كلمة العدد
في الآية التي أحاط الله عزّ وجلّ المسلمين بأنّه يفرض عليهم الصيامَ، أمور تتطلّب منّا الوقفةَ المتأنيّة، حتى نتأمّل فيها ونستوعبها فهمًا وعملاً، فتكون مُشَجِّعَةً لنا على الحرص على أداء هذه العبادة العظيمة الكثيرة المنافع والأرباح.
يقول الله عزَّ وجلَّ:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودٰتٍ” (البقرة/ 183 – 184).
أوّلاً: نادانا الله تبارك وتعالى بأعظم رباط يربطنا به، وأَكْرَمِ صِلَة تجعلنا من أحبّائه. وهو رباط الإيمان، وصلة توحيده وإفراده بالعبادة والعبوديّة، ممّا يعني أن الصيام لايصحّ إلاّ إذا كان الصائم على صفة الإيمان؛ فما يمارسه غير المؤمنين مما يُسَمُّونه “صيامًا” ليس صيامًا عند الله؛ لأنهم يفقدون الأساس الذي يقوم عليه بناء الصيام، وهو الإيمان.
وثانيًا: صَرَّح الله تعالى أنّ الصيام ليس بدعًا في الإسلام، وإنما الصوم كان مفروضًا على من قبلنا من أمم الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى وقتنا هذا. وإنّما قال ذلك ليُسَهِّل علينا الأداءَ، ويُخَفِّف عنّا مشقته؛ لأنّه الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع نية الصيام من الفجر الصادق إلى غروب الشمس. وذلك شيء يشقّ على كثير من الناس؛ ولكن الإيمان الصادق الذي يورث التعلقَ به تعالى والاطِّراحَ على عتبته يُهَوِّن كلَّ مشقّة، ويُخَفِّف كلّ عناء. قال البيضاوي رحمه الله : وفيه توكيد للحكم، وترغيب في الفعل، وتطييب على النفس .
ثالثًا: بَيَّن لنا غاية فريضة الصيام، فقال: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” أي إن أداء هذه الفريضة يورث في المُؤَدِّي “التقوى” وهي بالإيجاز: أن يستشعر المرأ عظمةَ الله تعالى، وأنه معه أينما كان، يرى كلَّ ما تصنع يداه، وتمشى إليه رجلاه، وتنظر إليه عيناه، حتى إنّه يعلم ما تُحدِّث به نفسُه، ويختلج به قلبُه، ويُفَكِّر فيه رأسُه، ويُحِيْطُ بكل حركاته وسكناته وجميع تصرُّفاته الصغيرة والكبيرة، والدقيقة والجليلة. وقد قال العلماء: المعنى: اتقاءُ المعاصي؛ لأن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها، كما قال عليه الصلاة والسلام: “فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وِجَاءٌ”.
فالصِّيامُ مفتاحُ التقوى، والتقوى رأسُ صحَّة كلِّ ما يقوم به المسلمُ من الأعمال المفروضة أو النافلة؛ فكان الصيامُ أهمّ العبادات المفروضة؛ من هنا كان فضلُه كبيرًا، وأجره عظيمًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر؛ والإمامُ العادل؛ ودعوةُ المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقول الربّ: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين”. (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وحَسَّنه؛ وابنُ حِبّان في صحيحه).
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “قال الله عزَّ وجلَّ: كلُّ عمل ابن آدم له، إلاّ الصوم؛ فإنّه لي وأنا أجزي به. والصيامُ جُنَّة؛ فإذا كان صومُ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سَابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم؛ والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فَرِحَ بفطره وإذا لقي ربّه فَرِح بصومه”. (رواه البخاري واللفظُ له؛ ومسلمٌ). وفي رواية للبخاريّ: “يترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي. الصيامُ لي وأنا أجزي به. والحسنةُ بعشر أمثالها”.
وهذا الحديثُ عظيم في باب التأكيد على فضائل الصوم؛ لأنّه صريح في العظمة التي تخصّ الصومَ ولا تُوْجَد في غيره من العبادات رغم أهميّة كل منها. وقد قال العلماءُ: إنّ فقرة “فإنه لي وأنا أجزي به” عظيم الدلالة على ما له عند الله تعالى من المكانة الفريدة التي أفرده الله بها، ومَيَّزه بها عن غيره من العبادات؛ فقد قال: كلُّ عمل ابن آدم له، أي إنّه قد يستطيع أن يمارس فيه الرياء العمليّ، ويُظْهِر خلافَ ما يُبْدِي؛ ولكنّه لايقدر على ذلك في باب الصيام؛ لأنّه لايقبل الرياءَ؛ فهو خالصٌ له تعالى؛ ولهذا أضاف الجزاء عليه إلى ذاته تعالى، مع أنه هو الذي يُجَازِي العبدَ على كلّ عمل، وليس على الصيام فقط .
وقال الإمام النووي رحمه الله: “اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى؛ فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يَعْبُدْ أحدٌ غيرَ الله تعالى به؛ فلم يُعَظِّم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يُعَظِّمُونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة. وقيل: لأنه ليس للصائم فيه حظّ. قال الخطابي: وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى؛ فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لايشبهها شيء. وقيل معناه: أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه أو تضعيف حسناته. وغيرُه من العبادات أظهر سبحانه بعضَ مخلوقاته على مقدار ثوابها. وقيل: هي إضافةُ تشريف، كقوله تعالى: “نَاقَةَ اللهِ” مع أنّ العالم كلّه لله تعالى. وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث عليه. وقوله تعالى: (وأنا أجزي به) بيان لعظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولّى بنفسه الجزاءَ، اقتضى عظم قدر الجزاء، وسعة العطاء” شرح صحيح مسلم للنووي، ص29/ج8.
وفي حديث عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يارسول الله! قال: الْصَومُ جُنَّةٌ، والصدقةُ تُطْفِئ الخطيئةَ، كما يُطْفِئ الماءُ النارَ” (رواه الترمذي، وصَحَّحَه).
والجُنَّة: أي الوقاية من الوقوع في المعاصي أو الوقاية من النار، وهي فضيلة كبيرة تخصّ الصومَ؛ لأنّه مَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. والصيامُ يعين على هذه الغاية الكبرى والمقصد الأسمى الذي كلُّ مسلم يتمنّى ويسعى أن يفوز به؛ لأنّ العمل بالدين، والإيمان به تعالى، واتباع أوامره ونواهيه، وإتيان ما أمره به من أحكام، إنما الغرض منه النجاة من النار والفوز بالجنة.
وأكّد صلّى الله عليه وسلم على فضيلة الصوم هذه في حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدريّ – رضي الله عنه – قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : “ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليوم وجهَه عن النار سبعين خريفًا”.
والخريفُ: السنةُ. وإذا كان ذلك تأثير صوم يوم واحد، فما بالك بصيام ثلاثين يومًا في رمضان أفضل الشهور، الذي نَزَلَ فيه القرآنُ؟.
وجاء التأكيد على هذا المعنى في حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه”
ومن غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه عاد بريئًا ليس عليه مسؤوليةٌ أمام ربّه بإذنه؛ فإن مات في هذه الحالة من البراءة من الذنوب، دخل الجنة بفضله تعالى.
فالصيامُ عبادة فريدة في التجريد من الذنوب، والتقريب من الله، والتحبيب إليه، وتحويل الصائم مستحقًا لجنّة ربّه بمنّه وكرمه. ولايمكن أن يتخرّج المسلم على هذه الصفات العظيمة إلاّ في مدرسة الصيام، من هنا وردت أحاديث كثيرة تشيد بفضله، وتشجع على أدائه، وتُرَغِّب في الإكثار منه في غير رمضان أيضًا؛ ولكن صيام رمضان فريضة، لايمكن مسلمًا أن يتخطّاها؛ ولكون فضائله جمة، ومكانته جليلة عند الله تعالى جاء الوعيد الشديد على ترك صيام رمضان المفروض أو الإخلال به؛ فقد روى البخاريّ عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامَه وشرابه”.
وذلك لأن قول الزرو يخلّ بروح الصيام، ولايدع الصيامَ يستوفي خصائصه التي من أجلها فُرِضَ وهي التي تجعله يسمو إلى إيراث التقوى التي هي أصل كل عمل من الأعمال التي يمكن أن يتقرب بها العبد إلى الله تعالى أو يؤديها فريضةً منه تعالى.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضِه صومُ الدهر كلّه”. (رواه الترمذي، واللفظ له؛ وأبوداود؛ والنسائي؛ وابن ماجة؛ وابن خزيمة في صحيحه. وذكره البخاري تعليقًا غير مجزوم؛ فقال: ويُذْكر عن أبي هريرة الخ).
* * *
وأما شهر رمضان الذي فرض الله علينا صيامَه، فهو شهر فضيل كريم أشاد بذكره ربنا الله عزّ وجل في كتابه العظيم، إذ قال:
“شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدّى لِلنَّاسِ وبَيِّنـٰـتِ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَان” (البقرةَ/ 185) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خمسُ خصال في رَمَضَانَ لم تُعْطَها أمّةٌ قبلهم: خلوفُ فم الصائم عند الله أطيبُ من ريح المسك؛ وتستغفر الحيتان لهم حتى يُفْطِرُوا؛ ويُزَيِّن اللهُ كلَّ يوم جنَّتَه ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلْقُوا عنهم المؤنةَ ويصيروا إليك؛ ويُصَفَّد فيه مَرَدَة الشياطين، فلا يَخْلُصَون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره؛ ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله! أ هي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنّما يُوَفَّىٰ أجرَه إذا قضى عملَه” (رواه أحمد؛ والبزار؛ والبيهقي؛ ورواه ابن حبان في كتاب التوحيد أن عنده: “وتستغفر لهم الملائكةُ بدل الحيتان”).
فهذه الخصالُ إنما أُعْطِيَتِ الأمّةُ في رمضانَ الكريم أفضل الشهور عند الله عزّ وجل. وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان، مُكَفِّرات ما بينهنّ، إذا اجْتُنِبَت الكَبَائِرُ” (رواه مسلم) .
وهناك حديث يذكر فضائل جمة لرمضان رواه سلمان الفارسي – رضي الله عنه – قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم من شعبان، فقال:
“يا أيها الناس! إنه قد أظَلَّكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامَه فريضة، وجعل قيامَ ليله تطوّعًا؛ من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فريضة فيه، كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر، والصبرُ ثوابه الجنّة، وشهر الموساة، وشهر يزاد في رزقُ المؤمن فيه. من فطّر فيه صائمًا، كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار. وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا يا رسولَ الله ! ليس كلُّنا يجد ما يُفَطِّر الصائمَ: قال: يعطي الله هذا الثوبَ من فطّر صائمًا على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن. وهو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. من خَفَّفَ عن مملوكه فيه، أعتقه الله من النّار. واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين تُرْضَون بهما ربّكم، وخصلتين لاغِنَاءَ بكم عنهما؛ فأما الخصلتان الّلتان تُرْضُون بهما ربّكم: فشهادة أن لا إله إلاّ الله وتستغفرونه؛ وأما الخصلتان اللتان لاغِنَاءَ بكم عنهما: فتسألونَ اللهَ الجنّةَ، وتعوذون به من النار. ومن سقى صائمًا سقاه الله من حوضي شربة لايظمأ حتى يدخل الجنة” (رواه ابن خزيمة في صحيحه. ثم قال: صَحَّ الخبر؛ ورواه من طريق البيهقي؛ ورواه أبوالشيخ ابن حبّان في الثواب باختصار عنهما).
وقد قال العلماء: إن هذا الحديث أشمل الأحاديث في بيان فضل رمضان وأهميته لدى الله تعالى، وفيه ما يُشَجِّع حتى ضِعَافَ الإرادة من المسلمين وقليلي الهمّة منهم على اغتنام الفرصة، وتقدير ما في رمضان من البركات، وجمع ما فيه من الحسنات، وشدّ المئزر؛ لأن لايَدَعُوا لحظة منه تضيع دونما فائدة. وقد سمعنا قصصًا كثيرة لصالحي سلفنا أنهم كانوا يفعلون فيه من الخير، ويؤدون فيه من العبادات، ويمارسون فيه من أعمال الحسنات، ما كان يدلّ أنّ الله يكون قد غفر لهم جميعَ ذنوبهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أظلّكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مَرَّ بالمسلمين شهر خير لهم منه ولا مَرَّ بالمنافقين شهر شرّ لهم منه بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنّ الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدْخِلَه، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله . وذلك أن المؤمن يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للعبادة، ويُعِدّ فيه المنافق اتّباعَ غفلات المؤمنين واتّباعَ عوراتهم؛ فغنم يغنمه المؤمن. وقال بُنْدَار في حديثه: فهو غَنْم للمؤمن يغتنمه الفاجر” (رواه ابن خزيمة في صحيحه؛ وغيره).
وفي حديث طويل لحد ما عن أبي مسعود الغفاري رضي الله عنه، “قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم وأهلّ رمضان، فقال: لو يعلم العِبَادُ ما رمضان؟ لتمنّت أمتي أن تكون السنةُ كلُّها رمضانَ” (رواه ابن خزيمة في صحيحه؛ والبيهقي من طريقه).
الحقُّ أن رمضان جعله الله للمؤمن موسمًا للخيرات، وفرصةً ذهبيَّةً لتطهير نفسه من جميع الذنوب والآثام التي يكون قد ارتكبها خلال السنة في غفلة منه أو عمد لتحريض من الشيطان، أو ضعف في النفس، فكان من رحمته تعالى أنه جَعَلَ هذا الشهر فرصةَ دورةٍ تدريبيَّةٍ يلتحق بها، فيتجرّد فيها من جديد مُنَزَّهًا من كلّ ما صَدَرَ منه من الأخطاء والمعاصي التي يتعرّض لها البشر لا مَحَالَة.
من ثم جاء وعيد شديد في بعض الأحاديث في شأن من أظلّه رمضان، وأدرك موسمه المبارك، ولم يُوَفَّق أن يأتي من الحسنات ما يُسَبِّب له المغفرة من ربّه الكريم؛ لأنه أضاع الفرصة المتاحة من الله المُخَصَّصَة لطلب المغفرة، وإزالة كل ما علق بنفسه من وصمات الذنوب، ولم يكترث لها حتى فاتته دونما جَنْي فائدة مرجوّة منها، وكأنّه بذلك أَهْدَرَ قيمتها، وأضَاع أهميّتها.
فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اُحْضُرُوا المنبرَ. فحضرنا، فلما ارتقى درجةً قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجةَ الثالثةَ قال: آمين. فلما نزل، قلنا: يا رسول الله! قد سمعنا منك اليومَ شيئًا ما كنّا نسمعه؟ قال: إنّ جبريل عليه السلام عَرَضَ لي، فقال: بَعُدَ من أدرك رمضانَ فلم يُغْفَر له، قلت: آمين. فلما رَقِيْتُ الثانيةَ قال: بَعُدَ من ذُكِرْتَ عنده، فلم يُصَلِّ عليك، فقلت: آمين. فلما رقيتُ الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكِبَرُ عنده أو أَحَدَهما، فلم يُدْخِلاَه الجنّةَ، قلت: آمين” (رواه الحاكم. وقال: صحيح الإسناد).
هناك أحاديث كثيرة في مجاميع الأحاديث تبين فضل الصيام وفضيلة رمضان، وتدعو لاغتنام فرصة رمضان إذا أدركها أحد منّا؛ لاتوجد عبادة من العبادات المفروضة أو النافلة تبلغ درحة الصيام في إكساب العبد الخيرَ الجمَّ الذي يجعله من عباده الصالحين. من هنا عندما طَلَبَ بعضُ الصحابة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوصيه بعمل فقال له صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بالصوم، وأعاد عليه الطلب ثلاثًا، فقال ثلاثاً أن يأخذ بالصوم:
“عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنّه لا عدلَ له. قلت: يا رسولَ الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنه لاعدلَ له. قلت: يا رسول الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنه لامثل له”. (رواه النسائي؛ وابن خزيمة في صحيحه هكذا بالتكرار وبدونه؛ والحاكم وصَحَّحَه).
وفي رواية للنسائي:
“قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسول الله! مُرْنِي بأمر ينفعني اللهُ به. قال: عليك بالصيام؛ فإنّه لامثلَ له”.
ورواه ابنُ حبّان في صحيحه في حديث:
“قال: قلتُ: يا رسولَ الله! دُلَّني على عمل أدخل به الجنَّةَ. قال: عليك بالصوم؛ فإنّه لامثلَ له. قال: فكان أبو أمَامة لايُرَىٰ في بيته الدخانُ نهارًا إلاّ إذا نزل بهم ضيفٌ”.
* * *
وقد ذكر العلماء أسرار الصيام، فقالوا:
أولاً: تقليل الأكلِ والشربِ والاسترسالِ في الملذّاتِ؛ لتضعف القوة البهيميّة، وتسمو روحُ الإخلاص، والقوةُ الملكيّة المتحلّية بالفضائل. ثانيًا: تخلّق المؤمن بخلق من أخلاق المهيمن جلّ وعلا، وهو الصمديّة، وتشبُّهه على قدر الإمكان بالملائكة المقربين من الله تعالى في الصفات، المنزهين من جميع الشهوات في الكفّ عنها والخلوّ منها. ثالثًا: تعويده الصبرَ والثباتَ على المكاره؛ فإنّ الصائم يكلف نفسه البعدَ عن مشتهياتها من الأكل والشرب ومباشرة النساء، ويذودها عن ذلك بعزم قويّ وصبر حسن. رابعًا: تذكير العبد بما هو عليه من الذلة والمسكنة. لأنه يشعر أثناء صومه بحاجته إلى يسير الطعام، وقليل الشراب. والمحتاجُ إلى الشيء ذليل به. خامسًا: المحافظةُ على النفس من الوقوع في الآثام. سادسًا: حث الأغنياء على مساعدة الفقراء، والقيام بما يذود عنهم عادي الجوع وغائل الصدى. سابعًا: إيقاد الفكرة وإنفاذ البصيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جاع بطنُه عظمت فكرته وفطن قلبه. وقال صلى الله عليه وسلم: البطنُ أصل الداء، والحمية أصل الدواء. وقال لقمان لابنه وهو يعظه: يابنيّ! إذا امتلأت المعدة، نامتِ الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة، وصفاء القلب، ورقة المدرك، وبهما لذة المناجاة والتأثر بالذكر. (من كتاب “أسرار الشريعة الإسلاميّة” ص:138. انظر:حواشي الترغيب والترهيب، ص:108/ ج:2، ط: ممباي).
( تحــــريرًا في الساعـــة 11 من صباح يـــوم الثلاثاء: 27/ رجب1430هـ = 21/يوليو 2009م )
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان – شوال 1430 هـ = سبتمبر – أكتوبر 2009 م ، العدد : 10-9 ، السنة : 33