الأدب الإسلامي
بقلم : الأديب معالي الشيخ الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر / الرياض
وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي
يجيء الجواب أحيانًا مفاجئًا، ردًا على قول ألقي بلهجة انتصار مسبق، ظن قائله أنه به قد أقفل البابَ على محدثه، وأرتفع عنه درجاتٍ في عرف الحديث أو الجدل، ولم يدرِ أنه فتح على نفسه نافذةً واسعةً جاءته عن طريقها رصاصة منطلقة، تُفْقِده توازنَه، وتغير الكفةَ، فيصبح من ظن نفسه منتصرًا مهزومًا، ثم يقفل الباب، فلا يكون هناك كرة يرجى من ورائها استعادة شيء مما فقد؛ ولهذا ففي مثل هذه المواقف يجب أن يضع الإِنسان أمام عينيه جملةً كأنها مكتوبة أمامه: “إحذر الجواب”.
وقد أغرم الكتاب في العصور الأولى بتتبّع مثل هذه الإِجابة، فتناقلوها بينهم، وأشاعوها في مجالسهم، ودونوها في كتبهم؛ فجاءت من الطرائف التي تُحَلِّي صفحات الكتب، وتُدِرّ على الورّاقين ربحًا بتنامى، وتشيع اسم الكاتب، وتنشره على الملأ.
ولم يكفِ بعض الكُتّاب أن يستقوا ما حدث فعلاً، ويقنعوا بما يجمعونه من أفواه الناس، أو يقتبسونه من الكتب؛ بل ذهبوا يُؤَلِّفون مواقفَ لم تحدث، ويضعون أسئلةً وأجوبةً يخترعونها، يتقنون فيها وضع سؤال، أو سبك قول، ويُبْقُون ثغرةً ملائمةً لجواب مقنع، أو ردّ دافع. وليقبل ما افتعلوا، وليخفوا الصنعة، فيما سجّلوا، ينسبون ذلك إلى رجل مشهور ممن يتلاءم ما عرف عنه مع ما قالوا. ولم يكن كل ما يأتون به في هذه الصورة للتسلية، أو لإِزجاء الوقت، وإنما يصنف بدقة متناهية، ليؤدي غرضًا دينيًا، أو هدفًا سياسيًا، أو غايةً قبليةً؛ وفي كل ذلك سب لمن قصد أن يكسب، أو قدح لمن أراد أن يُلمز.
ولقد جاء النحل مُتْقَنًا في بعض الأحيان، حتى أصبح من الصعب على الإِنسان أن يميز الصحيحَ من المختلق، والحادثَ من المفتعل، وسوف نذكر فيما بعد شيئًا من هذا، مما لايكاد الإِنسان يجزم بصحته، أو وضعه. والتناحر بين المذاهب في تلك العصور، والتطاحن السياسي، والمفاخرة بين القبائل، والمنافسة بين المناطق، دفعت بهذا الاختلاق والتأليف إلى درجة الأزدهار؛ وكلما هدأت الفتن، وما يأتي معها من حروب وقتال، زاد هذا الجانب من “الحرب الباردة”، وغلى مرجلها، وصار ضحاياها مجموعات لا أفرادًا، وإذا كانت الحروب قد تنتهي كلومُ ضحاياها بانتهائها؛ فإن كلومَ اللسان، وما يتركه القول من ندوب، تبقى، تتداول، ويزاد فيها، وتكبّر وتجهم، ويضيف فيها اللاحق إلى ما وضع بذرتَه السابقُ، حتى لا يكاد من عرف القول الأول يدرك أن التالي هو الأول، بما زيد عليه من إضافات، جعلت منه “بوّابة المتولي”([i]).
ويبدو أن من تعوّد على نقل أقوال، أو السماع لها، إذا انقطعت عنه، راح يختلقها، ليملأ الفراغ الذي حدث عنده بغيابها، ولا يقتصر ذلك على الأمور التي تتصل بالسياسة، أو تدور حول العصبية القبلية، أو التحيّز لمذهب ما، ولكنها أيضًا تأتي من العشاق، وأرباب الهوى والغرام، وهذا شاعر يؤكد هذا في بيت جاء به من قصيدة قالها.
قال العرجي :
أناس أمنّاهم فَنَمُّوا حديثَنـا
فلما كتمنا السّرَّ عنهم تقوّلوا([ii])
ولعل هذا أمر من طبيعة النفس البشرية، فالعرجي كان يعطي أسرارَ حبه لأناس ظنّ أنهم سوف يحفظونها، وهؤلاء كانوا يتمتّعون بما يسمعون، وملأ، ما يقوله العرجي لهم سرًا، نفوسهم بحب الاستطلاع، ومتابعة أخبار الحبيب، فلما تبين للشاعر أن سرّه يذاع، كتم فيما جاء من أيام سره، فشعر مُفَشُو سره بأنهم فقدوا مصدر لذة لهم، فاستعاضوا بما اختلقوا وألفوا عما كان يعطى لهم. وهذا يماثل ما شعر به أصحاب اختلاق الأجوبة المفاجئة التي نحن بصددها.
وطبيعة الإِنسان، والعادة عنده، وما تقتضيه مصلحة، من كسب منفعة، أو جلب لذة، أو بناء مجد، يجعله دون شعور منه يلجأ إلى الاختلاق والتصنيف، إذا لم يجد في الحقيقة والصدق ما يملأ تطلّعه، ويصل إلى طموحه .
وأمامنا نص فيه ما يدل على أن كاتبًا حصرته فكرةٌ، فسيطرتْ على لبّه، فصاغها بطريقة رجال أن تكون مقنعةً وأن يقبلها القراء على أنّها صحيحة، وأن من ركبت عليهم، يضيفون عاملاً للقبول، لحسن اختيار الكاتب لهم، وما يعتقده لملاءمة ما اختلقه لطبيعتهم، وما عرف عنهم، وما شهروا به.
“قال الأعمش:
إحذروا الجوابَ، فإن عمرو بن العاص قال لعديّ ابن حاتم: متى فُقِئَتْ عينُك يا أبا طريف؟
قال: يوم طعنتُ في استك، وأنتَ مُوَلٍّ يومَ صفّين”.([iii])
علقت رواية الخبر على الأعمش؛ لإِقناع القارئ بقبولها، وعمرو بن العاص له من العقل ما يمنعه من سؤال عدي على سبيل التبكيت، وإن كان السؤال بريئًا فعند عدي من العقل ما يجعله يرد ردًا متحضرًا؛ بدلاً من هذا الرد المتدني. مع اعتقادنا أن عمرو إذا كان اجتمع في هذا المجلس مع عدي، فليست هذه أول مرة يرى فيها عينه، ولابد أنه رآها قبل ذلك، فإذا كان يهمه الأمر، فالحكمة والعقل اللذان عرف عمرو بهما، تجعلانه يسأل غير عدي عن عينه.
لاشك أن الخبر مكذوب، وأن المقصود به إذاء سمعة عمرو بن العاص، وقد يكون السبب في معاداته صلته بمعاوية، وأعداء معاوية وأنصاره كثير، ومن فئات مختلفة، وأمر انكشاف عورة عمرو بن العاص في صفين، تردد في روايات مختلفة، وبمناسبات متعددة، ومن بين ما روي أنه بكّته عليه معاوية، ولعمرو بن العاص رد على معاوية عندما أثار هذا الأمر.
ومما يؤكد أن هذا القول مختلق إختلاف الروايات في اسم سائل عدي؛ فإذا كان في القصة السابقة عمرو ابن العاص ففي القصة الآتية هو ابنه عبد الله بن عمرو، وفي هذه القصة زيادة تؤكد افتعال الخبر، وهي أنه قيل بحضور معاوية، وفي مجلسه، وفي القصة زيادة تؤكد ما هدف إليه واضع القصة، وهي تقرر بين فريقين من هو على الحق، ومن هو على الباطل، في نظر القاص:
“دخل عديّ بن حاتم على معاوية، وعنده عبد الله ابن عمرو، فقال له عبد الله:
يا عيد متى ذهبت عينك؟
قال: يوم مثل أبوك هاربًا، وضرب على قفاه موليًا، وأنا يومئذ على الحق، وأنت وأبوك على الباطل”.([iv])
على أي حال لقد أجاد سابك القصة بناءها فنيًّا، وقد أكمل لها عناصر القصة، وأوصلها إلى الهدف الذي أراده، وقبلت في صورتها هذه على أنها تدخل في إطار تصنيف الجواب المفاجئ الملجم .
ونزاع معاوية رضي الله عنه مع علي رضي الله عنه، وجد فيه أنصارُ كل جانب مجالاً للنحت والتركيب، حتى أن بعضه جاء واضح الوضع والاختلاق، وبإمكان القارئ أن يلحظ هذا بسهولة .
والقصّةُ التاليةُ أريد لها أن تكون جذابة، فوضعت في صورة قول، ورد للقول فاجأ صاحب القول الأول؛ ولهذا دخلت ضمن حديثنا، وسوف نرى إلى أي مدى يمكن قبولها أو رفضها:
“قال معاوية: أنتم يابني هاشم تصابون في أبصاركم.
فقال ابن عباس: وأنتم يابني أمية تصابون في بصائركم”.([v])
إن اللعب على اللفظين “أبصار” و”بصائر”، أغرى مؤلف القصة أن يستفيد منها في النيل من الأمويين، لترجح كفة الهاشميين، واعتبر أن جواب فقيه الأمة عبد الله بن عباس جوابًا مفاجئًا ملجمًا .
ونسي المؤلف ما نعرفه عن معاوية من حرص على جلب قلوب من يرون أحقيتهم بالخلافة من بقية فروع قريش، خاصة بني هاشم؛ ولا يتصور أن يرى معاوية أن الفتنة نائمة فيوقظها على نفسه، ويسلطها عليها.
لقد نظر القاص من زاوية واحدة، ونسي بقية الزوايا، ومن إحداها جاءت الريح العاصفة، فأطارت لُبَّ قصته، وجعلتها خاوية القلب، مسلوبة الروح. ومما يعيبها أن المفكر يجد أن البصر، وفقده أمر حسي، وهو من الله ولا يعاب على المرء أن يبتلى به([vi])، والصحابة رضوان الله عليهم أبعد من أن ينسوا هذا؛ وعمى البصيرة معنوي، والدليل عليه صعب إيجاد الدليل عليه، والإقناع به، ولا يشرف المحكومين أن يخضعوا لأعمى البصيرة!! وهو ما يغيب عن الذهن أحيانًا عندما يعيب محكوم حاكمه.
وقد تفنن الوضّاع في رسم صور خيالية لما صارت إليه علاقة آل أبي طالب ببني أمية، وخاصةً بمعاوية وعقيل بن أبي طالب أحد الذين عانوا من تركيب الحكايات عليه إشادة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أو نكاية بمعاوية، والقصة التالية فيها من النحل ما هو واضح:
“قال معاوية يومًا:
يا أهل الشام إن عم هذا أبولهب .
فقال عقيل: يا أهل الشام إن عمة هذا حمالة الحطب، وكانت أم جميل امرأة أبي لهب، وهي بنت حرب”.([vii])
إن الهدف من هذه القصة هو إظهار رجحان عقيل على معاوية في الحجة، وإلجامه بهذا الرد المفاجئ، إلا إن المسرح مهزوز، مضطرب، لا تستقر عليه هذه التمثيلية الفجة؛ فما فائدة معاوية من مهاجمة عقيل، الذي اختار أن يذهب إليه في الشام، وجانبه مأمون؛ ومعاوية أولى أن يحتضنه، ويكرمه، بدلاً من أن يهينه أمام جمع كبير من أهل الشام، وإهانة اللسان أبلغ من جرح السنان .
ومعاوية خير من يعرف صلته بأبي لهب، ولا يتوقع أن يثير جوابًا ليس في صالحه، ثم إن كثيرين ممن هم في هذا الجيل لهم أقرباء، ناوؤا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يضر هذا أقرباءهم من المسلمين .
ولم يكتف وضاع الأخبار بما قالوه عن عقيل ومعاوية في هذا المجال، بل يأتون بما هو أشد إثارةً للعجب، وبعدًا عن المنطق، وهذه هي القصة في هذا:
“قال الأصمعي: ترك عقيل عليًّا، وذهب إلى معاوية، فقال معاوية: يا أهل الشام ما ظنكم برجل لم يصلح لأخيه؟
فقال عقيل: يا أهل الشام، إن أخي خير لنفسه، وشر لي؛ وإن معاوية شر لنسفه، وخير لي”.([viii])
لو صح أن عقيلاً ترك جانب أخيه، فإن معاوية سوف يفرح به، ويرحب به ترحيبًا حفيًّا، لأن في بقائه بجانبه قوة له، وضعفًا لعلي؛ ولا يخطر ببال من له ذرة من العقل أن يقابل، من أخذ جانبه، بالتنفير، والجرح أمام الأشهاد. وعقيل من الكرامة، لو زلت قدم معاوية، أن لايبقى على الضيم، ولا يصبر على الإِهانة، ولا يكفيه الرد المفاجئ المتقن الذي وضعه القاص على لسانه؛ فلا أقل من أن يترك عقيل الشام كله.
ثم أن عليًّا كان “خيّرًا لنفسه”، فخيره لنفسه خير لأخيه، فهما روح واحدة، ولا يتصور أن عليًّا رضي الله عنه يكون في قلبه، أو في فعله، شر لأحد، فما بالك بأخيه. ومعاوية إن كان شرًا لنفسه، فهو أولى أن يكون شرًا لعقيل وغيره. ثم ما هو شر معاوية؟ هل هو اختياره الدنيا على الآخرة، كما تصوره بعض الروايات؟ فإذا كان سيعطى معاوية عقيلاً شيئًا من الدنيا، وهي شر، فمن أين يأتي عقيلاً الخير؟
إن ما دعا إلى بناء القصة وحبكها هو جاذبية الألفاظ التي ركبت منها هذه الجمل البراقة، التي لا تقف أمام سيف النقد، وتتحطم بسهولة تحت مطرقة الاختبار.
ومعاوية حقل خصب لوضع القصص التي فيها ردود مفاجئة، وكثير منها يجعل كفة معاوية تشيل، وكفة خصمه ترجح، وللكتاب تفنّن في تنويع مواضيع هذه القصص، واختلاف النهج الذي يختارونه، ولكنها كلها تكشف عن النية المبيتة التي تجمعها، وهي إظهار معاوية في المركز الأدنى، والموقف الأضعف، حتى تهتز صورته.
ومن القصص التي تروى كائدةً لمعاوية القصة التالية:
“شهد أعرابي عند معاوية على شيء فقال:
كذبت .
فقال: الكاذب والله مزمل في ثيابك .
فتبسم معاوية، وقال:
هذا جزاء من عجل”.([ix])
وقد أصاب مؤلف القصة رجلين عربيين بنقيصة لكل واحد منهما؛ فمعاوية ظهر بمظهر العامي المتسرع، والأعرابي بمظهر الجلف الوقح، الذي لم يقدر الخليفة .
والفكرة كلها، والحوار، لم ينبتا إلا في ذهن قاص القصة ومخترعها، ومعاوية إنسان، وليس له كوابح سيارة متى شاء تركها، واندفعت عاطفته، فأحرجته، وإذا شاء أعملها، فأفادته .
إن النمط في هذا الوضع واحد، فمعاوية يبدأ، ثم يستخذي، وقد وجد القصاص أن هذه الصورة، وهذا الأسلوب، يمكن أن يقتدى بهما، للمس حكام آخرين، في أزمنة لاحقة، فنصر بن سيار من الحكام الذين تَكَوَّنَ لهم في مجتمعهم حساد وحاقدون؛ ووجودهم في بلدان مفتوحة حديثًا يحكمونها، جعلتهم هدفًا للنحل والوضع لتشويه سمعتهم، وسمعة العرب على أثرهم. وتركيب قصة على أحد أبناء نصر مع أعرابي تؤدي الغرض بكفاية واقتدار، وهذه إحدى القصص:
“قال تميم بن نصر بن سيار لأعرابي :
هل أصابتك تخمة قط ؟
قال: أما من طعامك، وشرابك، لا”.([x])
أما أنه جواب مسكت ومفاجئ، فقد وفى بالمطلوب، أما أنه في غير صالح تميم والعرب، فقد أصاب الهدف، أما أنه قد وقع فعلاً، فبعيد عن الذهن قبوله، إلا في إعطائه مثلاً في التدليل على قولهم: كم من كلمة قالت لصاحبها: “دعني”.
وبعض القصص الضائعة في أجواء الأدب تجد طريقها إلى سيرة معاوية بسهولة، ثم تستعار لغيره في كتاب آخر، أو مجلس آخر([xi])، مثل القصة الآتية:
“أنشد ابن الرقاع قصيدةً يذكر فيها الخمر، فقال له معاوية :
أما إني قد ارتبت فيك في جودة وصف الشراب.
قال: وأنا قد ارتبت بك في معرفته”.([xii])
ولا نكاد نخرج من نص عن معاوية من هذا النمط، إلا ونجد آخر، بعض هذه النصوص لا يليق إلا بالعامة، ولا يتصور أن مستوى معاوية، أو من يجالسه يمكن أن يتدنى إلى هذه الدرجة من الانحدار، والقصة التالية تعيدنا إلى ما يحاول بعض الكتاب أن يصوروه للعلاقة بين الهاشميين والأمويين، ولا يهمهم إلا الهدف، وسبك القصة التي تؤدي إليه، ولعل ما أغراهم بهذا النوع من القصص، أنهم يجدون أذناً صاغيةً، وأناسًا يعجبهم ذلك، ويفرحون بلمز بني أمية إما لأنهم حكام، أو لأنهم يمثلون الحكم العربي الصرف؛ والقصة أيضًا عن معاوية وعقيل بن أبي طالب:
“قال معاوية لعقيل بن أبي طالب:
ما أبينالشبق في رجالكم يا بني هاشم!
قال: لكنه في نسائكم، يابني عبد شمس، أبين”.([xiii])
لو كان هذا القول جاء من مراهقين تماسكا بالأيدي، وحيل بين أحدهما والآخر، وقال أحدهما ذلك من الغيظ لقُبل، أما أن يقوله معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين، وأحد كتاب الوحي، لابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الإِثم أن يقبل. ألا يدري من يقبله أنه يقر هذا اللغو في القول، والسفه في الفكر، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من بني هاشم!
إن كانت غابت هذه الناحية عن الكاتب الهمجي، فلا يمكن أن يقع في حفرتها معاوية أو عقيل، وهم يسمعون كلام الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَنَابَزُوْا بِالأَلْقَـٰـبِ﴾([xiv]).
إن هذا أكثر من التنابز بالألقاب، إنه يتعدى الألقاب إلى ما هو أعمق منها. ولكن الشيطان إذا أراد أن يسحب إنسانًا بمقود كيده إلى هلاكه، أراه جانبًا من الأمر مضيئًا ضوءًا زائفًا، وألهاه عن الجوانب الأخرى المظلمة، التي لو التفت إليها لارعوى، ولا استلهم رشده .
ولا نزال مع معاوية، ورغم ما يبدو من حجة عن القصة الآتية، من أن الحادثة حدثت بعد وقعة صفين، وأنه يجوز في الحرب، وأعقابها، ما لا يجوز في الأوقات المعتادة، حين لا حرب ولا ذيول حرب، ولكن في النفس شيء من هذا النص يتبين عند مناقشته، والقصة تروى هكذا:
“أسر معاوية يوم صفين رجلاً من أصحاب عليّ صلوات الله عليه فلما أقيم بين يديه قال:
الحمد لله الذي أمكن منك !
قال: لا تقل ذاك، فإنها مصيبة .
قال: وأية نعمة أعظم من أن يكون الله أظفرني برجل قتل في ساعة واحدة جماعة من أصحابي، إضربا عنقه .
فقال: اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا لأنك ترضى قتلي، ولكن قتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل، فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله .
فقال: قاتلك الله، لقد سببت، فأوجعت في السب، ودعوت، فأبلغت في الدعاء. خليا سبيله”.([xv])
إن رجلاً العفو عنده بهذه القرب، وليس بينه وبين إيقاف السيف عن رقبة المقدم للقتل إلا كلمات تقال، لأحْرى الا يقول ما قال في أول الحديث، مما نسب إليه أنه قاله. ثم إن معاوية لم يقل إنه قام من أجل الملك وإن كان آل إليه في النهاية، عندما اختفى من الميدان من كان ينافسه، ويعتبر ندًا كفيئًا مختارًا للخلافة من مقدمي الأمة.
ثم إننا لا نجد في حمد معاوية لله مصيبة، ولم يبين القاص كيف جاءت المصيبة، ومعاوية يعتبر أنه ظفر بمن لو لم يظفر به، لجال جولات على أصحابه يقتل فيهم ويجرح، ولكن الله أوقعه في يده، إن المصيبة لو وقع معاوية في يد هذا الرجل، الذي أخفى القاص اسمه، ولو بينه لكان شع نورًا يساعد الحقيقة على الظهور.
ولعل للكلمات التي قالها الرجل لمعاوية عندما أيقن بالهلاك جاذبيتها عند القاص، ولعلها من أول الركائز التي بنَى عليها قصته، التي جعل مفعولها يجني لصاحبها النجاة. أليس التذكير بالله، وبقدرة الله على العقاب، هي التي كفت يد السياف عن أن تطيح برأس قائلها؟ وهذا يدل على أن الكلمة زرعت في أرض خصبة، أرض الإِيمان في قلب معاوية، وهل كان عليه قُفْل قبل ذلك ؟
والله وحده يعلم إن كان هذا حدث، أو شيء منه؛ لأن القصة فيها مناطق ضعف، تجعل في الحلق عصة عن استساغتها.
* * *
(1) بوابة ضريح لأحد الأولياء في مصر، يعتقد الناس، اعتقادًا فاسدًا، أن من علق عليها خرقة أجيب طلبه، فالتي لا تحمل تحمل بعد التعليق، ومن له غائب يعود، ومن عليه دين يفرج عنه، وهكذا.. ومن كثرة التعليق أصبحت لا ترى البوابة .
(6) انظر ما سيأتي مما قاله الأحنف ردًا على من عيره بقصره ودمامته.
(11) صاحب الكشكول يذكر أنها بين بن الوليد عبد الملك وابن الأقرع، والبيت
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُوْنِهَا وَهِيَ دُوْنَه لَهَا في عِظام الشارِبين دَبِيْبُ
الكشكول: 2/74.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني – جمادى الأولى 1431 هـ = مارس – مايو 2010م ، العدد :4-5 ، السنة : 34