كلمة العدد
في الخطاب الشهير المُنْتَظَر الذي ألقاه الرئيس الأمريكيّ “أوباما” أو “الرسالة” التي وَجَّهَها إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة العريقة بالقاهرة عاصمة “مصر” يوم الخميس: 10/ جمادى الثانية 1430هـ = 4/ يونيو 2009م أثبت قدرتَه الخطابيَّةَ الكبيرةَ وأكّد أنه يمتاز بشخصيّة قويّة جدًّا تمتلك قدرةً فائقةً على الإقناع والتأثير في المستمعين على اختلاف الديانات والاتّجاهات. ولا غرو؛ فإنه بفضل هذه القدرة الإقناعيّة التأثيريّة الخطابيّة تمكّن من إقناع الناخبين الأمريكان بأن ينتخبوه رئيسًا لبلادهم، رغم كونه من الأصول السوداء، ومن أصل مسلم أفريقي، ولم يكن لعائلته من ناحية والده امتداداتٌ في الحياة الأمريكيّة أو نشاطات في الساحة السياسيّة الأمريكيّة؛ حيث عاد والده المسلم إلى بلده “كينيا” وتركه طفلاً إلى والدته المسيحيّة، التي تزوّجت مسلمًا آخر من “إندونيسيا” التي فيها نشأ مع والدته في كنف والده الإندونيسيّ سنوات، ثم كفله جدّاه لوالدته، فنشأ على المسيحيّة، وهو الآن يعتزّ بمسيحيّته، رغم أصوله الإسلاميّة ورغم إبقائه على صلات بأفراد عائلة والده المسلمة.
والحقُّ أن “أوباما” – باراك أو بارك حسين أبوعمامة – بسحر خطابه: فصاحته وحصافته، وبلاغته وبديهته، وثرائه المعرفي، واستدلاله القوي، وثقته بنفسه، كما يقول كاتب مقال صحفي عربيّ، وقدرته الغريبة على التلاعب بالكلمات، ونحت التعابير، وتحبير الألفاظ، استطاع أن يحتلّ استحسانَ المستمعين العرب إن لم أقل استحسانَ المسلمين في العالم كلّه، على حين إنّه لحدّ اليوم منذ تولّيه الرئاسة لم يصنع شيئًا يُذْكَرُ نحو تحسين صورة أمريكا النمطيّة السلبيّة في أنظار المسلمين والعرب فيما قبل أو بعد الخطاب – الذي عَمِلَتِ الجهاتُ الأمريكيّةُ المسؤولةُ على تشهيره وترويجه كثيرًا قبل أن يُلْقَى كأنّه سيكون مفتاحًا سحريًّا أو حجرَ فلاسفة في التغيير الجذري في سياسات أمريكا نحو الإسلام والمسلمين وبالتالي في نظرة المسلمين إليها – فقد جاء في استطلاع منشور فيما بعد إلقاء الخطاب في موقع “البي بي سي لندن” الإلكتروني بالعربيّة الذي كان قد عَرَضَه على القراء من خلال أسئلة تالية:
* هل جاء الخطابُ كما توقّعتَ؟ * وما هو أكثر ما أثار اهتمامَك فيما وَرَدَ فيه؟ * هل ستتغيّر طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والمسلمين بعد الخطاب؟ * هل أنت على استعداد لتغيير نظرتك إلى أمريكا؟ .
وصُنِّفَتِ الإجاباتُ تحت ثلاث مجموعات: المجموعةُ الأولى تضمّ الذين يؤيّدون أو يميلون إلى التأييد، ويرون أنّ الخطاب كان تأريخيًّا جيّدًا؛ والمجموعةُ الثانيةُ ترفض الخطابَ، وترى أنه ليس فيه شيء جديد يُبَشِّر بفترة أمريكية قادمة إيجابيّة حاملة للخير نحو العالم الإسلامي؛ بل هو خطاب يشتمل على الشرّ والنظرة السيئة والموقف السلبيّ؛ والمجموعةُ الثالثةُ مُحَايِدَة ترى الخطابَ جيّدًا إذا عَمِلَ صاحبُه بشروط ونَفَّذَها حقًّا.
والمجموعةُ الأولى حصلت على نسبة 45٪ والمجموعة الثانية حصلت على نسبة 24٪ والمجموعة الثالثة حصلت على نسبة 31٪ .
جاء في الاستطلاع ما يؤكّد أن أوباما بسحره الخطابي وحده قدر على كسب كثير من الأنصار والمؤيدين في الوهلة الأولى، الذين سينظرون في الفترة القادمة قدرتَه على التعامل مع مُتَطَلَّبات رسالته التي وَجَّهَها إلى العالم الإسلاميّ موضوعًا في القالب المعسول الذي لذّوه عندما استمعوا لها – الرسالة – .
ولاشكّ أن الانبهار بخطابه بشكل عامّ جاء من قبل الشارع العربي الإسلامي الذي لايدرك أبعادَ الحقيقة المستورة وراء الكمات، والبعدَ الشاسع بين القول الذي يُقَال والعمل الذي يُعْمَل. ولو تغيّرتِ الحقائقُ بمجرد القول غير المقرون بالعمل لكان العالم غيرَ الذي نعيشه.
ولا شَكَّ أن “أوباما” حتى خلالَ خوضه المعارك الانتخابيّة بدا ظاهرةً مُتَفَرِّدَةً في السياسة الأمريكيّة، وعَارَضَ بشدّة مواقفَ “بوش” الأب و”بوش” الابن وغيرهما من الرؤساء الأمريكيين الذين اعتمدوا أن يَتَلاَعَبُوا بالنار في السياسات الخارجيّة ولاسيما التي تتعلق بالعالم الإسلاميّ. من ثمّ عَلَّق المسلمون عليه أمالاً عريضةً وحسبوا أنه سيقلب سياسة أمريكا نحوهم رأسًا على عقب أو ظنّوا أنه سيصنع الشيءَ الكثيرَ الذي يُرْغِمهم على تغيير نظرتهم إلى أمريكا التي تبدو لحدّ اليوم عدوًّا لدودًا للإسلام والمسلمين، ومواقفُها من الإسلام والمسلمين تُؤَكِّد أنها تصدر في جميع خطواتها عن الروح الصليبيّة المُطَعَّمَة بالروح الصهيونيّة.
وكأنهم نَسُوْا أنّ “أوباما” تَعَمَّدَ أن يكون صوتًا نشازًا بين المُرَشَّحِين غيره جميعًا، بسحره الكلامي، ولباقته الحديثية، وإقناعه الخطابي، وإطلاقه وعودًا ومواثيقَ وآمالاً لاَمَسَتْ قلوبَ الناخبين الأمريكيين، وأثـّرت في قلوب العالم، وأَعْجَبَتِ المسلمين وغير المسلمين في أقطار الدنيا، الّذين كانوا قد سَئِمُوا حقًا وكَرِهُوا جدًّا موقفَ “بوش” وسياستَه التي أدار بها بلادَه وألصقت بها هويَّةَ الدولة المُسْتَبِدَّة الغاشمة الاستعماريّة التي تودّ فرضَ سيطرتها على العالم بقوّتها العسكريّة وتكنولوجياها المُتَطَوِّرَة، وترغم دولَ الغرب بنحو أو آخر على خوض الحرب معها على “الإرهاب” وتحويل العالم مكانًا أسوأ فاقدًا كليًّا للأمن والسلام لايجدر بسكنى البشر.
وبحيلته الناجعة هذه اكْتَسَحَ أصواتَ الناخبين الأمريكيين وفاز في انتخاب الرئاسة بأغلبية ساحقة، وألقى على معارضيه البيض لأول مرة في تاريخ أمريكا هزيمة منكرة، وهم الأغلبية الكبيرة في أمريكا وبيدهم الحلّ والعقد. فسَجَّلَ بذلك حدثاً تاريخيًّا في أمريكا لم يسبق له نظير.
ولكنّه لم يكن ليكتسح الأصواتَ مُقَابِلَ المُرَشَّحِين البيضَ – الذين ظلّوا مُتَرَبِّعِين على عرش الحكم الأمريكيّ ولاسيّما على منصب الرئاسة – لولا رضا الناخبين اليهود واللوبيّ الصهيونيّ القويّ الذين يحتلّون القطاعين: الإعلاميّ والاقتصادي، ويتمكّنون من الأجهزة الإداريّة في أمريكا، والذين هم الذين يديرون أمريكا أصلاً، ويُسَيْطِرُون على الشؤون الداخليّة والخارجيّة، ولايمكن رئيسًا أمريكيًّا أن يتجاوز ما يريدون وما لايريدون، وأن يُغَيِّر سياسةَ أمريكا الثابتة نحو “إسرائيل” ونحو العالمين العربي والإسلاميّ، وهي سياسةُ العداء والصراع والإضرار بالإسلام والمسلمين.
ورغم ذلك يودّ “أوباما” أن يصنع خلال فترة رئاسته ما يجعله شامًّا بين الرؤساء الأمريكان، ويخلّد اسمَه في سجّل التأريخ؛ فيحاول أن يُحَسِّن صورة أمريكا القبيحة في نظر العالم الإسلامي بموقف يظنّ أنه يكون وَسَطاً لايُغْضب اللوبيَّ الصهيونيَّ داخل أمريكا أو اليهود في العالم أو المسيحيين المُتَعَصِّبِين. وكأنّه أحسّ في قرارة نفسه كأمريكي بعقدة الذنب الناشئة عن الجرائم الوحشيّة المتصلة التي ارتكبتها ولا تزال أمريكا نحو العالمين الإسلاميّ والعربي والإسلام والمسلمين بالذات، فاختار لخطابه الدولة العربيّة التي لها ثقلها في العالم و العالم الإسلامي العربي بالذات وهي “مصر” العربية التي تقع بجوار “إسرائيل” أيضًا التي الإبقاءُ على رضاها قضيةٌ محوريَّةٌ لدى “أوباما” ولدى جميع الرؤساء الأمريكيين، فألقى من خطابه ما سَمَّاه “رسالة إلى العالم الإسلاميّ”.
وقد ذكر فيه سبع قضايا، وعرضها بشكل تغاضى فيه عن أصل القضايا، أو أَوَّلَها تأويلاً يخدم مصالحَ أمريكا وإسرائيل ولايخدم بشكل قضايا الإسلام والمسلمين. وإذا أحسنّا الظنّ بـ”أوباما” قلنا: إنّه حاول بذلك تجنّبَ السخط الصهيونيّ وسخط المسيحيين الحاملين للروح الصليبيّة. وإذا أسأنا به الظنَّ واعتبرناه رئيسًا أمريكيًّا إنّما يتبنّى مصالح بلاده وشعبه، قلنا إنّه حاول أن يخدعنا بمعسول القول، وسحر الحديث، وأن ينسى المسلمون جميعَ جروحهم وآلامهم التي ظلّت – ولا تزال – أمريكا تصيبهم بها دون مقابل منها مدفوع إليهم. وكأنّه أَكَّدَ للمسلمين أنّه لن يغيّر سياسةَ أمريكا الثابتة نحوهم؛ لأنه ليس بقادر على ذلك، وإنما ينبغي أن يتغيّروا هم بمُجَرَّد القول اللذّ الذي جَاءَ يخاطبهم به. أ ليس من حسناتي أنني أوَّلُ رئيس في تاريخ أمريكا أدرك ضرورةَ خطابهم المباشر ورآهم جديرين بأن يتحدّث إليهم خصيصًا رئيس أمريكيّ!!. ومن ثم أعاد مرارًا خلال خطابه أنّ خطابًا واحدًا لن يُلغي سنوات من عدم الثقة وأنّ التغيير لايحدث بين عشيّة وضحاها، وأنّه لايستطيع أن يقدّم الإجابة عن كل المسائل المُعَقَّدَة.
بدأ “أوباما” خطابَه بـ”السلامُ عليكم” ثم استهلَّ خطابَه المُسْهِب بأسلوب المجاملة الذي حاول أن يتذرّع به إلى النفوذ في قلوب المسلمين؛ فأثنى على جامعة الأزهر والشعب المصري وحسن حفاوته واستضافته، كما أثنى على الإسلام ومنّته على الإنسانيّة، المتمثلة في بناء الحضارة والثقافة وتطوير العلوم وإحداث الفنون؛ حيث مهّد الطريق إلى التنوّر والانبعاث الحضاريّ في أوربّا بدءًا من إسبانيا، واكتشف طريقَ الاختراع والاكتشاف، ووَضَعَ أسلوبًا في البناء والهندسة، والشعر والموسيقي، وعَرَّفَ العالمَ بالمنارات الذاهبة في السماء والمحاريب التي إنما كانت من مُعْطَيَات الثقافة الإسلاميّة، وأَثـْبَتَ الإسلامُ في تاريخه الطويل تسامحَه الدينيَّ ومساواتَه العرقيّة قولاً وفعلاً. كما صرَّح أن الإسلام كان دائمًا جزءًا من أمريكا، وأن المغرب العربي كان أول بلد اعترف بالولايات المتحدة، وساهم المسلمون الأمريكان في إثراء البلاد، وأنه يوجد في أمريكا نحو سبعة ملايين مسلم لهم حريّة في إقامة الشعائر في أكثر من 1200 مسجد؛ ومن ثم يرى أنّه من مسؤوليته التصدّي للصُوَرَ النمطية السلبيّة عن الإسلام، وكذلك عن صورة أمريكا لدى الآخرين، ومثلما لاتنطبق على المسلمين الصورة النمطيّة البدائيّة فإن الصورة النمطية البدائية للإمبراطوريّة التي لاتهتمّ إلاّ بمصالح نفسها لاتنطبق على “أمريكا”.
والذي يجب ملاحظتُه أن “أوباما” يعني بـ”الصورة النمطيّة البدائيّة للإسلام” هو العمل بالإسلام بحذافيره والتصلّب في الدين والثبات على جميع أحكام الإسلام. وهو كرئيس لأمريكا – كما يقول – يرى من مسؤوليته أن يتصدّى لهذا الإسلام، وكأنّ الرئيس الأمريكي مسؤوليته الهامّة أن يُقَرِّر هو ما هو الإسلام وما هو ليس بالإسلام!!. والخطر يكمن في أمثال هذه التعبيرات الغامضة المُغَلَّفَة بالعرض الجميل والطرح الخلاّب.
أمّا ما قاله بشأن أمريكا فالمسؤولية تعود عليه أن يُغَيِّرها بحيث لايرى المسلمون إليها أنّها إمبراطوريّة لاتهتمّ إلاّ بمصالح نفسها ومصالح الصهاينة ودولة إسرائيل، وتحارب مصالحَ الإسلام والمسلمين في كل مكان .
قال “أوباما” في بدايات خطابه: إنه جاء إلى القاهرة ساعيًا لرسم بداية جديدة للتعايش المبنيّ على الاحترام والتفاهم، مُمَهِّدًا لحوار جديد، مُرَوِّجًا لتقارب تاريخيّ بين الغرب والمسلمين، مُحَاوِلاً تدميرَ فكرة صراع الحضارات. وكأنه يقول: إنّ بلاده أمريكا تؤمن وتعمل بالتعايش المبنيّ على الاحترام والتفاهم. وذلك ما لا ولن يعترف به العالم ولاسيّما العالم الإسلامي الذي يشاهد باستمرار مواقفَ اللاعدل واللااحترام واللاتفاهم التي تتعامل بها أمريكا مع العالم ولاسيّما مع العالم الإسلاميّ.
وبينما اعترف “أوباما” بتوتّر العلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي، أرجعه إلى العلاقة الطويلة بين الإسلام والغرب التي شهدت صراعات وحروبًا دينيّة. وهنا أغفل مسؤولية الغرب عن هذه الحروب والصراعات والدواعي التي أدّى إليها تعاملُ الغرب مع الإسلام والمسلمين. وأضاف: كما ساهم الاستعمار في تغذية التوتّر بسبب حرمان المسلمين من الحقوق والفرص والحرب الباردة التي عُومِلَت فيها كثيرٌ من البلدان ذات الأغلبيّة المسلمة بلاحق ولا عدل، كأنها مجرّدُ دول وكيلة لايجب مراعاةُ تطلّعاتها الخاصّة. وقال: وعلاوة على ذلك حدا التغييرُ الكاسحُ الذي رافقته الحداثةُ والعولمة بالعديد من المسلمين إلى اعتبار الغرب مُعَادِيًا لتقاليد الإسلام. وهنا تجاهل “أوباما” المذابحَ التي أقامها الغربُ بحقّ المسلمين والثروات غير القابلة للحصر التي نهبها من بلاد المسلمين. كما تجاهل تمامًا مسؤوليةَ أمريكا الواقعيّة عن هذا التوتر المتصاعد، لكونها واصلت دعمَها الشامل للكيان الصهيوني، ونبذت وراءها ظهريًّا جميعَ معاني العدل والإنسانيّة والاحترام المتبادل، والعدالة وكرامة الإنسان التي رَكَّز عليها خصيصًا كثيرًا، مُؤكِّدًا أنه ينبغي أن تكون ذلك مُنْطَلقًا للعلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامي. ومن في العالم كلّه ولاسيّما العالم الإسلامي يرى أن أمريكا تعرف معنىً لهذه الكلمات النبيلة؟.
وبينما يعترف “أوباما” أنّ هناك أوجه اختلاف بين العالم الإسلامي وأمريكا؛ يرجو العالمَ الإسلامي قائلاً: يجب أن لانبني علاقاتنا المشتركة من خلال أوجه الاختلاف؛ لأن ذلك يُصَبّ في خانة من وصفهم بأنهم يزرعون الكراهية ويُرَوِّجون للصراعات؛ بل يجب بذلُ جهود مستديمة للاستماع إلى بعضنا البعض والتعلّم من بعضنا بعضًا، والحوار والتشاور.
بعد هذه التمهيدات المبنية على المجاملة تَعَرَّضَ “أوباما” للقضايا التي هي لديه الأسباب الواقعيّة للتوتر بين أمريكا والغرب والعالم الإسلامي. فذكر أولاً “التطرّف العنيف” مُتَجَنِّبًا استخدامَ كلمتي “الإرهاب” و “الإرهابيين” فاستبدل بهما كلمةً أخفَّ وهي “المتطرفون الممارسون للعنف” للتمويه وكسب قلوب المسلمين ودسّ السمّ في العسل.
وأعتقد أنّ هذه القضيّة تَعَرَّضَ لها “أوباما” بنفس النبرة التي كان يتعرّض لها بها “بوش” في جميع المناسبات؛ حيث صَرَّح دون غموض والتواء أن هؤلاء المتطرفين الممارسين للعنف سوف يتصدّى لهم؛ لأنّهم يشكّلون تهديدًا جسيمًا لأمن بلاده. ومن مسؤولياته كرئيس لبلاده أن يتولّى حماية الشعب الأمريكي. وكأنه قال مُطْلِقًا رسالةً إلى العالم الإسلامي أنّه مستعدّ لشنّ حرب إذا مسّت الحاجةُ ضدّ أية دولة إسلاميّة أو عربيّة، مُلاَحِقًا لأولئك المتطرفين المتعنفين الذين أينما كانوا يُشَكِّلون تهديدًا جسيمًا لأمن بلاده، وكأنه في ذلك لايختلف عن الرئيس الأمريكي الذي سبقه وهو الابن “بوش”؛ حيث يرى أن التطرف يمثل تهديدًا دوليًّا ولو نشأ في مكان ناءٍ.
إنّه يقول في شأن تفجيرات 11/سبتمبر 2001م: إنّها حَدَتْ ببعض الأمريكيين إلى اعتبار الإسلام معاديًا لامَحَالَة، ليس فقط لأمريكا وللبلدان الغربيّة، وإنما أيضًا لحقوق الإنسان. ونتج عن ذلك مزيد من الخوف وعدم الثقة.
إنَّها كلماتٌ صريحةٌ بأنّ “أوباما” يأخذ تفجيرات 11/9/2001م مأخذَ الرئيس السابق الابن “بوش”. ويؤكد ما أقوله تصريحاته بأنه إنما يدافع عن الغزو الأمريكي لأفغانستان لأنه إنما جاء لملاحقة تنظيم القاعدة ونظام طالبان المتعاونين على التفجيرات التي نُفِّذَتْ في أمريكا وشَكَلَّتْ تَحدِّيًا صارخًا لأمنها وسلامتها. فيقول: لم نذهب إلى هناك – أفغانستان – باختيارنا وإنما بسبب الضرورة. إنه بذلك يدافع دفاعًا قويًّا صريحًا عن سياسات “بوش” الذي غزا أفغانستانَ، عقب تفجيرات 11/سبتمبر التي لايقبل “أوباما” الجدل والنقاش حول مسؤوليّة القاعدة عنها.
وهنا يجب أن نقف وقفة نسائل فيها “أوباما”: ماذا يمنعك عن إجراء تحقيق حول تفجيرات 11/ سبتمبر حتى تعلم أنت ويعلم العالم ما إذا كانت هذه التفجيرات قامت بها القاعدة أو الأيدي الخفيّة من داخل أمريكا التي حَرَّكَها ويحركها دائمًا اليهودُ الذين يستولون على أمريكا إداريًّا واقتصاديًّا وتشريعيًّا. إنه ينبغي أن يصغي “أوباما” إلى آراء الخبراء – الذين ينتمون إلى الغرب وإلى أمريكا بالذات – الذين يؤكدون في ضوء الدلائل والوثائق الواقعيّة أن التفجيرات لم تكن لتُنَفَّذ لولا مساعدةُ الأيدي الداخليّة المتحكمة في الادارة الأمريكية.
إنّ اليهودَ كانوا يومَ التفجيرات غائبين عن مركز التجارة العالمي، لماذا وكيف؟. إن التحقيق الجادّ العادل المُجْرَىٰ من خلال جهة دوليّة مُحَايِدَة أوَّلُ واجب يُنْتَظَر أن يقوم به “أوباما” الذي جاء إلى عرش الرئاسة من خلال هتافات إحداث تغيير بعيد المدى في السياسة الأمريكيّة الحاليّة النمطيّة التي شوَّهت وجهَ أمريكا حقًّا، وجعلتها أكبر دولة إرهابيّة في العالم تريد أن تتستّر وراء شنّ الحرب على الإرهاب، حتى تنشغل الدنيا عن إرهابيتها التي تفوق إرهابيّة جميع الإرهابيين في العالم.
إنّ هذه التفجيرات هي التي كانت مُنْطَلَقًا لأمريكا لتدمير كلّ من أفغانستان والعراق وباكستان، وزرع التوتر في الكثير من دول العالم الإسلاميّة، وملاحقة كل مسلم متدين، وإسقاط كل عمل إسلامي، وتحطيم كل مشروع إسلاميّ، واتهام كل خطّة إسلاميّة للأعمال الخيريّة، وتجفيف منابع الدين الإسلامي، ومحاربة كل توجّه إسلاميّ في كل دولة إسلامية فضلاً عن دول الغرب.
ولايزال “أوباما” في هذا الصدد يسير سيرةَ سلفه “بوش” رغم هتافه خلال المعارك الانتخابيّة أنه سينهج نهجاً جديدًا، ويُؤَسِّس قاعدةً لمحو الظلم الذي زرعه “بوش” في كل مجال من مجالات العمل. إنّه مقتنع بأنّ خطرًا حقيقيًّا على أمريكا والعالم ينبعث من أفغانستان وبعدها من باكستان. ومن ثم قرّر الرجل منذ ما قبل انتخابه رئيسًا زيادة عدد القوات الأمريكيّة في أفغانستان رغم أنه حزين جدًّا على مقتل الأمريكيين فيها، وإنّه لايريد لجيشه أن يبقى في أفغانستان، ولايسعى لإقامة قواعد عسكريّة هناك، إنّه يربط الانسحاب من أفغانستان وباكستان بعدم وجود متطرفي العنف في كل من أفغانستان وباكستان الذين يحرصون على قتل أكبر قدر ممكن من الأمريكيين.
والحقُّ أنّ متطرفي العنف هؤلاء لايزال عددهم يزداد مع استمرار الاحتلال والتقتيل العشوائي للإنسان المسلم، وانتهاكات حقوق الإنسان بكل أنواعها؛ لأنّ ذلك ردّ فعل واقعيّ لردّ فعل أمريكي غير واقعيّ تجاه المسلمين؛ لأنّ أمريكا أقدمت على قتل المسلمين في كل مكان وفرض الحظر على جميع أعمالهم الإسلاميّة والخيرية والدينية، بحجة أنّ المسلمين كانوا وراء تفجيرات أمريكا. والمسلمون يعلمون مُتَأَكِّدِين أنّهم لم يكونوا وراء ذلك وأنّ أمريكا تستهدفهم وتدمّر بلادهم وتبيدهم دونما دليل؛ فيجب على “أوباما” أن يُجْرِيَ التحقيقَ العادلَ المحايدَ الّذي يتوصّل حقًّا إلى الحقيقة.
كما يجب على “أوباما” أن يسحب قواته من كل بلد إسلامي ، وعلى رأسه أفغانستان وباكستان والعراق ودول الخليج. وإذا كانت أمريكا لاتقدر على إطعام هذا القدر الكبير من القوات، ومن ثم تنشرها في العالم كلّه لتزرع فيه الخراب والدمار، فعلى “أوباما” الذي جاء يدّعى تبنّي العدل أن يخفض عدد القوات الأمريكية وينفق هذه الميزانية العسكريّة الهائلة على أعمال الخير والبرّ داخل أمريكا وخارجها.
وبخلاف أفغانستان اعترف “أوباما” بأن قرار غزو العراق كان اختياريًّا، ولم تكن هناك ضرورة لغزو أمريكا للعراق، وهنا استخدم كلمات للتمويه والإطالة وإثارة الضبابيّة أمام أعين المسلمين؛ فقال: وقد تعلّمتْ “واشنطن” من غزوالعراق درسًا مفاده ضرورة استخدام الدبلوماسيّة لتسوية المشكلات. وأقرّ “أوباما” أن قرار الغزو كان يخالف المبادئ الأمريكيّة. وهناك كان واجبًا على “أوباما” كرئيس لبلاد، تحمّلُ جميع المسؤوليّات الرئاسيّة التي كان يتحمّلها سلفه “بوش” وعليه أن يختار ما صفا ويدع ماكدر وأن يعتذر للعالم الإسلامي ولاسيّما العالم العربي وبالأخص العراقيين كلّهم عن جرائم التدمير والإبادة الوحشية التي لايمكن تلافيها بأيّ قدر من الاعتذار أو الأعمال البنائية وإجراءات إعادة الإعمار، علاوة على ما ارتكبته أمريكا من جرائم تذليل الإنسان المسلم العربي وتعذيبه بشكل لايوجد نظيره في العالم فيما سبق.
إنّ وثائق كثيرة اطَّلَعَ عليها العالم تُؤَكِّد أنّ التعذيب داخل المعتقلات والسجون في كلّ من العراق وأفغانستان و”غوانتا نامو” كان خُطَّةً مدروسةً عَمِلَتْ القوّاتُ الأمريكيّةُ الفاجرةُ الكافرةُ مصحوبةً بالإساءة إلى القرآن الكريم والكتب الدينية وتناول الذات الإلهيّة بالسباب والشتائم. والتعذيب ابْتُكِرَتْ له أساليبُ ربّما دُهِشَ من شناعتها الشيطانُ الذي قد يكون لم يخطر منه على بال. لَعَنَ اللهُ عزّ وجلّ جميعَ الذين باشروه أو كانوا رواءه بشكل من الأشكال، وأخزاهم في الدنيا قبل الآخرة. “فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُوْنَ” (الأعراف/99) .
وقد بَرَّرَ “أوباما” إقامة هذه المُعْتَقَلاَت وعلى رأسها مُعْتَقَل “غوانتانامو” – فضلاً على أن يندم ويبدى أسفه واعتذاره – وما ارتُكِبَ فيها من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان: إننا أقدمنا على اتخاذ هذه الخطوات مُنْطَلِقين من الموجة العارمة من السخط العامّ الناتج داخل البلاد وخارجها عن تفجيرات 11/ سبتمبر 2001م، ونحن الآن بصدد تلافيها.
ولكن “أوباما” لم يَتَلاَفَها في الوقت القياسيّ القريب الذي وَعَدَ به وإنّما أَجَّلَه لمدة عامٍ قابلٍ لايُدْرَىٰ ماذا سيحدث بعد ذلك؛ لأن البيـروقراطيّة الأمريكيّة التي يسيطر عليها الصهاينةُ حالت دون اتخاذه خطوة لإغلاق مُعْتَقَل “غوانتانامو” خلال المدة التي كان قد قرّرها هو؛ بل حتى نشر صور للتعذيب فاضحة قامت به القوات الأمريكية المسلحة على المعتقلين هناك، حتى وافق “أوباما” نفسه على مشروع قانون بعدم نشر هذه الصور، لأنّها تُشَوِّه سمعة أمريكا في العالم بشكل أكثر وأخزى.
وهنا ينبغي أن نسائل “أوباما” هل السخطُ العارمُ الذي أبداه الأمريكيّون تجاهَ العالم الإسلامي أو المسلمين دونما تحقيق مُتوَصِّل إلى الحقيقة، والذي استجابت له أمريكا من خلال اتخاذها لهذه الخطوات الوحشيّة كالفيل الهائج الذي يدوس بأقدامه كلَّ شيء يعترض طريقه.. هل هذا الحقّ مساغ إعمالُه لأمريكا والأمريكيين وحدهم أو يجوز ذلك للمسلمين وللدول الإسلامية أيضًا ولاسيّما المسحوقة باعتداءات أمريكا وعدواناتها؟ لماذا تستنكف أمريكا تجاه ردود الفعل التي يبديها العراقيون أوالفلسطينيون أو الأفغانيّون أو الباكستانيّون؟ لماذا تسمي أمريكا ذلك “إرهابًا” على عهد “بوش” وتسميه “تطرفًا عنيفًا” على عهد “أوباما”؟ لماذا إذا مارست أمريكا ردّ الفعل هذا طالبت العالمَ باعتباره “مَوقفًا معقولاً” وإذا مارسه غيرُها اعتبرته هي جريمةً لاتُغْتَفَر، جريمة يستحق صاحبُها كلَّ عقاب يمسّ الجسمَ والنفسَ والضميرَ والوجدانَ والمشاعرَ الدينيةَ والغيرةَ القوميَّةَ والنخوةَ الذاتيَّةَ ؟.
وإذا كان قتلى تفجيرات 11/ سبتمبر 2001م أبرياء يبلغ عددهم نحو 3000 فقط، وكان ردُّ الفعل الناتجُ عنها شديدًا من الأمريكيين بحيث قَتَلَ “بوش” مئات الآلاف من الأبرياء – علاوة على “الإرهابيين” حسب تعبير “بوش” و”المتطرفين الممارسين للعنف” حسب تعبير “أوباما” – في أفغانستان والعراق ولايزال يقتل العددَ غيرَ المُحْصَىٰ من الأبرياء “أوباما” أيضًا في أفغانستان والعراق حتى تجاوز عددُ القتلى في هذه البلاد أكثر من مليونين حسب وسائل الإعلام.. فإنّ مستوى ردّ الفعل الناتج عن مقتل مئات الآلاف من المسلمين إلى جانب التدمير الشامل لبلادهم ونهب ثرواتهم والإساءة إلى شعائرهم الدينية بأنواعها، يجب أن يُقَدِّره “أوباما” العاقل إن لم يُقَدِّره “بوش” المجنون المدفوع بالحقد الصليبيّ المزيج بالحقد الصهيونيّ. إن ردَّ الفعل الناتج عن ردّ الفعل الأمريكي غير المتكافئ هو الذي يفعله فعلَه الآن بشكل لايكاد يُفَسِّره “أوباما” ولم يقدر على تفسيره “بوش” ولاجميعُ القادة المسلمين الذين يعملون ذيلاً ذليلاً لأمريكا، وسيظلّ ردُّ الفعل هذا يفعل فعلَه مالم تتخلَّ أمريكا عن ظلمها واعتدائها تجاهَ الإسلام والمسلمين، ومالم تنزل إلى العمل دون المقال المعسول المُجَرَّد من الحقيقة والمشتمل على التمويه والخداع والسفسطة.
أمّا فيما يتعلق بإسرائيل فقد صَرَّح “أوباما” أنّ العلاقة القائمة بين إسرائيل وأمريكا ثابتة لاتقبل انقطاعًا؛ لأنها تقوم على قواعد ثقافية تاريخيّة، اعترافًا بالمأساة الأليمة غير القابلة للجحود المتمثلة في حرمان اليهود من الوطن الأمّ، حيث إنّهم قَاسَوْا الاعتداءَ عبر قرون، وفي أوربّا تمّ تقتيلهم وإبادتهم بيد النازيين، الأمر الذي عُرِفَ بالهولوكاست، وقد أبيد منهم ستة ملايين. وهذا العدد أكثر من مجموع سكان إسرائيل اليوم. وإنكارُ هذه الحقيقة لايستند إلى أساس، وإنما يستند إلى الجهل والكراهية. وأضاف: إن تهديد إسرائيل بالتدمير والإهلاك أو إعادةُ ماهو مُضَلِّل ونمطيّ في شأن اليهود لايصحّ بشكل. إن ذلك يُذَكِّر اليهود بحوادث مؤلمة، ويعترض طريقَ السلام.
وهنا يجوز لنا أن نسائل “أوباما” إذا كان اليهود عَذَّبَهم وشَرَّدهم الغربُ، كان الواجب أن يُوْجَد لهم وطنٌ ودولةٌ داخلَ أوربّا لا داخل العالم العربي، وكان الواجب أن يُنْتَقَم لذلك من الأوربيين لا من المسلمين العرب الذي كانوا بُرَآءَ من إبادتهم وتشريدهم؛ بل إن المسلمين آووهم وأيدوهم في كثير من الأحيان. وتلك أيضًا حقيقة لاتقبل الإنكار.
وإذا اغتصب أراضيهم المسلمين – وأقيمت عليها دولتهم – اليهود – غير الشرعيّة، كيف جاز لهم أن يبيدوا المسلمين، ويحرقوهم بالقنابل، ويُشَرِّدُوهم من وطنهم، ويُعَذِّبُوهم يوميًّا، ويصنعوا معهم من الجرائم النكراء ما يُنَدِّد به العالم كلّه. وكيف جاز لأمريكا والغرب أن يؤيداها بكل من الرجال والخبراء والمال والقوات والأسلحة، حتى تصبح دولة مُسَلَّحَة قويّة بين الدول العربيّة وتمتلك الأسلحةَ النوويّة الفتاكة، دون أن يُفْرَض عليها حظرٌ، بينما يُفْرَضَ حظرٌ على الدول الإسلاميّة، وتُشَنُّ ضدّها حربٌ ضروسٌ بمجرد افتراض أنها تمتلك أسلحةَ ذاتَ دمارٍ شامل، ولكن أمريكا لاتندم ولاتُقَدِّم اعتذارًا إليها أنها لم تجد لديها سلاحاً ذا دمار شامل. وكيف جاز لأمريكا أن لاتتخذ ضدّها – إسرائيل – أية إجراءات وهي تخرق جميعَ القوانين الدولية، وترتكب انتهاكات حقوق الإنسان، وتضرب عُرْضَ الحائط جميعَ القرارات الأمميّة ولاتعمل بأيّ واحد منها؟.
وحاول “أوباما” في لباقة خطابيّة اتّسمت بخلط الحابل بالنابل أن يمسح في الظاهر بعضَ دموع الفلسطينيين، فاعترف أنهم عَانَوْا مصائب شديدةً في سبيل الحصول على وطنهم، وشُرِّدوا عنه، فعاشوا في ملاجئ في شتى الأمكنة ينتظرون حياةَ أمن وسلام لم يَحْظَوْا بها لحدّ الآن، ويقاسون أنواع الذلّ في حياتهم اليوميّة، الأمر الذي يؤدي إليه حتمًا الاحتلالُ الأجنبي؛ فلاشكّ أن ما يعيشونه من الوضع هو مما لايُحْتَمَل. وإن أمريكا ساعية جاهدةً إلى تحقيق تطلّعاتهم المشروعة المتمثلة في إقامة وطن لهم ولن تعرض عنها.
ولكنه انقلب في سياق لاحق ليقول: إن الفلسطينيين يجب عليهم أن يتخلّوا عن المقاومة المسلحة التي عبّر عنها بـ”ممارسة العنيف” إن المقاومة بالعنف والإهلاك غير صحيحه، وإنها لم تنجح قطّ ولن تنجح أبدًا، لأنها كما وصف “طريق مسدود” وليس من الشجاعة أن تُطْلَق صواريخُ على النساء والأطفال.
وعندما وَجَّه “أوباما” إلى الفلسطينيين هذه النصائح “لم يُوَجِّه كلمةَ نصحٍ إلى إسرائيل، ولم يشر إلى هجماتها العسكرية المتصلة على الفلسطينيين، ولم يُنَدِّد بالإرهاب والعنف اللذين تمارسهما دولة إسرائيل صباح مساء ضد الفلسطينيين بالأسلحة الأمريكية الفتّاكة حتى الكيماويّة التي تؤدي إلى تشوّهات خلقية في الفلسطينين وتترك عليهم آثارًا مدمرة طويلة المدى. “أوباما” ساغ له أن يندّد بـ”العنف” الذي يمارسه الفلسطينيون العزّل لاستردا حقوقهم وأراضيهم المغصوبة؛ ولكنه لم ير حاجة إلى أن يندّد ولو بكلمة خفيفة بالويلات المتصلة التي تصبّها ليلَ نهارَ دولة إسرائيل على الفلسطينيين والحصار الشامل الذي تفرضه عليهم، لكي يموتوا جوعًا ومرضًا وحرمانًا من وسائل الحياة اللازمة .
خطابُ “أوباما” نَصَّ على أن جميع الاعتداءات وأنواع العنف إنما يقوم به الفلسطينيون وحدهم ضدّ إسرائيل “البريئة النزيهة العفيفة”!! إنّه لموقفُ وقاحةٍ منقطعة النظير وقفه “أوباما” بهذه المناسبة التي كانت تقتضي منه أن يوازن بين كفتي إسرائيل والفلسطينين، ويقول: ولو بإشارة إن ما تصنعه إسرائيل هو العقبة الكاداء في سبيل السلام وهو السبب في مصائب الفلسطينيين .
إن قضية فلسطين هي القضية الأولى لدى المسلمين والعرب أجمعين. وكان واجبًا على “أوباما” الذي يودّ أن يطرح نفسه كرئيس فريد في تاريخ أمريكا يقدر على أن يصنع ما لم تصنعه الأوائل أن يقف بهذه المناسبة موقفًا يتّفق ومكانتَه كرئيس أقوى دولة في العالم، وكرئيس أمريكي يُشَكِّل ظاهرة فريدة في تاريخ أمريكا، فيقول ما يصحّ ولايقول ما لايصحّ، ويقول مايؤثر عنه كرئيس يصدق في القول وإن لم يصدق في العمل، ولايقول ما يؤثر عنه كرئيس يكذب حتى في مجرد القول فضلاً عن الصدق في العمل الذي هو أشقّ حتى على أَقْوَلِ القوّالين. إن “أوباما” أَيْأَسَ العربَ والمسلمين بهذه المناسبة التي طرحتها وسائلُ الإعلامِ العالميّة والأمريكية بالذات كمناسبة تاريخية. ولقد أَسِفَ جدًّا كلُّ الذين عَلَّقُوا عليه آمالاً عريضةً فيما يتعلق بتغيير السياسة الأمريكية الجائرة ولاسيّما التي تتصل بقضية فلسطين والوقوف الأمريكي الأعمى بجنب إسرائيل تبريرًا لجميع جرائمها النكراء.
ولا غرو فإنّه “أوباما” الذي عند ما شنّت إسرائيل هجومًا عسكريًّا على “غزّة” منذ شهور، وقتلت أكثر من 1400 من الفلسطينين، وجَرَحَتْ من لايُحْصَىٰ منهم، واستخدمتْ أسلحةً كيماويةً ضدَّ النساء والأطفال والشباب الذين كانوا قد لجؤوا إلى مكاتب الأمم المتحدة والمساجد والمدارس؛ فطُلِبَ من “أوباما” أن يُعَلِّقَ على اعتداءات إسرائيل هذه، فطوى عن ذلك كشحه قائلاً: إن أمريكا لايعمل فيها في وقت واحد إلاّ رئيس واحد، أي إن الموقف لايتعامل معه ولايباشره إلاّ “بوش” الذي يعمل الآن رئيسًا في المرحلة الأخيرة من عهد رئاسته؛ ولكنه في الوقت نفسه تدخّل بآرائه في كثير القضايا والحوادث، بما فيها حادث هجمات “ممباي” التي ندّد في شأنها “أوباما” بالقاعدة في محاولتها لفتح جبهات أخرى جديدة في العالم.
في شأن نظام الحكم في العالم صَرَّح “أوباما” أنه ليس بصدد فرض نظام حكوميّ من عنده على دولة أو قطر؛ ولكنه سيؤيّد نظام الحكم الذي يرضاه الشعب في دولة قائلاً : وإني لأعلم أن الشعب في كل مكان يحبّ حرية الرأي وحرية انتخاب حكومته، وسيادة القانون، وتنفيذ العدل تنفيذًا مُوَحَّدًا، وحكومةً تعمل بالنزاهة، وهي ليست نظريات أمريكية؛ ولكنها حقوق إنسانية ؛ فسنؤيدها في كل مكان.
ولقد قال بهذه المناسبة مالم تعمل به أمريكا قط ولن تعمل به، ولن يعمل به هو، وإنما هو قول شاء أن يردّده للتعمية على عقول المستمعين السذّج؛ لأن أمريكا دأبت دائمًا على تأييد دكتاتوريات تسحق الشعوب شريطةَ أن تؤيّد أمريكا، وتدور في فلكها. وللقارئ أن يسرّح النظر لكي يرى بدوره حكومات تبطش بشعوبها وتصبّ عليها صنوف العذاب، ولاتسمح لها أن تنبس ببنت شفة في انتقاد ما تصنعه هذه .
وتحدّث “أوباما” في إسهاب عن الحريّة الدينية، وعرض بشأنها أفكاره بأسلوبه هو، وقال: إن الإسلام ظلّ لديه إرثٌ وقورٌ للحرية الدينية، ورأيتُ مظاهرها في إندونيسيا، وتلك هي الروح التي نحتاج إليها اليوم، لابدّ أن يكون لشعب كل بلد أن يعيش حياتَه على أساس دينه وبعقله وقلبه واقتضاء روحه؛ لكن هذه الحرية تتعرض اليوم لأخطار متنوعة. وقدّم لذلك مثالاً أن بعض المسلمين لديهم اتجاهٌ مقلق بأنهم يقيسون عقديتهم برفض عقائد الآخرين.
ولاشكّ أنه أَوْهَمَ بذلك أنّ المسلمين هم المشكلة في صدد الحرية الدينية أيضًا. وما قاله في العبارة المسرودة أعلاه والسطور المسهبة اللاحقة، لاتؤمن به أمريكا ولاتعمل به؛ لأنها هي التي حاربت وتحارب الحرية الدينية لدى المسلمين، وتحاول أن تفرض ثقافتها الغربيّة على العالم الإسلامي، وأن تُجَفِّف منابعَ الدين لدى المسلمين، ورصدت لذلك مبالغ طائلةً منحتها قيادات الدول الإسلاميّةِ التي تولّت محاربة التعليم والثقافة الإسلامية. ولم تكن ولن تكون “الحرب على الإرهاب” إلاّ الحرب أصلاً على الإسلام لتدمير ثقافته وحضارته وتعليمه من خلال إيجاد إسلام معتدل يَتَمَاشَىٰ مع كلّ شيء، ويواكب كلّ العقائد، ويصالح جميعَ الديانات، ويرضى بتبادل “المنافع” و”الأرباح” والخسائر”!.
وفي شأن حقوق المرأة، أَيَّدَ حجاب المرأة في الإسلام وذلك موقف إيجابيّ، نشيد به ونودّ أن يعترف بغيره من الحقوق التي منحها إيّاها الإسلام.
وفي نهاية خطابه أشار إلى أمور مبدئية كانت بلاده أمريكا أحوج ما تكون إلى العمل بها، والتمسّك بإيجابياتها واجتناب سلبيّاتها قال: “إن الحرب بدايتها سهلة ؛ ولكن نهايتها صعبة” ألم تكن أمريكا هي الأولى بأن تعي هذا الدرسَ لكي لاتتورط في الحرب التي شنتها على العالم الإسلامي، وستعلم أن نهاية الحرب صعبة بمعاني الكلمة في أفغانستان وغيرها من الجبهات التي القتاليّة التي هي عاكفة على توسيعها.
وقال: “إن توجيه التُّهَم إلى الآخرين سهلٌ والنظر إلى عيوب النفس صعبٌ للغاية” أمريكا أحق ماتكون لتستوعب هذه النصيحة، حتى تنتهي عن ارتكاب الجرائم تجاه العالم كله ولاسيّما الشعوب الإسلاميّة.
وقال: “إن التوصّل إلى نقطة الاشتراك أهمّ من الاختلاف” ولكن أمريكا لديها مقياسٌ خاصٌّ لكل من الاشتراك والاختلاف فالاشتراك نقطتُه فقط هي مصالحها، والاختلاف أساسه أي خسارة تلحق بمصالحها ومصالح دولة إسرائيل.
واستشهد في ثلاث مناسبات بالآيات القرآنيّة مقتضبًا إيّاها عن سياقها، لمجرد إدخال السرور على قلوب المسلمين، دون أن يستوعب هو المعاني الحقيقيةَ التي تضمّها والتي لو عَمِلَ بها هو أو عملتْ به أمريكا لاختفتْ كثيرٌ من المفاسد ومظاهر الشرور عن دنيا العالم اليوم.
إنّ المصريين الذين خاطب “أوباما” العالم الإسلامي من عاصمتهم العريقة صفّقوا له عددًا من المرات خلال خطابه؛ ولكن المسلمين في العالم الذين يعيشون أصعبَ موقف في تاريخهم مجروحةً مشاعرُهم الدينية ومصدومةً غيرتهم الإسلاميّة لم ولن يُصَفِّقوا لخطاب “أوباما” الذي مارس فيه الخداعَ، وأجمل موقعَ التفصيل، وأغمضَ موضعَ الإيضاح، وسَكَتَ في موضع الكلام، وأعرض عن الحديث في كثير من المناسبات التي كانت تتطلب منه المصارحة.
ولكننا نُرَحِّب به رئيسًا أمريكيًّا وحيدًا رأى ضرورةَ مخاطبة المسلمين ومراودة قلوبهم بعد كلّ هذه الجروح والآلام التي أصابتهم بها بلادُه ولاتزال وهم يئنّون، ويسخطون، ويستشيطون غضبًا ويعشون تحت ضغط شديد لايوصف من ردّ الفعل السلبيّ الشديد الذي يعتمل في قلوبهم، ولن ينسوه أبدًا مهما بعد الزمان ومرّت الأيّام، إلاّ إذا غيّرت أمريكا مسارها في التعامل معهم تغييرًا يلمسونه ويشاهدون معطياته في كل مكان، بشكل تكون هي الدليل على صدق لهجتها، وصحة موقفها.
( تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم الأحد: 4/ رجب1430هـ = 28 / يونيو 2009م )
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1430 هـ = أغسطس 2009 م ، العدد : 8 ، السنة : 33