كلمة العدد
لقد بات واضحًا منذ وقت ليس بالقصير أنّ الشعارات التي ترفعها أمريكا وأوربّا، والمنظمات التي تقيمانها من حين لآخر، كلّها إنما تتبنّى أهدافًا استعماريّة ولاسيّما تجاه العالمين العربيّ والإسلاميّ .
وذلك تجلّى أخيرًا عبر سيناريو احتلال كل من أفغانستان والعراق، وهو نفسه يتكرر الآن بشأن كل من باكستان والسودان وغيرهما اللاّتي تودّ أمريكا الصليبية الصهيونيّة وأوربّا – الذيل الذليل لها – أن تحتلاّها بحجّة وبأخرى .
وما حدث بشأن السودان أوضح دليل على أن الغرب المتكبّر لايودّ أن تعيش دولة ما بأمن وسلام بهويتها الإسلاميّة واستقلاليتها الدينيية ، ومشاريعها التنمويّة .
لقد أثبتت المحكمة الجنائيّة الدوليّة بمدينة “لاهاي” – المولودة في أول يوليو 2002م بموجب تفاقيّة روما 17/ مارس 1998م – المعروفة بـ (ICC) بإصدار قرارها يوم الأربعاء: 4/ مارس 2009م (6/ربيع الأول1430هـ) بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير، عبر مُدِّعِيها العامّ “مورينو أوكامبو” أنّها كغيرها من المنظمات الدوليّة أداة استعماريّة فعّالة لخدمة الأطماع التي تتبنّاها الدول الغربيّة تجاه العالمين العربيّ والإسلاميّ ، لقد أثبت المدّعي العامّ العميل للغرب والأهداف الصليبية الصهيونيّة أن عمر البشير متورط في سبع جرائم حربيّة وإنسانيّة خطيرة في الإقليم السوداني “دارفور”. وقد رفضت الحكومة السودانيّة ومعظم الحكومات الإسلاميّة والعربيّة هذا القرار الدوليّ الانتقائي بشدّة مُعْتَبِرَةً إيّاه دليلاً دامغًا على سياسات الكيل بمكيالين مع القضايا العربيّة والإسلاميّة، وضربةً قاصمةً مُوَجَّهةً إلى مصداقيّة المنظمات الدوليّة .
إنّ المدَّعي العامّ “مورينو أوكامبو” الذي قبل قضية السودان لمحاكمة رئيسه عمر البشير في المحكمة الدوليّة، كان قد رفض طلبات خاصّة في جرائم الحرب في فلسطين بذريعة أن “إسرائيل” لم تنضم إلى اتفاقيّة روما التي بسببها نشأت المحكة الجنائيّة الدوليّة؛ فكان واجبًا عليه أن لايقبل قضية السودان؛ لأنه هو الآخر لم ينضمّ إلى المعاهدة الروميّة المذكورة .
من ثمّ قال البيان الصادر من السفارة السودانيّة في دولة الكويت الشقيقة: إنّ قرار إحالة قضيّة “دارفور” إلى محكمة الجنايات الدوليّة معيب وانتقائيّ، ويخالف مبادئ القانون الدوليّ. وذلك لما يأتي:
1 – إنّه يلزم السودان باتفاقيّة “روما” المؤسسة للمحكمة، والسودانُ ليس طرفًا فيها، الأمرُ الذي يخالف “اتفاقيّةَ “فيينا” للمعاهدات.
2 – فشل المدعي العام في تطبيق مبدأ التكامليّة ، وهو مبدأ جوهريّ في نظام “روما” الأساسي للمحكمة .
3 – إن استهداف المدعي العامّ لرئيس جمهورية السودان وطلبه لتوقيفه وهو في سدّة الحكم ، فيه انتهاك لمبادئ القانون الدولي حول حصانة الرؤساء .
4 – الأدلة التي قدّمها المدعي العامّ للمحكمة مشكوك فيها ؛ لأنها اعتمدت على شهادات أفراد وجماعات التمرد في “دارفور” الأمرُ الذي يؤكد من الناحية القانونيّة أنها شهادات مجروحة . وإن الإقرار بعدم تمكنه من جمع بياناته من إقليم “دارفور” – مسرح الجرائم المدعاة – أو زيارته، تؤكّد ضعف الأدلّة المقدمة.
5 – لقد أقحم المدّعي العامّ نفسه في نشاطات سياسيّة سافرة تقدح في حياديّته ومصداقيته، منها تضامنه العلنيّ مع أفراد وجماعات معروفة بعدائها لحكومة السودان مثل “تحالف إنقاذ دارفور Save Darfur “.
6 – إن خطوة المحكمة الجنائية الدوليّة التي أقدمت عليها تُوَجِّه ضربة مباشرة لجهود الحكومة السياسيّة مع الحركات المتمردة، وهو ما يشكّل تهديدًا لاستقرار “دارفور”.
7 – إن إصدار هذا القرار يتجاوز الجهود العربية والأفريقية للإحاطة بأزمة “دارفور” ولا يأخذ متطلبات العدالة وتحقيق السلام والاستقرار في السودان واعتبارات معالجة الوضع في “دارفور” ولاسيّما تنفيذ اتفاق السلام بجنوب السودان والإعداد للانتخابات العامّة في البلاد خلال النصف الثاني من العام الجاري .
* * *
إن أزمة “دارفور” نشأت من فتنة الانقسامات الاجتماعية والعرقية والدينية والثقافيّة التي بذرتها القوى الاستعماريّة الغربية بمخطّطاتها الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة – التي هي رأس الشرّ بالنسبة إلى جميع الدول والأمم في العالم اليوم – وهذه المخطّطات ظلّت تجري منذ وقت طويل لاختطاف السودان .. منذ استقلاله في 1/1/1956م (15/12/ 1375هـ) وذلك لأنّ هناك أسبابًا ودواعي حَرَّكت القوى الغربيّة لاختطاف السودان و تطويقه والسيطرة عليه وتفتيته ، وعلى رأسها توَجُّهُه الإسلاميّ وانتهاجه الخيار الدينيّ وإصراره عليه رغم الضغوط الكثيرة التي مورست ضدّه ليتخلّى عن هذا الخيار؛ فحوصر أحيانًا، وأُلِّبت دول الجوار عليه أخرى، وأعمل التدخّل لإشعال الحرب الداخليّة في جنوبه تارة، ثم أشعلت فتنة “دارفور” حتى ينزعج ويتضايق جدًّا، وينهزم أمام الدسائس، وينزل لدى رأي القوى الاستعماريّة. وقد تسارعت هذه المخططات مع مقدم ثورة الإنقاذ عام 1989م؛ حيث تجلّى إصرار السودان على التشبت بالخيار الإسلاميّ، و واصل تحقيق إنجازات أبرزت وجهه الحضاري الإسلامي، وكانت قد لوَّثـَتْه الحكومات العسكريّة واليساريّة السابقة . وظلّ النظام السوداني الماضي بمختلف توجّهاته العسكريّة واليساريّة يسير على درب التقسيم والتجزئة كما خطَّطَ له الاستعمار الغربيّ . جاء نظام ثورة الإنقاذ بقيادة عمر البشير فواصل العمل على إنجاز استقلال حقيقي للسودان، وحاول أن يقطع الطريق على النفوذ الغربي بكل صوره الخبيثة، كما لم يرض بشكل من الأشكال أن تنجح محاولة غربيّة لإقامة علاقات مع العدوّ الصهيوني، كما نججت في عدد من الدول العربيّة حتى دول الجوار ودول المواجهة التي تصطلي بنار هذا العدوّ الخبيث المهين . وفي الوقت نفسه ظل النظام السوداني الذي يقوده رجله الرشيد عمر البشير يواصل تحقيق مشاريع تنمويّة زادت الدخل القوميّ في جانب وأزعجت القوى الاستعماريّة المتربصة بالسودان وبجميع الدول العربية والإسلاميّة الدوائر في جانب آخر، كما شَكَّلت نقلة تنمويّة حضاريّة لفتت انتباه العالم، وكان آخر هذه المشاريع “سدُّ مَرْوَى” الضخم الذي احتفل السودان بتدشينه كحدث تاريخيّ بارز في تاريخ السودان بل في تاريخ “أفريقيا” قبل يوم واحد من إصدار المحكمة الجنائيّة الدوليّة المزعومة قرارها ، أي يوم الثلاثاء 3/3/2009م. ولاشكّ أن هذه الإنجازات التي حقّقها البشير لصالح بلاده كانت مبررات حقيقية لاتهام الغرب الاستعماريّ له؛ لأنّ الغرب لن يرضى أن ينتهج أيّ قائد مسلم الخيارَ الإسلامي والخيارَ التنمويّ لصالح بلاده وصالح أمته؛ لأنه إنما يرضى أن يكون كل قائد مسلم وقائد عربيّ عميلاً للغرب يخدم مصالحه الصليبية الصهيونيّة ومطامعه التوسّعيّة في بلاده وخارجها.
وقد أكّدت عدد من الصحف والمجلاّت الإسلاميّة والعربيّة أن الدراسات الأمريكيّة والغربيّة والصهيونيّة مازالت منذ تولّى “الإنقاذ” الحكم في السودان عام 1989م تحذّر من “الحكم الإسلامي” في السودان؛ لأنّ “الحكم الإسلاميّ” ما إن يقوم في بلد حتى يجنّ جنون القوى الغربية والصهيونية الصليبية . وقد استشعرت هذه الدراسات الخطرَ على المصالح الصهيونية الصليبية المشتركة:
- مُخطَّط التنصير والهيمنة الذي تقوم به منظمات التنصير والاستخبارات تحت واجهات الإغاثة الإنسانيّة .
- المصالح الاستراتيجيّة للغرب في المنطقة وفي الدول الأفريقية الحليفة التي تجعل أراضيها قواعد عسكريّة لفرنسا وأمريكا.
- المصالح الصهيونية المتعلقة بالتغلغل في القارة الأفريقية لأسباب أمنية – بهدف حصار مصر والدول العربيّة – واقتصاديّة – نهب ثروات أفريقيا وإيجاد مناطق تجارة للمنتجات الصهيونيّة – وقد كشف الخبير الاستراتيجيّ السودانيّ “د. حسن مكي” عن أنّ الأطماع الصهيونيّة في نفط جنوب السودان زادت بعدما أوفدت القوى الصهيونية الخبيرَ “إيليا هولونفسكي” للجنوب إبّان الحـــرب. وقــدر حجم الثــــروة النفطية السودانيّة بـ 7 مليارات من البراميل .
وقد كان الهدف من وراء مساندة حركات التمرد المسيحيّة في الجنوب وحركات التمرد في الغرب والشمال بين المسلمين الأفارقة والعرب، هو استنزاف موارد السودان، ومنعه من توحيد أراضيه في الشمال والجنوب، حتى أن ميزانيّة الحرب الداخلية في تسعينيات القرن الماضي كانت تستنزف، كما أكدت المصادر السودانيّة، نحو 60٪ من ميزانيّة هذه الدولة .
وهناك مخططات صهيونية صليبية غربيّة مشتركة لتفتيت السودان جار تنفيذها فعلاً: أولاً مخطط استراتيجي أمريكي لتدشين ما يُسَمَّى “القرن الأفريقي الكبير” على غرار “الشرق الأوسط الكبير” والمخطط مُنَفَّذ منذ عهد “كلينتون” ولا يزال مُتَبَنًّى من قبل رجال “أوباما”.
وثانيًا مخطط “دارفور” للتدخل فيها وفي السودان . إن إقليم “دارفور” السوداني يشكل مساحةً حجم دولة مثل فرنسا، وظلّ هو أرض القرآن، ومنارة لنشر الإسلام، ومثّل دائمًا خطّاً فاصلاً بين العالمين العربي الإسلامي والأفريقي النصراني واللاّديني ؛ من ثم استهدف الغرب تفتيته من السودان وفصله عنه وتفويضه لقوى متمردة موالية للغرب ساعية لإيقاف المدّ الإسلامي المتنامي وحصره عن التمدّد تجاه غرب أفريقيا.
ثالثًا – وهو الأهمّ الأخطر – هناك تحرك أمريكي غربيّ على ضغط متصل فاعل من زعماء صليبيين صهاينة للتدخّل في “دارفور”؛ فشُكِّل (تحالف إنقاذ “دارفور”) الذي يضمّ 150 جماعة دينية وإنسانية ويحركه أصلاً اللوبي الصهيونيّ والصليبيون المتشدّدون. وذلك بحجة إنقاذ أهالي “دارفور” الأفارقة من الإبادة التي تقوم بها – كما تزعم القوى الغربيّة – القبائل العربيّة، رغم أنّ سكّان “دارفور” جميعهم مسلمون، بعكس مزاعم جنوب السودان بأن النصارى فيه مُضْطَهَدون من حكومة الشمال المسلمة ، رغم أن نسبتهم 17٪ من السكان مقابل 81٪ من المسلمين ، والباقي وثنيّون .
ويؤكّد حرص القوى الصهيونية الصليبية على تفتيت السودان بقوة وفي عجلة قول وزير الأمن الداخلي الصهيوني “آفي ديختر” في محاضرة نشرتها الصحف العبريّة يوم 10/أكتوبر 2008م (الجمعة: 9/رمضان 1429هـ) ردًّا على سؤال: لماذا تتدخّلون في شؤون السودان الداخليّة في الجنوب سابقًا وفي دارفور حاليًّا؟ : “إن الهــدف هو تفتيت السودان وشغله بالحروب الأهليّة؛ لأنه بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكّانه يمكن أن يصبح دولة إقليميّة قويّة، وإنّه يجب أن لايُسْمَح لهذا البلد – رغم بعده عنّا – بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربيّ ؛ لأن موارده إِنْ استُثْمِرَتْ في ظلّ أوضاع مستقرة، فسوف تجعل منه قوة يُحْسَب لها ألفُ حساب؛ ولذلك كان لابدّ أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قويّة موحدة. وهذا من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القوميّ الإسرائيليّ” . (المجتمع، العدد 1843).
إن تصريح وزير الأمن الداخلي الصهيوني يؤكّد حتى لكل قائد مسلم أو عربيّ يود أن يخادع نفسه وقومه في شأن الاعتماد على القوى الغربيّة الصهيونيّة والصليبية. إنّه يجلّى أن الغرب لن يحتمل أيّ دولة مسلمة أو عربيّة تشمّ منه رائحة الوعي، و رائحة الاستعداد الاقتصادي، فضلاً عن رائحة الاستعداد العسكري.
من ثم تطلق دائمًا ضجّة ضدّ القوة النووية الباكستانيّة، وتقول: إنها غير مصونة، وإنها تكاد تطالهــا أيدي “الطالبـــان” أي أيــدي القوى الإسلاميّة ؛ لأن كلمة الطالبان أصبحت رمــزًا عندها على القـــوى الإسلاميّــة وعلى جميع المسلمين المتدينين المتمسكين بالإسلام وشريعته.
ومن ثم لاتودّ هي أن تنهض دولة عربية أو إسلامية اقتصاديًّا أو عسكريًّا، أو تبقى موحدة موطدة الأركان؛ ولذلك تثير دائمًا فيها اضطرابات وقلاقل على جميع الأصعدة .
إنّ قرار توقيف عمر البشير مؤامرة غربية أمريكية صهيونية صليبية تُؤَكِّد لكل قائد مسلم وعربيّ أنّه ليس بمنجاة من الغرب ومؤامرته إذا استقلّ برأيه، وتمسّك بدينه، واتجّه نحو تنمية بلاده، وقادها باسم الإسلام، وهدي القرآن.
لاتزال الدول العربيّة والإسلاميّة خافتة الصوت، تجاه هذا القرار الانتقائي الشيطاني الذي عملت القوى الصهيونية الصليبية الغربيّة على إصداره متستّرة بمحكمة دولية جنائيّة مزعومة، كما صنعت في شأن الهجوم الصليبي الصهيوني على أفغانستان والعراق الذي يكاد يلتهم الآن باكستان؛ ليأتي بعدها دور دولة مسلمة أخرى.
( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الأربعاء: 3/5/1430هـ = 29/4/2009م )
نور عالم خليل الأميني
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33