إلى رحمة الله
في نحو الساعة الثانية من ظهر يوم الأربعاء: 17/ جمادى الأولى 1430هـ الموافق 13/ مايو 2009م كنتُ طريحًا على فراشي أقاسي آلام نوبة شديدة من الحمّى التي أصابتني بها حالةُ انتقاض الجرح في كعب رجلي اليمنى، من جرّاء داء السكري الذي أعانيه منذ أكثر من عقدين، إذ رَنَّ جرسُ جَوَّالي، وضغطتُ على زِرّ التلقّي فإذا بعضُ المعارف ينعى إليَّ فضيلةَ الشيخ عبد الحنان القاسميّ – أحد العلماء الخطباء النشيطين المعروفين – ويقول لي: إنّه قد توفّاه الله في الساعة الواحدة والعشرين دقيقة من ظهر اليوم. ثم هاتفني عدد من الأشخاص من داخل الهند وخارجها، بعضُهم يخبرني بالحادث، وبعضهم يتأكّد من صحّة وقوعه، مما جعلني أتأكّد أن النعي قد انتشر في أرجاء الهند وتجاوزها إلى البلاد الأخرى. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أَسِفْتُ على وفاته رحمه الله كثيرًا، وكان ذلك شيئًا طبيعيًّا؛ ولكنها لم تكن مُفَاجِئَةً بالنسبة إليّ، وبالنسبة إلى كثير من الذين كانوا يعلمون معاناتَه من الأمراض الكثيرة المُزْمِنة التي أَدَّتْ إليها العوارض الناتجة من داء السكّري، التي شلّت حركتَه منذ أعوام، حتى أقعدته أخيرًا، بحيث كان لايقدر على قضاء حوائجه البشريّة بنفسه.
في منتصف مارس 2009م (ربيع الأوّل 1430هـ) كنتُ في رحلة إلى وطني. وكنتُ قد عزمتُ عندما غادرتُ ديوبندَ أني سأعوده رحمه الله في بيته الكائن بقرية “بالاساتهـ” إحدى القرى الواقعة في مديرية “سيتامرهي” التي كانت قبل سنوات مضت جُزْءًا من مديريّة “مُظَفَّرْبور” بولاية “بيهار” بالهند. بعد يومين فقط من نزولي بوطني استأجرتُ سيَّارةً وقصدتُ قريةَ الفقيد رحمه الله ومعي ابني الأوسط “عمارة نور” وعددٌ من أهالي قريتي، ووصلتُ توًّا بيتَ الشيخ، وخَرَجَ بعضُ إخوته واسمه السيّد عبد السلام بصوت السيَّارة، ودخل بيتَه بعد ما سلّم عليّ وعلى رفقتى، ثم طلع وأشار علينا أن ادخلوا، وصَاحَبَنا إلى السرير الذي كان الشيخُ – رحمه الله – طريحًا عليه في الرواق الغربيّ من بيته الكبير الذي بدا لي مدرسةً مستقلةً بكثرة غُرَفه وسَعَة فنائه.
سَلَّمْتُ على الفقيد – رحمه الله – ففَتَحَ عينيه ولكنّه لم ينبس ببنت شَفَة ، وإنّما ظلّ يرنو إليّ وإلى رفاقي. وقد صاح الأخ عبد السلام في أذنيه: إنه الشيخ نور عالم خليل الأميني الرائبوري ثم البيشويّ أستاذ بدارالعلوم/ ديوبند، جاء يعودكم، ألا تعرفونه. وكَرَّر المقالة على أذنيه؛ ولكنه ظلّ صامتًا، فقال لي الأخ عبد السلام: إنه منذ يوم كان ينطق؛ ولكنه اليوم عاد لايقدر على التكلّم مُطْلَقًا؛ ولكنّه لايزال يسمع ولله الحمد. وأفادوني أنّه قد عَمَّ الفالجُ جسمَه كلَّه إلاّ ربعَ الرأس الذي بقي سالمًا من الفالج، ومن ثم يقدر على السمع وفتح العينيين .
ظِلْتُ أنا – ورفاقي – جالسًا لديه نحو عشر دقائق، أُفَكِّر في قدرة الله وعجز الإنسان؛ فهذا الشيخ كان خطيبًا مُفَوَّهًا، يتكلم كلّ وقت، وكانت الكلمات تنساب على لسانه، وتتفجر من حنجرته، وتنثال على شفتيه، فلا يكاد يضبطها، وإنما يَدَعُها تنطلق بل تسيل؛ ولكنه اليوم صار لا يستطيع أن يُؤَدِّي لفظةً.
وكان كثيرَ الرحلات والجولات والزيارات، يصبح في مكان ويمسي في آخر، وبين الصباح والمساء يقطع مسافات شاسعة، لايريحه النزولُ، ولايُعْجِبه الإقامةُ، ولا يروقه التوقّفُ، وكأنه فُطِرَ على الترحّل والسير المتّصل؛ ولكنّه عاد اليوم لايتمكن حتى من بسط رجليه ويديه ولاقبضهما. إنّه الإنسان، ضعيفُ البنيان، يقوى ثم يضعف. ويولد ضعيفًا ليصير صبيًّا، ثم غلامًا فتيًّا، ثم رجلاً قويًّا، ثم كهلاً مائلاً إلى الضعف، ثم شيخًا ضعيفًا يحتاج إلى مساعدة الآخرين.
لقد كان الفقيدُ – رحمه الله – مُوَفَّقًا من ربّه، كثيرَ الخير، كبيرَ العطاء، فقد دَرَّسَ وأفاد أكثر من أربعين عامًا، فاستفاد منه ألافٌ من طلاب علوم الدين، وخَطَبَ ووَعَظَ نحو 45 عامًا، فاتّعظ وصلح وتاب من لايُحْصَوْن من الخلق بمواعظه وخطاباته الدينيّة في الحفلات الشعبيّة العامّة والخاصّة، والحفلات الدينيّة والعلميّة، والمناسبات الثقافيّة والاجتماعيّة؛ فقد وجدتُه كان يخرج في الأغلب لحضور هذهالمناسبات والحفلات فيما بعد صلاة العصر، ليحضر المدرسةَ التي كان يُدَرِّس فيها في الهزيع الأخير من الليل؛ ليأخذ قليلاً من الراحة والاستجمام، فيستعدّ لصلاة الصبح؛ ثم يُفْطِر ويحضر الفصولَ الدراسيَّة على الميعاد، فيقوم بتدريس الكتب المنوط به تدريسُها.
وكانت خطاباتُه ومواعظُه مُتَلَقَّاة بالقبول؛ لأنّه كان يُشَنِّف آذان المستمعين بعذب القول، وحسن الإلقاء، وجميل الأداء، ورائق المعنى، ورائع المبنى. وكان يمزج محاضراته الدراسيّة وخطاباته الشعبية بالجدّ والهزل بقدر مُتَّزن. وكان ضحوك السنّ، طلق الوجه، ليّن الجانب، كريم الأخلاق، حبيب السيرة، دائم الابتسامة، قويّ العارضة، حاضر البديهة، يرتجل الخطاب طويلاً، فلا يملّه الحضورُ لعذوبة حديثه وحلاوة جرسه.
وكان مُوَاظِبًا على صلاة التهجّد منذ شبابه، وكانت عيناه تشفّان عن السهر ليلاً، والجدّ والتعب نهارًا. كان يعمر أوقاتَه بالذكر والتلاوة، ومذاكرة قضايا العلم مع الطلاب وزملائه المدرسين الذين كانوا يستأنسون بحديثه، وخفّة روحه، وممارسته المزاحَ لدى الحاجة.
كان كبيرَ الهامة، كثَّ أشعار الحاجبين، أبيض مشربًا بالحمرة، ربعةً من الرجال، مائلاً إلى القصر، يزين رأسَه قلنسوةٌ قائمةٌ على رأسه كالإكليل. وكان يهتمّ بها كثيرًا، ويلازم وقارَ العلماء وملابس الصالحين من القميص الفضفاض الطويل إلى نصف ساقيه على الأقل. وربّما يرتدي الجبة الخاصّة التي يرتديها العلماء في الديار الهنديّة المعروفة بـ”الشرواني” فكان يطيلها أكثر من قميصه، مما كان يُضْفِي عليه هيبةً يمتاز بها رجالُ الدين الذين يتمتعون ببسطة في الجسم وإن فاتتْهم أحيانًا بسطةٌ في العلم.
وكان – رحمه الله – قد أصيب في كهولته بسمنة زائدة أدّت إلى إصابته بداء السكري وعوارضه الكثيرة من النوبة القلبيّة، وتجلّط الدم، وتباطؤ دوران الدم في العروق مما أصابه بالفالج، وأقعده أخيرًا عن المشي والتحرّك؛ فصار طريحَ الفراش وحِلْسَ البيت، حتى استأثرت به رحمة الله.
لم يكن الفقيد عالمًا مُتَعَمِّقًا، ينقطع إلى الدراسة والكتابة والتأليف، فيكون له في هذا المجال شأن يُذْكَر، وأثر يُخَلَّد، ومزيةٌ تُسَجَّل؛ ولكنه – وكان ذلك من قدر الله، والمرأ لايتجاوز الأقدارَ وقضاءَ الله – استثمر مواهبَه في مجال تعليميّ تربويّ من ناحية أخرى؛ فأكْثَرَ من إنشاء الكتاتيب في مناطق وطنه وأسَّس مدرسةً في قريته “بالاساتهـ” للتعليم الديني، وسَهِرَ على تطويرها، فصارت مدرسة كبيرة جديرة بالتسجيل والذكر في ولاية “بيهار” خصوصًا، ثم وَسَّع نطاقَها فأنشأ مدرسة عصرية للتعليم العصريّ تابعة لها، وبنى لهما فصولاً جميلة، وأروقة سكنية مريحة، كما بني في محيط المدرسة الواسع مسجدًا كبيرًا، ومكتبة زاخرة بالكتب التي يحتاج إليها الطلابُ، وشيّد مضيفًا أنيقًا جديرًا بإقامة الضيوف المتوافدين من خارج البلاد. وبما أنّه أمضى مُعْظَمَ عمره في التدريس في مدارس “غجرات” السبَّاق أهلُها المسلمون إلى فعل الخير وإلى المساهمة في تحقيق المشاريع الإسلاميّة والأعمال الدينيّة؛ فتَعَاوَنَ معه منهم من توطّدت بينه وبينهم صلاتُ ودّ بمواعظه الدينية، وجولاته الدعويّة، وزياراته التعارفيّة المتّصلة؛ فسهل عليه أن يُحَقِّق كثيرًا مما كان يصبو إليه من إنشاء المباني وشراء العقارات، وتحصيل القطع الأرضية في وطنه وفي غيره من القرى والمدن .
وما مات حتى أَمَّن – رحمه الله – موارد مدرسته الماليّة، ووسائل اتّصال سير الأعمال التي كان قد بدأها في حياته. وقد ربّى أنجاله ولاسيّما نجلَه الأكبر الأستاذ حفظ الرحمن تربيةً خاصَّةً أَهَّلَتْه لتحمّل أعباء المدرسة وجميع المشاريع من بعده، فانطلق لسانُه بالخطاب، وتمّ التعارفُ بينه وبين مُحِبِّي الفقيد المساهمين في التمويل، وتَخَرَّجَ مُؤهَّلاً لكل ما يحتاج إليه اليوم أحدٌ لإدارة مُؤَسَّسَة تعليميّة أو خيريّة، وعلى رأسه أهليّةُ توفير الدعم الماليّ وجمع الوسائل الماديّة.
* * *
مازلتُ طالبًا عندما كان اشتدّ عودُه في شأن القيام بالتدريس والوعظ؛ ولكنه كان عندئذ رجلاً صُلْبَ العود، لم يتطرق إليه شيء من السمنة والبدانة، وإنما كان نحيل القدّ رشيق الجسم، وكان يستخدم للتنقل بين القرى حتى النائية منها الدراجةَ العاديّة التي كنا نستخدمها نحن الغلمان. وكان حريصًا على إلقاء الخطابات وحضور الحفلات الدينية أيّامئذ أيضًا. وقد اصطجني – رحمه الله – إلى بعض الحفلات والمناسبات التي كان يُدْعَىٰ إليها. وكنتُ عندئذ أتلو القرآن الكريم بالتجويد وصحّة الحروف، لأني كنتُ طالبًا بمدرسة دارالعلوم/ مئو بمدينة “مئوناث بهنجن” وكان الطلاب فيها مُكَلَّفِين بقراءة التجويد وتصحيح قراءة القرآن الكريم بمراعاة القواعد كما كنتُ راغبًا في إلقاء خطابات خفيفة حول المواضيع الدينية. فكنتُ أستهلّ الحفلات بتلاوة آي من القرآن الكريم وإنشاد قصيدة من قصائد المديح النبويّ باللغة الأرديّة. وكنتُ معروفًا بذلك لحدّ ما؛ من ثم كان يرغب الشيخ ولاسيّما لدى مناسبة الإجازات الرمضانيّة الكبرى أن أكون معه لحدّ الإمكان؛ فوجدتُه رجلاً كريمًا حليمًا عطوفًا على الصغير محترمًا للكبير، وكان جهوريَّ الصوت في الخطابات، وكان يَصْدُرُ في مواعظه وخطاباته عن الثقة بالنفس، والدفاع عن العقيدة الصحيحة، ومحاربة البدع والأوهام، التي كانت تموج – ولا تزال لحدّ ما وإن خفّت غلواؤها الآن من ذي قبل – في منطقتنا الواسعة، ولاسيّما في القريتين الملاصقتين لقرية الشيخ: قرية “بوكهريرا” (Pokhraira) وقرية “باتهـ” (Bath) .
وبما أنّه كان لايتعمّق ولايمارس التقعير ولايعتمد الأسلوبَ الصعبَ الرفيعَ في الخطاب؛ بل كان يختار أسلوبًا سهلاً مساغًا لدى رجال الشارع والجماهير، فكان مُحَبَّبًا لدى مستمعيه؛ من ثم عندما اشتهر أمرُه بعد ما عَمِلَ مدرسًا في مدارس “غجرات” فكثر مُحِبُّوه، وصار خطيبًا و واعظاً شعبيًّا يفوق كثيرًا من خطباء وواعظي “غجرات” أيضًا، على حين إن هؤلاء كانوا من الناطقين باللغة الغجراتية فكانوا أقدرَ على إقناعهم بما يقولون؛ ولكنّ الشيخ بسهولة لغته الأردية وعدم ميله للتعمق واجتنابه استخدامَ المصطلحات العلميّة كان أحبَّ إليهم من كثير من علماء “غجرات” أيضًا.
وكان الشيخ يحبّني كثيرًا فما إن كان يحضر بيتَه لدى مناسبة الإجازات الرمضانيّة إلاّ ويبحث عني ويستدعيني إلى بيته ويصاحبني إلى الحفلات التي كان يقبل الدعوةَ لإلقاء الخطاب فيها. وكانت له بعضُ قرابات في قريتي، فكلما كان يحضر القريةَ لزيارة أقاربه كان يطلبني أولاً،ويصطحبني حتي يغادر القرية.
وقد نَظَّمْتُ مع أترابي عددًا من الحفلات الدينية في قريتي، وكنّا نجمع لذلك بعضَ التبرّعات من أهل قريتي، وكنا ندعو الشيخ لإلقاء الخطاب فيها، وكنتُ أبدؤها أنا كالعادة بتلاوة الآيات، وإنشاد مديح نبويّ، وإلقاء كلمات أُقَدِّم من خلالها الشيخَ إلى الحضور مُعَرِّفًا إيَّاه إليهم. وكانت حفلاتٍ ناجحةً نفعت الشعبَ المسلمَ وأفادتهم في دينهم والرجوع بهم إلى المسجد، وصَحَّحَتْ صلةَ كثير منهم بالله، أو بَذَرَتْ في قلوبهم بذرةً دينيةً نبتت فيما بعد فصارت شجرةً، أثمرت وأينعت؛ حيث ثارت في قلوب بعض منهم عاطفةٌ دينيةٌ بعثتهم على أن يُعَلِّموا أولادهم وأحفادهم تعليميًّا دينيًّا ويُخَرِّجُوهم علماءَ. وكانوا من قبل يستنكفون من التعليم الديني ويحتقرونه ويُعَظِّمون التعليمَ الإنجليزيَّ العصريَّ الذي كانوا يرونه مصدرًا للرزق ووسيلة للعيش الكريم في هذه الدنيا الفانية التي كانوا يعتقدونها هي كل آمالهم ومحطّ رحالهم.
وبعدما أنهيتُ تعليمي في دارالعلوم/ ديوبند التحقتُ بالجامعة الأمينيّة الإسلاميّة بدهلي للاستفادة المُبَاشِرَة من العالم الفقيه الصالح الكاتب الإسلامي الشيخ السيّد محمد ميان الدهلوي – رحمه الله – (1321-1395هـ = 1903-1975م) وكان الشيخ عبد الحنان عندئذ يقوم بالتدريس في بعض مدارس “غجرات” فكان كلّما يتوجّه إلى “غجرات” أويعود منها لوطنه، يُعَرِّج عليَّ في قطاع “بوابة كشميري” حيث الجامعة المذكورة، ويمكث لديَّ حسب ما تسمح له ظروفُ السفر وترتيباتُه، وكنتُ أُحْسِن استضافتَه حسب ما تسمح له ظروفي الحياتيّة التعليميّة، وكان يُسَرّ بما يراه من لباقتي في تلقّيه واستقباله وإنزاله منزلاً كريمًا رغم حداثة السن وقلّة الخبرة بالحياة والناس، وكان يُبْدِي إعجابَه بي في كل لقاءاته، ويقول: إنّ نفسي تقول: ستكون إن شاء الله يومًا من أبرز المُتَخَرِّجِين في منطقتنا بعد جيلي الذي تَخَرَّجَ في دارالعلوم/ ديوبند، وسيكون لك – بإذن الله – شأن – كما يشهد بذلك قلبي – لايدانيك فيه أحدٌ من أقرانك وأبناء جيلك.
في 10/ ديسمبر1987م (الخميس: 17/ ربيع الثاني 1408هـ) زرتُ أوّلَ مرة منطقةَ “غجرات” على دعوة من “دارالعلوم ماتلي والا” الكائنة بمدينة “بروص” القديمة لحضور حفلة أدبيّة أقامتها جمعيةُ طلاّبها بعنوان “الإسلام ونظامه الاجتماعي”، فدعوني لرئاستها. وكان من وراء توجيه هذه الدعوة الأخ الفاضل الشيخ رشيد أحمد (بن الشيخ موسى السلوديّ البروصيّ) أستاذ حاليًّا بالجامعة الإسلامية تعليم الدين ببلدة “دابهيل” مديرية “نوساري” مديرية “سورت” سابقًا، الذي كان عندئذ شابًّا، موفورَ النشاط، كثيرَ التحرك، يعمل على تطوير المسيرة التعليمية في “دارالعلوم ماتلي والا” لأنّه كان من أساتذتها النشيطين، وكان عندئذ الشيخ عبد الحنان أستاذَ الحديث فيها؛ فأتيح لي من خلال هذه الزيارة أن أزور الشيخ بعد مدة طويلة من الزمان، وأعرفه عن كثب وخبرة، وأستفيد من خلقه وتجاربه، وأسبر أغوارها بعدما حصلت لي تجربةٌ بالحياة والناس. ومكثتُ بتلك الدار نحوَ أسبوع كامل، وانتظم لي اللقاءُ معه على كلّ من موائد الطعام، وفي الصلاة مع الجماعة، والتنزه بعد صلاة الفجر، والتجالس في فترات الفرص بعد وقبل انتهاء مواعيد الدراسة، ولاسيما بعد صلاة العصر، وفيما بعد صلاة العشاء. فتركت لقاءاتُه هذه ومعرفتي به مُجَدَّدًا – وصرتُ شابًّا مكتملاً بعد ما كنت غلامًا أيام التحصيل – أثرًا أجمل مما كنت أحمله تجاهَه منذ صغري. ثمّ تكررتْ زيارتي “لدارالعلوم ماتلي والا” وغيرها من مدارس “غجرات”، وتوطّدت صلتي بالشيخ أكثر من ذي قبل، وفي كل زيارة تقريبًا لدى المقدم والعودة كان يستقبلني ويُوَدِّعني مع الأساتذة الآخرين على محطة “بروص”.
وكان من عادته رحمه الله أنه كان يحضر مائدةَ الطعام معي في “دارالعلوم ماتلي والا” لدى عميدها عندئذ الشيخ محمد يعقوب الولنوي – رحمه الله – (المتوفى 11/رجب 1424هـ = 8/أكتوبر 2003م) وكان كلما يلذّ أكلةً من الأكلات يُشِيد بها وبمن سَاهَمَ في إعدادها من الرجال والنساء، وكأنه يشيد ببيت عذب أو بقطعة أدبيّة يتيمة، ويرفع صوتَه بالدعاء لكل هؤلاء، ويكرر كلمة “سبحان الله” فكان لايسعهم إلاّ أن يبعثوا قصعة أخرى أو طبقًا آخر. وكان ذلك الأسلوب الإشادي الدعائي على المائدة جديدًا عليّ، فاستغربتُه جدًّا في إعجاب، فقال لي الإخوان الأساتذة في الدار: إنّ ذلك هو ديدن الشيخ على كل مائدة تضمّ أطعمة لذيذة وأكلات شهيّة، وقد عَلِمَ بذلك الغجراتيّون رجالاً ونساءً فهم يُبَادِرُون إلى توجيه قصعة بعد أخرى وطبق بعد آخر رغبةً في أدعيته وإدخالاً للسرور على قلبه.
في أبريل 1989م (رمضان 1409هـ) بدأتُ إعادةَ بناء مسجد قريتي “هربور بيشي” بمديرية “مظفربور” بولاية “بيهار” – الذي كان قد تَدَاعَى بنيانُه والذي سميتُه فيما بعد بجامع أبي بكر الصديق رضي الله عنه – فدعوتُ الشيخَ أن يضع أول لبنة في البناء، فلبّى الدعوةَ في سرور، وحَضَرَ قريتي إثر صلاة الفجر من قريته “بالاساتهـ” التي لاتبعد عن قريتي إلاّ بمسافة نحو 6-7 كلو مترات. ووَضَعَ اللبنةَ الأولى، في جمع حاشد، ودَعَا بالبركة وانتهاء الأعمال في مدة زمنيّة قياسيّة، وكان يومًا مشهودًا في قريتي.
رحمه الله، وجعل الجنة مثواه، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
موجز من ترجمته :
وُلِدَ في 3/ يناير 1934م (16/رمضان 1352هـ) بقريته “بالاساتهـ” بمديرية “سيتامرهي” مديرية “مظفربور” سابقًا بولاية “بيهار”.
تلقّى التعليمَ الابتدائيَ بما فيه مبادئ القراءة والقرآن الكريم والفارسية البدائية في قريته على والده الشيخ “حسن توحيد” رحمه الله. وتلقّى التعليمَ الثانويَّ بمدرسة “محمود العلوم” بقرية “دمله” بمديرية “مدهوبني” مديرية “دربنجه” سابقًا بولاية “بيهار” وبالمدرسة الإمدادية الكائنة بمدينة “لهيريا سرائي دربنجه” وتَخَرَّج من الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند عام 1957م (1376هـ) على كبار العلماء والمشايخ وعلى رأسهم العالم العامل المجاهد الشيخ حسين أحمد المدني رحمه الله المعروف بالديار الهندية بـ”شيخ الإسلام” (1295-1377هـ = 1879-1957م).
وتَزَوَّجَ عام 1956م (1375هـ) ببلدة “جاله” بمديرية “دربنجه” مع آنسة الشيخ الحاج عبد الشكور رحمه الله. وبدأ يمارس التدريس بدءًا من قرية “مورنا” بمديرية “مظفرنجر” بولاية يوبي الغربيّة حيث أنشأ كتّابًا صغيرًا، عمل على تطويره. وبعد عامين غادرَه إلى “عمري كلان” بمديرية “مراد آباد” بولاية “يوبي” الغربيّة على أمر من أستاذه العطوف الشيخ فخرالحسن المراد آبادي أستاذ بدارالعلوم ديوبند رحمه الله (1323-1400هـ = 1905-1980م) حيث كان خلافٌ حادٌّ بين مدرستين، فدمج إحداهما في الأخرى، وشكّلها مدرسة مُوَحَّدة.
في عام 1962م (1381هـ) دعاه أمير الشريعة لولاياتي “بيهار” و”أريسه” العالم الهندي الكبير فضيلة الشيخ منة الله الرحماني – رحمه الله – (1332-1411هـ = 1913-1991م) للعمل بمقر الامارة بقطاع “فلواري شريف” بمدينة “بتنه” فكث هناك عامًّا كاملاً وأحسن أداء الأعمال الموكلة إليه.
في الفترة مابين 1962م (1382هـ) و 1973م (1393هـ) عمل مدرسًا بدارالعلوم/ جهابي بولاية “غجرات” وقام فيها بتدريس موادّ الفقه والحديث والتفسير وغيرها من علوم الشريعة. واستقال منها في أكتوبر 1973م (ذوالقعدة 1393هـ)
وفي الفترة ما بين نوفمبر 1973م (ذوالحجة 1393هـ) و 21/نوفمبر 1998م = يوم السبت غرة شعبان 1419هـ عمل أستاذًا للحديث والفقه والتفسير في “دارالعلوم ماتلي والا” وساهم في تطوير المدرسة وإنشاء بعض المباني الهامّة. وتوسّع تعارفه مع أهالي “غجرات” حيث كثّف جولاته الخطابيّة والدعويّة في الأرياف والقرى والمدن.
ومنذئذ تفرّع لخدمة مدرسته التي أقامها باسم “الجامعة القاسمية” بقريته “بالاساتهـ” يوم 6/ يونيو 1980م (9/ رجب 1400هـ) وعمل بقوة أكثر وثقة أكبر على تطويرها وإنشاء مزيد من الكتاتيب التابعة لها، التي أفادني بعضُ أساتذة مدرسته أن عددها قد بلغ 87 كتابًا، بتعلم فيها صغار المسلمين مبادئ القراءة والتعليم الديني الابتدائي والقرآن الكريم واللغة الأردية والفارسيّة وبعض اللغات المحلية الأخرى. إلى جانب المدرسة المركزية ذات السكن الطلابي التي استقام فيها التعليمُ منذ المراحل الابتدائية حتى الدراسات العليا إلى جانب قسم التحفيظ والتجويد.
وقد بايع في التزكية والإحسان شيخ الحديث الشيخ زكريا بن يحيى الكاندهلوي المتوفي والمدفون بجنة البقيع بالمدينة المنورة (1315-1402هـ = 1897-1982م).
وصدرت بعض مجموعات لمواعظه، كما ألف بالأردية السهلة بعض الرسائل الإصلاحيّة والدعوية التي تمسّ خصيصًا موضوعات مكافحة البدع والمفاسد الاجتماعيّة .
وعمل عضوًا في الإمارة الشرعية لولايات “بيهار” وأريسه وجهاركهند، ورئيساً لوفاق المدارس الإسلامية بولاية بيهار وعضوًا في اللجنة المركزية للإمارة الشرعية، ورئيسًا لجمعية علماء الهند بولاية “غجرات” وعضوًا دوريًّا في الهيئة الإسلامية للأحوال الشخصية لعموم الهند ومشرفًا على بعض المدارس الصغيرة .
وخلّف وراءَهُ ابنين وخمس بنات. وزار وسافر إلى عدد من الدول – إلى جانب أنحاء الهند – زيارة دعوية واجتماعية أو لتوفير الدعم المالي لمشاريعه التعليمية، منها: المملكة السعودية، والمملكة المتحدة، وأمريكا، وكندا، وبناما، وباربادوز، و ويست انديز، وفيجي، ونيوزيلندا، وأفريقيا الجنوبية، وري يونين، وزامبيا، وموريشوش، وملاوي، وباكستان، ونيبال وغيرها.
ودفن بعد وفاته بالمقبرة العامة بقريته في نحو الساعة 10/ من يوم الخميس 18/ جمادى الأولى 1430هـ الموافق 14/ مايو 2009م . وحضر الصلاة عليه كثير من العلماء والطلاب وسكان القرية، وأمّ الصلاةَ عليه نجله الأكبر الأستاذ حفظ الرحمن عميد المدرسة من بعده والمسؤول عن جميع الأعمال التي بدأ بقوم بها في حياته.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رجب 1430 هـ = يوليو 2009 م ، العدد : 7 ، السنة : 33