الشيخ الحكيم عزيز الرحمن الأعظميّ المئويّ رحمه الله 1336-1430هـ = 1918 – 2009م

إلى رحمة الله

في نحو الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس: 19/رمضان المبارك 1430هـ الموافق 10/ سبتمبر 2009م انتقل إلى رحمة الله العالم الديني والطبيب بالطبّ اليوناني العربيّ الشيخ الحكيم عزيز الرحمن القاسمي المئوي ابن الشيخ المحدّث محمد أيوب الأعظمي رحمه الله (1319-1404هـ = 1901-1984م) بوطنه “مئو ناث بهنجن” بولاية “أترا براديش” عن عمر يناهز 91 عامًا، فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

       كان الشيخ يعاني عوارضَ الشيخوخة المتزايدة، ويقضى أوقاته معمورةً بالذكر والعبادة والأشغال العلميّة، إذ زلّ عن درجات السلم في بيته منذ أكثر من شهر، وظلّ يتلقى العلاج في بيته إذ جاءه الأجل المحتوم الذي لايُؤَخَّر .

       كان رحمه الله عالماً مُتْقِنًا لمختلف العلوم؛ حيثُ أَعَانَه ذكاؤه الكبيرُ، وفطنتُه المُلْتَقِطَةُ، وذاكرتُه القويَّةُ على استيعاب ما تَمَكَّنَ من العلوم والفنون؛ فكان يُتْقِن إلى جانب علوم الشريعة، الأرديَّةَ والفارسيَّةَ والإنجليزيَّةَ، والطبَّ اليونانيَّ العربيَّ، الذي يُعْرَف في الديار الهندية بـ”الحكمة” ويُعْرفَ الطبيبُ بالطبّ اليوناني بـ”الحكيم” وكان يكتب الأرديَّةَ رشيقةً مُرْسَلَةً ككُتّابها البارعين، ويقول الشعرَ بالأرديَّة والفارسيَّة ويُتَرْجِم من الإنجليزيَّة والفارسيَّة إلى الأرديَّة ترجمةً سلسلةً، فلا يَتَفَطَّن القارئُ أنّها ترجمةٌ، وإنّما كان يظنّ أنّها لغة أرديَّة أصيلة أَنْشَأَها صاحبُها في عذوبة وروعة.

       ورغم أنّه لم يكن من العلماء المعروفين الذين يقدر لهم الله عزّ وجلّ لحكمة يعلمها سمعةً واسعةً وصيتًا ذائعًا، عن طريق أسباب يتيحها لهم؛ ولكنّه كان يتمتع بصفات تنحت من الإنسان “إنسانًا كبيرًا” فكان على جانب كبير من مكارم الأخلاق، وكان قلبه زكيًّا صافيًا شفَّافًا كالمرآة من النوع الممتاز، وكان ذكيًّا فَطِنًا ذا روح خفيفة، يستقبل كلَّ صغير وكبير بوجه طليق، وهشاشة بالغة كأنه كان ينتظره، وكان ذا مؤهّلات علميّة مُتَنَوِّعة حازها بجدّه وذكائه وموهبته الطبيعيّة، وبفضل بيئته العلميَّة، وبيته الذي تَوَارَثَ العلمَ كابرًا عن كابر؛ فوالده الشيخ محمد أيوب الأعظميّ كان محدثاً كبيرًا وعالماً صالحاً على سيرة العلماء السلف الزاهدين؛ وأخوه الأوسط الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي رئيس تحرير مجلة “البعث الإسلامي” ومدير دارالعلوم ندوة العلماء – لكهنؤ بالهند، أحد العلماء الأجلاء وكبار أدباء العربية والكُتّابين المعدودين على الأصابع في شبه القارة الهنديّة، وصاحب أسلوب أدبيّ فريد يجمع بين السلاسة والجزالة والشموخ الرصانة، ويشفّ عن الروح الفكريّة الدعوية العلمية العميقة، يُعْرَف به وينتمي إليه؛ وأخوه الأصغر سعادة الأستاذ مسيح الرحمن حامل شهاداتِ مؤهلات علميّة عالية من الجامعات العصرية، ومُثَقَّف بالثقافة العصريّة، ويعمل أستاذًا بكليّة عصريّة .

       كان الفقيد الغالي لايَمَلّ مجلسَه أيٌّ من الجالسين إليه، مهما طال؛ لأنّه كان يكون مجلسَ علم وأدب، ومجلسَ تبادلِ فكرٍ ورأيٍ، وتقاسمِ سرورٍ وأحزانٍ، وتَفَاكُهٍ حلال، ينبسط فيه كلُّ أحد لأخيه، ويستأنس أعضاؤه كلٌّ بآخر، كأنّه أخوه الشقيق، وقريبُه المواسي، ومتعارفه المخلص.

       لم يكتفِ رحمه الله بما اكْتَسَبَه من العلوم خلال تعلُّمه في المدارس والجامعات الإسلاميّة التي انتظم في سلكها التعليمي، وإنما دَفَعَتْه رغبتُه في الدراسة إلى اجتياز امتحانات اللغة الإنجليزيّة والعلوم العصريّة في بعض الكلّيات الحكوميّة العصريّة، وظلّ حريصًا على بناء الذات، وصقل مواهبه، والتوسّع في الدراسة؛ فتَخَرَّجَ عالماً مُتَنَوِّعَ الثقافة، مُتَفَتِّحَ الذهن، ثاقبَ الفكر، واسعَ الأفق، كلّ من جلس إليه آنس فيه مزيّةَ عالم جامع، وعَلِمَ أنّه ليس مجرد مُثَقَّف قليل البضاعة، ضيّق الأفق.

       كان رحمه الله من مواليد 1918م (1336هـ) وتَلَقَّى التعليم الابتدائي والمتوسط بوطنه “مئوناث بهنجن” بمديرية “مئو” حاليًّا ومديرية “أعظم جراه” سابقًا تحت رعاية والده العظيم، ومُعْظَمَه في “جامعة مفتاح العلوم” الإسلاميّة؛ حيث كان يُدَرِّس والده. كما استفاد وتعلّم من الشيخ المحدث الكبير العالم الشهير حبيب الرحمن الأعظمي (1319هـ-1412هـ = 1901-1992م) والعالم القائد الجريء الشيخ عبد اللطيف النعمانيّ المئويّ (1320-1392هـ = 1902-1973م) وغيرهما من كبار علماء المدينة الحريص أهلُها على العلم والدين. ثم التحق بالجامعة الإسلاميّة الأمّ : دارالعلوم/ ديوبند بالهند؛ حيث تَلَقّى التعليمَ العالي الشرعيّ، وتخرّج منها عام 1359هـ (1940م) وكان من كبار أساتذتها فيها العالم العامل المجاهد الشيخ السيّد حسين أحمد المدني رحمه الله (1295-1377هـ = 1879-1957م) المعروف بالديار الهندية بـ”شيخ الإسلام” والشيخ محمد إعزاز علي الأمروهوي رحمه الله (1300-1372هـ = 1882-1952م) المعروف بـ”شيخ الأدب والفقه” والشيخ العلامة محمد إبراهيم البلياويّ رحمه الله (1304-1381هـ = 1886-1967م) وغيرهم.

       وبعد تخرجه من الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، أدّي امتحانات اللغة الإنجليزيّة والعلوم العصريّة بكلية (D A V) بمدينة “مئو ناث بهنجن” في عام 1944م – كما أفادنا بذلك أخوه الأوسط الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي / حفظه الله – كما اشتغل بها أستاذًا، ثم مارس التجارة مدة من الزمان على شاكلة أهل وطنه، وتركها إلى صيدليّة للأدويّة العصريّة أنشأها بالمدينة، وشفعها بالعيادة الطبيّة التي عيّن لها أطبّاءَ نطاسيّين، فاستفاد منها خلق لايُحْصَى3، ثم اتّصل بالشيخ الكبير المربي الجليل الشيخ وصيّ الله الفتح بوري الإله آبادي رحمه الله (1312-1387هـ = 1895-1967م) الذي كان من كبار المتخرجين في التزكية والإحسان على العالم الفريد العلاّمة الشيخ المربي الكبير الداعية العبقري أشرف علي التهانوي رحمه الله (1280-1362هـ = 1863-1943م) وانقطع إليه مدة من الزمان يتشبّع بروحه الدينية وينهل من منهله الروحاني؛ إذ نما إلى الشيخ – وصي الله رحمه الله – نبأُ إقامة الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند جامعةً طبيّةً تابعةً لها عام 1380هـ/1960م وبعد التأسيس بعامين نما إليه أنّ الجامعة تحتاج إلى أساتذة بارعين لتدريس مادة الطب في جامتها الطبيّة، فأشار عليه أن يُقَدِّم طلبه لتدريس مادّة الطبّ فيها، واعتذر إليه الشيخ عزيز الرحمن قائلاً: إنّه لم يتعلم الطبّ بانتظام، فكيف يتاح له أن يُدَرِّس كتب الطبّ، فقال له الشيخ: قَدِّمِ الطلب، وستكون أنت من الأساتذة البارعين لتدريس الطبّ، وربما تبذّهم إن شاء الله . وكان كما قال الشيخ وصيّ الله رحمه الله .

       في يوم الثلاثاء: 18/محرم 1383هـ الموافق 30/ مايو 1963م أصدر رئيس الجامعة العالم الهندي الفريد والخطيب الديني المصقع الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله (1315-1403هـ = 1897-1983م) أمرَه السامي بتعيين الشيخ عزيز الرحمن أستاذًا بكلية الطبّ المعروفة بـ”الجامعة الطبية” التابعة للجامعة، وظلّ يُدَرِّس فيها مواد الطب المختلفة ولاسيّما كتب الطب الصعبة باللغة الفارسيّة والعربيّة – التي كان يصعب تدريسُها على مُعْظَم الأساتذة – على مدى 23 عامًا؛ حيث أُلْغِيَتِ الجامعةُ الطبِّيَّةُ في 10/مارس 1986م (27/ جمادى الأخرى 1406هـ) للعوائق القانونيّة الحكوميّة التي منعتها من السير في طريقها؛ حيث فرضت على الجامعة استيفاءَ شروط لم يكن بوسعها أن تستوفيها كمؤُسَّسَة تعليميَّة إسلاميّة تخصّ المسلمين، وتتولّى مسؤوليةَ نشر علوم الكتاب والسنّة، وتقوم بدور قياديّ في الحفاظ على الكيان الإسلامي في الهند العلمانيّة والمرابطة على الثغر الإسلاميّ فيها.

       وظلّ الشيخ عزيز الرحمن أستاذًا مُحَبَّبًا، كان يثني عليه جميعُ تلاميذه، ويذكرون في المجالس كفايَتَه التدريسيّة، وموهبتَه الإفاديّة، وتقديمَه للموادّ الدراسيّة إلى الطلاب سهلةً سائغةً، وكان يعينه على ذلك مزجُه مجلسَ درسه بالجدّ والمزاح الحلال، وخفّةُ روحه، وطيب نفسه، وذكاؤه الذي كان يُسَهِّل له كلَّ مُهِمَّة في الحياة .

       وعندما أُلْغِيَت الجامعة الطبيّة، ولّت الجامعةُ أساتذتها مسؤوليّات متنوعة، كانت تتفق ومؤهلاتهم العلميّة وخبراتهم الدراسيّة. وكان نصيب الشيخ الحكيم عزيز الرحمن رحمه الله الانضمام إلى “أكاديميّة شيخ الهند” كباحث وكاتب في الموضوعات التي تروقه؛ فألّف كتابه القيم باللغة الأرديّة “مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة”. ثم ارتأى المجلس الاستشاري بالجامعة في دورته المنعقدة في صفر 1409هـ أن يحيله إلى المعاش نظرًا لشيخوخته، فأنفذ رئيس الجامعة الشيخ مرغوب الرحمن قرارَ المجلس في 22/ صفر 1409هـ (6/ سبتمبر 1988م) وقَرَّرَ له راتبًا تقاعدًا رمزيًّا، حتى وافته المنيَّةُ في شهر الله الفضيل رمضان المبارك الذي تُفْتَح فيه أبوابُ الجنان. غَفَرَ الله له ورَفَعَ درجاته في جنّته العليا، وأَلْهَمَ أهلَه وذويه ومحبّيه الصبرَ والسلوانَ .

       وخَلَّف رحمه الله وراءه أخويه: الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي، والدكتور مسيح الرحمن الأعظمي، وابنه الصالح العالم الشيخ محي الدين طيب وابنته. وكلاهما ذوا أولاد. حفظهم الله جميعًا مع الصحة والعافية والتوفيق لكل خير.

       وقد كان رحمه الله يملك قلمًا سيَّالاً في الكتابة والتأليف، إلى جانب براعته في التدريس، وصَدَرَ من تاليفاته ما يلي:

       الطبّ النبوي، مآثر الإمام الأعظم، الأمراض الصدريّة، كتاب الرحمة، ترجمة الشيخ الفراهي، ترجمة عطّار، ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه، أُسُس الإعجاز العلمي، إفريقيا الخضراء، ختام المسك، معجم الطب: الإنجليزي – الأرديّ، المعجم الأردي العربي الإنجليزي، وهما عمل ضخم كبير أنفق فيه كثيرًا من الوقت والجهد، فهما من مفاخر أعماله العلميّة .

       هذا ما عدا المُؤَلَّفات التي لم تصدر. ولئن مَات رحمه الله فإن هذه الأعمال العلميّة التأليفية، ستكون صدقةً جاريةً له، تزيد في حسناته، وتُعَظِّم أجرَه، وتُدِرُّ له الثوابَ إن شاء الله.

       وقد كان سخيَّ اليد، رحبَ الصدر، متقيدًا بسنة النبيّ S في القيام بعمله بنفسه، حتى في حاله ضعفه ومرض وفاته. وكان صوّامًا قوّامًا، وقّافًا عند حدود الله، ظلّ يُحْيِى الليالي منذ شبابه حتى وفاته، وكان آلفًا مألوفًا، يُحِبّ ويَتَحَبَّب، ويُضْطَرُّ كلُّ مُلاَقٍ له إلى الاستئناس به، فالإنجذاب إليه، فالحبّ له، فالبقاء على حبّه؛ لأنّه كان يترك في زائريه وملاقيه انطباعًا جميلاً لايقبل الزوالَ والامِّحَاءَ .

       وقد تَمَّ بيني وبينه تعارفٌ عندما كنتُ طالبًا في الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، أدّى إلى تَوَطُّد الصلة بيني وبينه، وظلّ رحمه الله يشملني بعطف بالغ وحبّ صادق كأني من ذوي قرباه.

       وبعطفه عليّ، واستخباره لأحوالي، صار لديَّ ممن كنتُ أرجع إليهم في الجامعة وأعتمد عليهم في التشاور فيما يتعلّق بمسيرتي الدراسيّة وحياتي الجامعيّة. وحَصَلَتْ لي مناسبةُ التعارف به رحمه الله بشكل مُصَادِفٍ؛ حيث كان يحدث الزِّحامُ أيّامَ الجمعة في دورات المياه والمغاسل في محيط السكن الطلابيّ الكبير المعروف بـ”الدار الجديدة” الذي كنتُ أسكن إحدى غرفه مع أبناء وطني من طلاب الجامعة فكنت أقصد أنا وبعضُ زملائي في الدراسة مضخةَ المياه اليدويّة المنصوبة في ناحية من مبنى “الجامعة الطبّيَّة” بجوار غرفته رحمه الله بمحيط “الجامعة الطبية” لنغتسل وننظف ملابسنا، فكان يستخبرنا الأحوال، ويسائلنا عن حالتنا التعليمية وصفرفنا الدراسيّة، وعن مَوَاطِننا وأُسَرنا، وربّما يأمر الطالبَ المُخَصَّصَ لخدمته بتقديم الشأي وما يلازمه من المأكولات الخفيفة إلينا. وهكذا تَعَمَّقَ رحمه الله في المعرفة بنا وتَوَسَّع، وأصبح بمنزلة وليّ أمرنا في تقديم النصح والمشورة، وعَلِمَ حرصَنا على الدراسة واجتهادَنا فيها، وظَنَّ أنّنا من الطلاّب الأذكياء، فظلّ يتعهّدنا بالرعاية والتربية؛ لأنّه كان يحبّ الطلابَ الأذكياء؛ لأنه بدوره كان ذكيّا ممتازًا. وأذكر أنه ذات يوم عَلِمَ أننا نتناول الوجبات الغذائية التي تُقَدِّمها الجامعة لكل طالب منتظم؛ فأشار علينا أن نحترز منها ونشتريها بتقديم فلوس مطلوبة من عندنا؛ لأن هذه الوجبات إنما تُقَدِّمُها الجامعةُ مما تحصل عليه من التبرعات الشعبية التي تُشَكِّل مَبَالِغُ الزكاة فيها عادةً نسبةً كُبْرَى3، ومبالغُ الزكاة هي في الواقع أدران أموال المسلمين الأثرياء الذين يملكون نصابَ الزكاة؛ فتناوُلها يُسَبِّب الظلمةَ الفكريَّةَ والعتمةَ القلبيَّةَ، فحبّذا لو امتنعنم عنها إذا كان ذلك بوسعكم. قلنا: إننا طلابٌ مُعْدِمُون، لانملك ما نستند إليه في حوائجنا اليوميّة حتى في أوطاننا، فكيف بنا ونحن غُرَبَاءُ عن الوطن غَادَرْنا أوطانَنا طُلاَّبًا لعلوم الدين؟. فقال الشيخ عزيز الرحمن رحمه الله: إذن يجوز لكم ما تتناولونه من الوجبات الجامعيّة المجّانيّة، ويؤسفني جدًّا أنني أَشَرْتُ عليكم بما أنتم لاتقدرون عليه.

       ظَلَّ رحمه الله على هذا الودّ الصافي لنا والعطف واللطف البالغين بنا مادمنا طلاّبًا بالجامعة، وفارقناها فبقي على اتّصال بنا عن طريق المراسلات واستخبار أحوالنا بواسطة من يزور الجامعة من وقت لآخر.

       ثم صرتُ أستاذًا بالجامعة في عام 1402هـ/ 1982م، فسُرَّ بذلك كثيرًا كما يُسَرُّ الوالدُ العطوف بولده إذا حَقَّقَ مكسبًا كبيرًا يتّصل بالدنيا أو الآخرة. وكثيرًا ما كنتُ أجلس إليه في مجلس ينتظم بغرفته في محيط مبنى “الجامعة الطبيّة” أو بغرفة الشيخ الكاتب الإسلامي الفقيه المفتي محمد ظفير الدين المفتاحي حفظه الله (1344هـ – … = 1926م – …) المفتي بالجامعة سابقًا أو بغرفة الشيخ المحدث محمد حسين البيهاريّ رحمه الله (1321-1412هـ = 1903-1992م) الأستاذ بالجامعة سابقًا. وقد لَعِبَ دورًا كبيرًا في إيناسنا وتهيئتنا ذهنيًّا للبقاء أستاذًا في الجامعة في ذلك المناخ المُكَهْرَب بالهرج والمرج بعدما سيطرت عليها الإدارةُ الجديدةُ – لأسباب لا يعنينا ههنا ذكرها – التي أقصت عنها الإدارةَ القديمةَ التي كان يقودها العالم الهنديّ الفريد ترجمانُ الإسلام الكبير ولسانُه البليغ في الديار الهندية في عصره: الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله حفيد مؤسس الجامعة الإمام الهمام وسند الإسلام في عصره في الديار الهندية الشيخ محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى (1248-1297هـ = 1832-1880م) .

       كان أَبْيَضَ مائلاً إلى السُّمْرَة، رَبْعَةً من الرجال، مفتولَ الأعضاء لحدّما، كثَّ الحاجبين، قليلَ أشعار اللحية، عيناهُ تتوقّدان ذكاءً، وتشفّان عن فطنة طبيعيّة، واسعَ الجبين، أشمَّ الأنف، يخطو تَكَفُّأً، طلقَ الوجه، ترقص الابتسامةُ دائمًا على شفتيه، فإذا دَهَمَته مهمةٌ غَرِق في تفكير طويل وصمت عميق، مُطَّلِعًا على الأحوال الحاضرة، مُعَلِّقًا على الظروف، مُحَلِّلاً للأنباء، بصيرًا بطبائع الناس، خبيرًا بدخائلهم من خلال سلوكهم في الحياة، وتعاملهم مع الناس، ونَبْرَتهم في الحديث العامّ، ناصحًا لمعارفه، حريصًا على خيرهم، مواظبًا على آداب الدين وأحكامه، مُحَافِظاً على صلاة الجماعة، لاتفوته تكبيرةُ الإمام الأولى، مهتمًا بحضور الصفّ الأوّل، محترزًا من الناس إلاّ فيما يعنيه دونما كُرْهٍ لهم أو عداء معهم .

       ولئن غَادَرَ رحمه الله هذه الدنيا التي لابدّ أن يُغَادِرها كلُّ من أَتَى3 إليها؛ فإنه لن يغادر قلوبَنا التي شَغَفَها حبًّا بحسن سيرته، وصفاء سريرته، وكريم أخلاقه، وطيب نفسه، وخفّة روحه، ومواساته المُتَنَاهِيَةِ، وسخاء يده، ورحابة صدره، وذكائه الكبير الذي كان سمةً لشخصه.

       وما أَكْبَر وأَسْعَدَ الإنسانَ الذي يبقى حيًّا بعد الموت، الذي لايُمِيْتُه؛ فيفقد – الموتُ – معناه وحقيقتَه؛ حيث يُمِيت جسمَه ولا يُمِيت ذكرَه، ويُغِيبه جسديًّا ولا يُغِيبه روحيًّا، فيبقى نشيدًا خالدًا على فم الزمان، ورسمًا محفورًا في جبين التاريخ، وذكرى خالدة في قلوب الذين يكون قد زرع فيها حبّه الذي لاتمحوه قوّةٌ في الكون .

       نما إلى أذنيّ نعيُ وفاته رحمه الله، فجال في ذاكرتي هذا الشريطُ الجميلُ الطويلُ من الذكريات اللّذيذة العزيزة، وخِلْتُ أنه رحمه الله لدى كتابةِ هذه السطور، ماثلٌ أمام عَيْنَيَّ، يضاحكنا بفقراته الساخرة، وجُمَله المثيرة للمعاني، وكلماته المُعْجِبة المُطْرِبَة، ذات الدلالات البارعة، والإشارات اللطيفة .

       كلُّ إنسان يموت ويخضع لعمليَّة الموت، وينهار لدى قسوته وجبروته، إلاّ الإنسان الحيّ بحسن سيرته، وجميل سلوكه، والمسرّاتِ التي كان يُوَزِّعها مَجَّانًا على الإخوان وأبناء الإنسان، والأحزانِ التي كان يقتلها شرَّ قِتْلَة قبل أن تُؤْذِي معارفَه ومحبّيه، والحسناتِ التي كان يُؤَدِّي بها الحقوقَ، ويكسب بها القلوبَ، ويفعل بها الخيرات التي تزكو على الإنفاق.

       كان الشيخُ عزيز الرحمن ذاك الإنسانُ الحَيُّ بعد الموت، والحاضرُ بعد الغياب، والماثلُ بعد الخفاء. جَزَاه اللهُ عن كلِّ خير أسداه إلى أحد في حياته، وكلِّ حسنة فعلها لربّه وابتغاء وجهه، وأَدْخَلَه فسيح جنّاته، والحمدُ لله رب العالمين .

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأحد: 14/شوال 1430هـ = 4/أكتوبر 2009م)

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ذو القعدة 1430 هـ = نوفمبر 2009 م ، العدد : 11 ، السنة : 33

Related Posts