كلمة العدد
يوم السبت: 16/ مايو 2009م (20/ جمادى الأولى 1430هـ) كان يومًا مشهوًا في الهند؛ حيث أسفر الإعلان عن نتائج الانتخابات العامّة التي جرت في الفترة ما بين منتصف أبريل ومتصف مايو 2009م لتشكيل مجلس الشعب الهنديّ الخامس عشر، عن النجاح السارّ للتحالف العلماني الذي يقوده حزب المؤتمر، والذي كان يتولّى إدارة الحكومة المركزيّة في دهلي في الفترة السابقة أيضًا. وقد نجح حزب المؤتمر بأغلبية تكاد تكون ساحقة. وذلك لأنّ الشعب المسلم في مُعْظَم البلاد صَوَّت لصالحه، علمًا منه بأنّ دستوره الأساسيّ يعتمد العلمانيّةَ ويرفض التمييزَ بين طوائف الشعب باسم الديانة أو اللون والعرق أو باسم المنطقة والقطر، وأن غيره من الأحزاب كلّها إمّا هي محلّية لا دور لها في مسيرة الحكومة المركزيّة أو التأثير عليها للعمل بالعلمانيّة ومحاربة الطائفيّة والعصبية الدينية أو العرقية التي تثيرها الأحزاب اليمينية الهندوسيّة المتطرفة من أسرة “سانغ” التي تُطَبّق حرفيًّا توجيهات مُنَظَّمَة “آرايس إيس” التي تنطلِق من مبادئ تُضِرّ مُبَاشَرَةً بسلامة البلاد ووحدتها، وتزرع فيها ألغام القلاقل والتمزّق والاضطراب.
والنتائجُ الانتخابيَّةُ هذه كانت فوق حسبان كل من التحالفين: العلمانيّ وغير العلماني، ومن الجبهة الثالثة التي كوّنتها لخوض الانتخابات الأحزابُ اليساريّة؛ حيث إن التحالف العلماني بقيادة حزب المؤتمر فاز بمقاعد كثيرة لم يكن يرجوها، بينما التحالف اليميني المتطرف تراجع نجاحه بشكل لم يكن بحسبانه؛ حيث كان يحلم بقيادة الحكومة المركزية في دهلي، وكان قائده “إيل كي إيدفاني” يستعدّ لشغل منصب الوزراء، وقد رَقَصَ هذا التحالف في طول البلاد وعرضها خلال الحفلات الانتخابيّة العامّة يستصحب “نريندرا مودي” كبير وزراء “غجرات” الذي تولى كبر تقتيل الشعب المسلم بعدد يفوق الألفين في اضطرابات 2002م في “غجرات” كرجل مثاليّ وقائد نموذجيّ لأسرة “سانغ” المؤمنة بإحياء الهندوسيّة المتطرفة، وطرح المسلمين كعدوّ لدود لها وللبلاد؛ ولكنَّ الشعبَ الهندي بصفة عامّة والشعبَ المسلمَ بصفة خاصّة، من خلال تصويته لصالح الأحزاب العلمانية وعلى رأسها حزب المؤتمر، أكّد أنّ المواطنين لايرضون للعلمانيّة بديلاً لإدارة الحكم في هذه البلاد ذات الديانات والاتجاهات المختلفة التي تفتخر دائمًا بالوحدة المتمثلة في الكثرة، أي أنها على قلب رجل واحد فيما يتصل بالمصالح العامّة الوطنية رغم كون المواطنين مُوَزَّعِين بين الديانات والاتجاهات، واللغات واللهجات، والطقوس والعادات.
* * *
وممّا سَرَّ الشعبَ المسلمَ الهنديَّ بصفة عامّة والمنتمي منه إلى الأوساط الإسلاميّة والتعليم الديني بصفة خاصّة أنّه فاز في هذه الانتخابات عالمان متخرجان من الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند، وهما فضيلة الشيخ أسرار الحق القاسميّ الذي هَزَمَ جميعَ معارضيه من الأحزاب الأخرى في الدائرة الانتخابيّة بمديرية “كِشُنْكَنْجْ” (Kishunganj) بولاية بيهار الذي شَغَلَ سابقًا منصبَ أمين عام جمعيّة علماء الهند لفترة غير قصيرة، ثم أسَّسَ “المؤسسة التعليمية والمليّة” التي مقرها بدهلي، ونشط من على منبرها في نشر التعليم الديني والعصريّ بين الشعب المسلم، وأنشأ مدارس وكلّيات عصريّة رسميّة عديدة في “كشنكنج” وفي مناطق أخرى يعيش المسلمون فيها متخلفين اقتصاديًّا وتعليميًّا، إلى جانب إنشائه كثيرًا من الكتاتيب والمدارس للتعليم الدينيّ، وجولاته الدعويّة والتثقيفية في أرجاء البلاد، وكتاباته المتصلة في الجرائد والمجلات بأرديّة سهلة عذبة، التي تتناول قضايا اجتماعيّة سياسيّة تُهِمُّ الشعبَ المسلمَ والشعبَ الهنديّ عمومًا، إلى مساهماته الفعّالة في الأنشطة الاجتماعيّة التي تخص الشعب المسلم الهنديّ.
وثانيهما فضيلة الشيخ بدر الدين أجمل القاسمي عضو المجلس الاستشاري للجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند وأحد رجال المال والأعمال المسلمين في الهند وأحد كبار تاجر العود والعطور في العالم، وأحد فاعلي الخير والسبّاقين إلى المساهمة في تحقيق المشاريع الإسلاميّة. وقد فاز في الانتخابات بدائرة الانتخابات في منطقة “دهبري” بولاية آسام خائضًا الانتخاباتِ من على منبر حزبه الذي أسّسه باسم (United Democratic Front) .
وبما أنّ كلا الرجلين يمتلكان سوابقَ في خدمة الشعب والبلاد، فدخولُهما مجلسَ الشعب الهنديّ كنائبين عن منطقتهما، يبشر بالخير الكثير، ومن ثم يُعَلِّق المسلمون عليهما آمالاً كبيرة. ومما يزيد الشعبَ المسلمَ سرورًا أنه يرى ذلك لحظةً تاريخيّةً؛ حيث إنه الفرصة الأولى التي ينجح فيها عالمان كعضوين في البرلمان الهنديّ مُنْتَخَبَيْن من الشعب بعد ما كان ينجح منذ أكثر من خمسين عامًا العالم والقائدي الهندي الكبير الشيخ حفظ الرحمن السيوهارويّ (1318-1382هـ = 1900-1962م) من أبناء دارالعلوم/ ديوبند.
وذلك مما مَسَحَ بعضَ دمعتهم – المسلمين في الهند – لأنهم يَخْزَنُهم أنّ عددَ النوّاب المسلمين في مجلس الشعب الهندي يتناقص مع الأيّام؛ لأن الأحزاب العلمانيّة هي الأخرى لا تُرَشِّح المسلمين لخوض الانتخابات بعددٍ لائقٍ تتقاضاه نسبتُهم السكانيَّةُ في شتى مناطق البلاد؛ وإنما هي تُرَشِّح غير المسلمين، وتُؤْثِر على المسلمين حتى الطبقة المنبوذةَ، حتى عاد المسلمون أكثر تخلّفًا في جميع ساحات الحياة من المنتمين إلى هذه الطبقة التي كانت تتّسم في الماضي بالتخلف في المجالات كلّها.
* * *
على كلّ بما أنّ حزب المؤتمر وَعَدَ المسلمين قبل وخلال المعارك الدعائيّة التي خاضها هو والأحزاب كلُّها قبل أيّام الاقتراع، أنه سيُنْصِفهم، وأنّه لن يعيد الأخطاءَ التي حَصَلَتْ منه في الماضي تجاههم، وأنّه سيُتَرْجِم إلى الواقع كلَّ التوصيات التي أطلقتها “لجنة تشر” (Sachar Committee) لصالحهم، انتشالاً لهم من ورطة التخلّف الشامل الذي أخذ برقابهم، وأن المسلمين لابدّ لهم أن يُصَوِّتوا في هذه الانتخابات لصالحه؛ لأن هناك معسكرين: معسكر العلمانيّة في ظلّ حزب المؤتمر ومعسكر اللاّعلمانية بقيادة حزب “ب ج ب” والمُنَظَّمَات والأحزاب التي رُضِعَت وتُرْضَع بلبان منظمة آر إيس إيس، التي تودّ وتعمل على تحويل البلاد فاقدةً لكل الأمن والسلام والوحدة بزرع الطائفيَّة والعصبيَّة والإحيائيَّة السلبيَّة للهندوسيَّة.
فبادر المسلمون إلى الاقتراع لصالح حزب المؤتمر والأحزاب الصغيرة المحلِّيَّة المُتَحَالِفَة معه، بغضّ النظر عن جميع أنواع اللاّعدل، والظلم، وممارسة الكيل بمكيالين، التي ظلّ يعمل بها تجاه المسلمين منذ الستين عامًا الماضي منذ أن استقلّتِ البلادُ، مُؤَمِّلِين أنّه قد يفي بالوعود التي يُطْلِقها حالاً، وتأخذ بالأسباب التي تنهض بهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا في ضوء توصيات “لجنة القاضي تشر” منها إجراء منحة دراسيّة (Scholarship) للطلاب المسلمين، وتشكيل “لجنة إيجاد فرص مساوية” للمسلمين في الوظائف الحكوميّة، وإقامة مشروع جائزة تشجيعية (Incentives) مبنيّ على مؤشر التنوّع (Diversity index) وكذلك تفعيل القوانين المعنية ضد إثارة الكراهية ضدّ طوائف المواطنين، مما يحول دون الإساءة إلى عقيدة دينية ونشر إشاعات لاتستند إلى أساس ضدّها، وكذلك اتخاذ خطوات فاعلة لمنع البير وقراطية (Bureaucracy) الرسمية عن العمل بالعصبيّة العمياء ضدّ الشعب المسلم؛ لأن ذلك كان ولازال السببَ المُبَاشِر القويَّ للحيلولة دون استفادة المسلمين من جميع المشاريع التي اتخذتها الحكومة على استحياء لصالحهم؛ لأن هذه البيروقراطية تتخذ آليّة مبنيّةً على العصبية والفساد الماليّ تمنع المسلمين عن الاستفادة منها. إن “لجنة القاضي تشر” وَصَّتِ المصارف الحكوميّة بإقراض المسلمين على أساس تفضيليّ، وقد كانت الحكومة بقيادة حزب المؤتمر أصدرت توجيهات بفتح المصارف المعنيّة، وتكثير فروعها في المناطق التي فيها يرتكز التجمع السكاني المسلم؛ ولكن الحاجة ماسّة إلى متابعة سير العمل وحصوله فعلاً على أرض الواقع. وكانت اللجنة وَصّتِ الحكومة أن تُؤَمِّن وجود ممثل مسلم في كل هيئة حكوميّة مُخَصَّصَة لاختيار الموظفين الرسميين أو الأساتذة في الجامعات أو المدرسين في المدارس؛ ولكن هذه التوصية لاتزال تنتظر التنفيذ فعلاً. ووصّت اللجنة الحكومةَ بإقامة مُؤسَّسَات نشيطة لإعداد الطلاب المسلمين لاجتياز امتحانات المِهَن العالية. وأشارت اللجنةُ إلى أن هناك دوائر انتخابية تتعلق بكل من عضوية المجالس الشعبيه المحليّة والمجالس النيابيّة البرلمانية المركزية يتركّز فيها التجمّع الكساني المسلم؛ ولكن الحكومة حجزت هذه الدوائر ظلمًا منها للطبقة الدنيا أو المنبوذة، على حين أن هناك دوائــر تُشَكِّل فيها أفــرادُ هذه الطبقة أغلبيَّةً ولكنها لم تُخَصَّص لهـــا، وعَلَّقتِ اللجنــةُ أن هذا الموقف غير ديموقـراطيّ تمامًا يُعْمَلُ به في هذه البلاد الديموقراطيّــة، وفي ضوء هذه الحقائق وَجَّهَتِ اللجنةُ الحكومــةَ بتشكيل “لجنة تقصّي الحقائق” تقوم بتفقد و دراسة جميع الدوائر الانتخابيّة، وتُحَدِّد هذه المخالفات وغيرها، وتقوم بعلاجها الفاعل.
كانت الحكومةُ الهنديةُ قد أصدرت عام 1950م مرسومًا لمنح صيانة دستوريّة وامتيازات خاصّة للطبقات الدنيا اجتماعيًّا التي تعاني الشقاءَ والحرمان من وسائل الحياة، وكانت قد صنّفت لذلك الطبقات الهندوسيّة فقط، وأدخلت على المرسوم تعديلات في عام 1956م وعام 1990م، ليسع طائفة “السيخ” و”البوذيين”؛ ولكنها أعفت منه المسلمين والمسيحيين؛ فعملت الحكومة في هذه البلاد العلمانيّة الديموقراطيّة بالتمييز على أساس الديانة، وذلك أمرٌ لايُقِرّه دستور البلاد؛ حيث إن هذا التمييز يتصادم مع بنوده 15 و 16 و 17.
فالحكومةَ الحاليّةُ بقيادة حزب المؤتمر التي أطلقت وعودًا عريضةً خلال خوض الانتخابات ومعارك الدعاية المكثفة قبلها، مُطَالَبَةٌ بأن تعالج هذا التمييز المُمَارس ضدَّ المسلمين، وأن ترفع عن المرسوم الحكوميّ المشار إليه شرطَ الديانة الهندوسيّة ليشمل جميعَ الطوائف في البلاد؛ لكي تقول بملء فيها أنها تعمل – انطلاقًا من دستورها الحزبي ودستور البلاد العلمانيّ – بالإنصاف وتوفير فرص مساوية لجميع المواطنين على اختلاف الديانات والطوائف واللغات والمناطق.
* * *
ولكن الشعب المسلم الذي ظلّ يذوق اللاعدل والظلم وغمط الحقوق عبر هذه السنين الطويلة التي مارس في معظمها حزب المؤتمر هذا، الحكمَ في البلاد، لايزال يائسًا منه؛ لكنه رغم ذلك صَوَّت لصالحه لائذًا بالأمل؛ لأن قضايا الحياة حلُّها في الأغلب مُعَلَّق على الأمل.
واشتدّ يأسُهم لدى حلول موسم الانتخابات، فالحزبُ لم يُرَشِّح لعضويّة البرلمان ذي المقاعد 543 إلاّ 18 مسلمًا في شتى الأقطار والمناطق في البلاد كلّها، نجح منهم في الانتخابات 11 مسلمًا، على حين هناك 160 دوائر انتخابيّة في البلاد تتحكم فيها أصوات المسلمين وحدهم، أي أنهم فيها بموقف يتمكنون من أجله من إنجاح من يشاؤون من المرشحين لنيابة مجلس الشعب الهنديّ. وصبر المسلمون في انتظار ما سيحدث فيما بعد الانتخابات ليروا موقف الحزب منهم خلال تشكيل الوزارة؛ فلم يقبل من المرشحين المسلمين الناجحين في الانتخابات في الوزارة إلاّ خمسة وقد كانوا من قبل 6، على حين أن لجنة “القاضي تشر” وَجَّهت بأنه لابدّ من تمثيل 11 نائبًا مسلمًا في الحكومة كوزراء. على حين إن الحكومة اتخذت من الطبقة المنبوذة 10 وزراء وقد كانوا من قبل 7 وزراء ومن الطبقة العليا الهندوسيّة البرهميّة 6 وزراء إلى جانب كثيرين من الهندوس؛ حيث بلغ عدد الوزراء 79 وزيرًا. الجدير بالذكر أن المسلمين كانوا ينتظرون أن حزب المؤتمر في حكومته الحاليّة سيتخذ الشيخ أسرار الحق القاسمي وزيرًا للدولة على الأقل إن لم يقبله وزيرًا على مستوى مجلس الوزراء ذا حقيبة مستقلة؛ ولكن المسلمين شعروا بيأس شديد وأسف بالغ عندما علموا أنّ الحكومة لم تفكّر في ذلك بشكل.
* * *
القضيةُ الكبرى التي تشغل بالَ المسلمين في الهند كثيرًا هي الكراهيةُ الزائدةُ، والعصبيَّةُ المُنْتِنَةُ التي زرعتها أسرةُ “سانغ” بفروعها ومنظماتها الكثيرة التي تتلقى التعليمات والتوجيهات دائمًا من منظمة “آر إيس إيس” وتصدر في جميع تحركاتها وخطواتها مُتَشَبِّعَةً بهذه التوجيهات التي تَعْنِي العمل بالتمْييز تجاه المسلمين، والدعايةَ المتّصلةَ ضدّهم بأنهم أعداء للهندوسيّة والهندوس؛ وأنهم مواطنون غير مخلصين؛ لأنهم أصلاً “باكستانيّون” أو “حجازيّون” أو “مكيّون” فانتماؤهم الوطني مشتبه به مشكوك فيه؛ وأنّ محاربة هؤلاء المسلمين ومقاومتهم في كلّ مجالات الحياة؛ لازمة على الهندوس؛ بل هي أمر يُثَابُون عليه، وتستريح به قلوبهم، وأنّ الهند لابدّ أن تكون دولة هندوسيّة عدوانيّة لاتقبل إلاّ الهندوسَ؛ وأنّ المسلمين لابدّ أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية، يعيشون في البلاد مُتَطَفِّلِين على مائدتنا نحن الهندوسَ، وعلى ما نتكرّم به عليهم من فرص وتسهيلات رسميَّة وغير رسميَّة؛ فإن شاؤوا أن يعيشوا مواطنين من الدرجة الأولى فعليهم أن يندمجوا في التيّار الوطني – أي التيّار الهندوسيّ المحض – .
وتعليماتُ هــذه المنظمة المشـار إليها وغيــرها لم تذهب هباءً وإنما فَعَلَتْ فعلَها كلِّيًّا في قلوب رجال الشارع الهندوسيّ والمثقفين من الهندوس ولاسيّما من الجيل الذي وُلِدَ ونشأ فيما بعد الاستقلال وتوزيع البلاد بين دولتين: الهند وباكستان؛ لأنّها أقامت ولاتزال آلافًا من المدارس والكتاتيب التي تجذب إليها صغارَ الهندوس وتُعَلِّمهم منذ نعومــة أظفارهم الكراهيةَ الشديدةَ ضدّ المسلمين وتكتب على ألواح قلوبهم الصافية ما تشاء من الحقد والتعصّب والعداء وأساليب العدوان ضدّ المسلمين فينشأون على ذلك، ويتخرّجون مُثَقَّفِين وأطباءَ ومُهَنْدِسِين وأساتذةً ومُدَرِّسِين ومُوَظَّفِين في شتى الدوائر الحكومية والمصالح الرسميّة أو مسؤولين في مناصب رسميّة عليا أو قُضَاةً أو محامين أو قادةً وساسةً وهم مسمومون عقليًّا، ومزروعون كراهيةً، ومدفوعون بالعداء الحَنِق ضدّ المسلمين، فيعملون في وظائفهم ومناصبهم صادرين عن ذلك كلّه، الذي يمنعهم من الانصاف، ومن غمط حقوق المسلمين، والحيلولة دون وصولهم إلى مناصب ووظائف حكوميَّة، ودون تمتّعهم بالحقوق التي منحتهم إيّاها القوانين الوطنية والدستور الهندي؛ فهم لايقدر أبناؤهم على الالتحاق بالمدارس الرسميّة والجامعات الحكوميّة الكبرى واجتياز امتحانات اختيار الموظفين والمسؤولين للمناصب الحكومية ذات الأهميّة، وهم نسبتُهم تنخفض مع الأيّام في الجيش والشرطة، ولجان الاختيار الحكوميّة، وهم لايقدرون على حصول قروض كبيرة لإقامة مشاريع اقتصاديّة من المصارف الحكوميّة لأن البيروقراطيّة المُتَعَصِّبَة المُتَشَبِّعَة كراهيةً ضدّهم تحول دون ذلك.
وهذه المنظمةُ وأسرتها كلُّها لاتنفكّ تعمل بخطّتها الخطيرة دونما حظر أو إيقاف أو حيلولة قانونيّة من الحكومة، وهي دائمة الاهتمام بصغار الهندوس وجيلهم الناشئ وتربيتهم على هذه الكراهية، وتخريجهم مسمومى الأفكار؛ ولكنه لاتوجد هناك محاولة جادّة لمقاومة هذا الاتّجاه الخطر المُمَزِّق للبلاد؛ وليس هناك حزب أو منظمة علمانية صادقة في الوطنيّة تشعر بمسؤوليتها تجاه مقاومة هذا الاتجاه الذي دفع المتطرفين الإرهابيين من الهندوس إلى هدم المسجد البابري علنًا وجهارًا وتحدّيًا للقانون والدستور وقوة الحكومة ومدى تحكّمها في أجهزة الجيش والشرطة؛ وإلى تفجير اضطرابات طائفية لايَعُدُّها إلاَّ من عَدَّ شعرَ غنم بني كلب تَمَّ فيها حصدُ أرواح المسلمين ونهبُ ممتلكاتهم، واغتصابُ نسائهم، وكسرُ عظام شبابهم، والزج بهم إلى السجون والمعتقلات، ومحاكمتهم وتغريمهم؛ وإلى التفجيرات الكثيرة في شتّى مناطق البلاد على توجيه وتخطيط من الموساد الإسرائيلي، وتحميل مسؤوليتها الشبابَ المسلمَ وأخذهم من الحكومة والقانون بعقاب أليم تقشعرّ الجلود بمجرد ذكره؛ وإلى تقتيل كثير من الشباب المسلم في اشتباكات وهميّة بين الشرطة وبينهم أو اعتقالهم ووضعهم وراء القضبان مدة طويلة بتهم كثيرة خطيرة مُلَفَّقَة دونما ذنب إلاّ ذنب كونهم مسلمين، دونما إثبات تهمة ضدّهم.
إنّ جميعَ الشرور والآفات التي تعيشها البلاد اليوم من فقد الأمن، وتفجر الاضطرابات، والتفجيرات، وعموم المخاوف، والإخلال بنهضة البلاد الاقتصاديّة المرجوة بالقياس إلى كثرة الوسائل، وتوافر الأهليّات، وترامي أرجاء البلاد، وتزاحم السكان، ووسائط الإنتاج الصناعي والزراعيّ والحيواني، ووفرة الجامعات ومعاهد التعليم، وامتياز البلاد بكثرة النوابغ في كل علم وفنّ.. إنما ترجع إلى هذه المُنَظَّمَة وعملها المُتَّصِل المُكَثَّف على نفث السموم بين المواطنين، وتوزيع قلوبهم بعد ما كانت مُوَحَّدَةً منذ أقدم الزمان.
المسلمون منذ الاستقلال ينتظرون من حزب المؤتمر الذي توصّل إلى كرسي الحكم مجدَّدًا، وحَكَمَ البلادَ في الفترة السابقة وحكمها في معظم السنوات التي تَلَتِ الاستقلالَ باستثناء بعض السنوات التي حكمت فيها أحزاب أخرى.. ينتظرون منه أن ينبذ “النفاق” و”الازدواجيّة” اللذين عُجِنَت بهما طينتُه وأن يتخلّص عن “التردّد” و”الانتقائيّة المُضَلِّلَة” ويعمل بالحزم والعزم والإنصاف الواقعيّ مع المواطنين على اختلاف دياناتهم وأقطارهم، ويعقد العزم الصادق الذي لايعرف التراخيَ والفتورَ على أن يحارب اللاَّعلمانيَّة والنظريات المتطرفة لدى هذه المنظمة وبيضها وأفراخها وأن يعمل – كما تعمل هي – على دخول كل بيت هندوسي وجذب كلّ صبيّ هندوسي إلى مخيمات ومدارس علمانيّة تقام للتعهّد بالعلمانيّة بالتسميد الحديث، والسقي المزيد، والعناية الفائقة تُعَلِّم الصغارَ أنّ الهند دولة علمانيّة تسع كلَّ مواطن مهما كانت ديانته ولونه وجنسه وعرقه، وأن الديانة الهندوسيّة لاتُعَلِّم الكراهية والعداءَ ضدَّ ديانة أخرى، وأنَّ حبَّ الوطن معناه حبُّ كلِّ مُوَاطِن فيه وكلِّ شيء يوجد على أرضه.
أي أن هناك حاجةً أمسَّ إلى بذل جهد جبَّار أقوى من جهد المتطرفين والمنظمات المتخرجة على تعليمات “آر إيس إيس” لمقاومة هذا الجهد، وصيانة العلمانيّة مقابل الجهد الحثيث الذي تبذلها لصيانة اللاعلمانيّة.
إنّ حزب المؤتمر – وهو الملجأ الأخير للمسلمين بعد الله بالنسبة إلى دستوره العلماني – كان جديرًا ولازال بأن يقوم بهذا الجهد الذي كان واجبًا عليه القيام به؛ ولكنه لم يقم به لحدّ اليوم، فهل يقوم به في هذه المرحلة الحاليّة الحرجة التي عادت تحدق بالبلاد الأخطار؟ المسلمون ينتظرون ذلك بشدّة .
* * *
فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء فترة “الحرب الباردة” – كما يقولون – مَالَتِ الهندُ إلى التحالف المُتَصَاعِد مع أمريكا وربيبتها أو عشيقتها – أو قل ماشئت – مما زاد التدخلَ الأمريكيَّ الإسرائيليَّ في بلادنا، وبالتالي كثرت المَخَاوِفُ وحصلت حوادث اللاأمن واللااستقرار من التفجيرات، وتحميل المسؤولية أبرياءَ لاخلّ لهم فيها ولاتمر.
ولكن الحكومة السابقة بقيادة جزب المؤتمر وَطَّدَت صلتها مع أمريكا وإسرائيل بشكل أقوى وأشدّ من ذي قبـــل ، وعقـــدت مع إسرائيل صفقات شراء أسلحة استراتيجيّة حسّاسة، واستعانت بخبراء عسكريين إسرائيليين في تحقيق مشاريع عسكريّة استراتيجيّة عديدة علمت ببعضها الصحفُ ووسائل الإعلام ولم تعلم بأغلبها. إن صداقة أمريكا لبلد ما نامٍ اقتصاديًّا مثل الهند لايبشِّر بشكل بخير، وإنما هي نذر أخطار لايعلم إلاّ الله مداها؛ لأن أمريكا تاريخُها يشهد أنها تورط البلادَ الشرقيةَ في صداقتها ثم تجهز عليها وتحلق كلَّ خير لديها، وإن العالم العربيّ الدائر في فلكها خير مثال لذلك؛ لأنه ما يذوق من الويلات إنما يذوقه لصداقته مع هذا البلد الماكر الخبيث الذي إنما يصدر في جميع مشاريعه عن الفكرة الاستعماريّة وعن الحفاظ على مصالحه ومصالح ربيبته إسرائيل. أمّا إسرائيلُ فإن صداقة الهند معها بهذا الشكل السافر بزعج المواطنين عامّة والمسلمين خاصّــة وهم يشعرون مخاوف شديدة على مصير البلاد؛ لأن اليهود ما دخلوا قرية إلاّ أفسدوها، وحرّشوا بين أبنائها، وزرعوا الحقد والعداء والخراب واليباب في ربوعها لتحقيق مشاريعهم الصهيونية التي تضمنتها بروتوكولات حكماء صهيون التي تأمرهم بنشر الفحشاء والمنكر والزنا والسفور وإثارة الغرائز الجنسيّة في جميع البلاد حتى يسيطروا عليها ويحققوا أحلامهم.
إن التدخّل الإسرائيلي السافر المشفوع مع التدخّل الأمريكي في هذه البلاد التي ظلَّت مهدًا للأمن والسلام واتحاد المواطنين رغم اختلاف الديانات، يُضمِر في طيّه أخطارًا شديدة صَرَّح بها كثير من رجال الإعلام والخبراء حتى من غير المسلمين.
فالمسلمون خصوصًا والمواطنون عمومًا ينتظرون من حزب المؤتمر الذي يَدَّعِي الوطنيّةَ أكثرَ من غيره ويُطَبِّل لذلك كثيرًا، واكتسح أغلب الأصوات لصالحه في الانتخابات الحاليّة مُطَالَب بأن يعيد النظر في سياسته تجاه صداقته مع أمريكا وإسرائيل، ويجعل البلاد مستقلة بمعنى الكلمة تعتمد على ساعديها، وثتق بأبنائها النوابغ، وبقوتها العسكريّة، وقدرتها التكنولوجيّة، التي طَوَّرتها بفضل الكوادر اللائقة من أبنائها، دونما تطلُّع إلى الغير وتَطَفُّل على مائدة أمريكا أو إسرائيل اللتين هما اليوم تُشَكِّلاَنِ “مِحْوَرَ الشرّ” في العالم، وتقودان مسيرة التقتيل البشريّ، والدمار العالميّ، والتخريب الأمميّ، وجعلتا العالم أسوأ مكان لسكنى البشر؛ حيث عادوا يضيقون به ذرعًا؟.
( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الأحد: 6/ جمادى الثانية1430هـ = 31 / مايو 2009م )
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33