لم يطلبه العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة”، والعلم فضيلة في ذاته دون إضافة شيء إليه بشرط أن يكون لله، فسلامة الدين بالعلم الشرعي وسلامة البدن بعلم الطب وسلامة المعاملات بعلم الحساب، وسلامة الدنيا والآخرة بالعلم النافع وهو الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه: “اللهم إني أسألك علمًا نافعًا” وتعوذ بالله من علم لا ينفع بل إن الله تعالى لم يأمره بطلب المزيد من شيء سوى العلم ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه: آية 114. وشرف العلم يزداد بشرف ثمرته وأشرف الثمار القرب من الله تعالى والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى ثم يأتي بعد ذلك عز الدنيا والوقار والاحترام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم النافع من أهم مواريث الرجل الصالح التي تبقى بعد وفاته مع الولد الصالح والصدقة الجارية وإذا تأملنا بعض الآيات الكريمات من سورة فاطر نجد أن خشية الله تعالى مقصورة على العلماء؛ ولكن قوله تعالى: ﴿إنَّمَا يَخْشَ اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ فاطر: آية 2، تتوسط آيات التأمل والتدبر في الكون من سماواته وأرضه وجباله ووهاده واختلاف الألسنة والألوان وعجائب الحيوان والنبات وكل هذا العلم الذي يبدو دنيويًا وهو في الحقيقة شرعي أخروي ثم يأتي بعدها حديث المولى عز وجل عن درجات أهل القرآن واصطفائهم، وهذا شيء عجيب يدعو للتأمل حيث تكرر كما سبق في سورة العنكبوت والزمر. ولنعش معًا آيات من سورة فاطر تتوسطها خشية العلماء لله ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰـبَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ فاطر: الآيات 27-30 .
ونستكمل بمشيئة الله تعالى علاقة الإسلام بالعلم والعلماء وضوابط الإسلام للعلم النافع وثماره ووسائله.
وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34