دراسات إسلامية

بقلم : الدكتور يوسف إبراهيم يوسف

       “العفو” كلمة قرآنية، وردت في كتاب الله تعالى مرتين، إحداهما في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ﴾ (البقرة:219). وثانيتهما في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـٰـهِلِيْنَ﴾ (الأعراف:199).

       ولقد حرر المفسرون – رحمهم الله – مفهوم “العفو” الوارد في هاتين الآيتين؛ فقال الفخر الرازي في تفسير الآية الأولى: “وَيَسْئَلُوْنَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ” قال: اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف(1). وأعيد هنا فأجيب عنه بذكر الكمية .. إذا عرفت هذا فنقول: كأن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضّان على الإنفاق، ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلّفوا به، هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله أن “العفو” مقبول.

       ولكن ما هو العفو؟ يجيب الفخر الرازي: قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو في اللغة الزيادة، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ (الأعراف:199) أي الزيادة، وقال أيضًا: ﴿حَتَّىٰ عَفَواْ﴾ (الأعراف:95) أي زادوا على ما كانوا عليه في العدد، قال القفال: “العفو” ما سهل، وتيسر، مما يكون فاضلاً عن الكفاية… وإذا كان “العفو” هو التيسير؛ فالغالب إنما يكون فيما يفضل عن حاجات الإنسان في نفسه وعياله، ومن تلزمه مؤنتهم؛ فقول من قال: “العفو” هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرنا(2).

       وقال رحمه الله في تفسير آية سورة الأعراف “خذ العفو..” بيَّن في هذه الآية: ما هو المنهج القويم، والصراط المستقيم في معاملة الناس؛ فقال: خذ العفو وأْمر بالعرف، قال أهل اللغة: العفو، الفضل وما أتى من غير كلفة. إذا عرفت هذا فنقول: الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها، وإما أن لايجوز. أما القسم الأول فهو المراد بقوله: “خذ العفو”، ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضًا التخلق مع الناس بالخلق الطيّب، وترك الغلظة والفظاظة.. أما القسم الثاني، وهو الذي لايجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه؛ فالحكم فيه أن يأمر بالعرف.. وللمفسرين طريق آخر في تفسير هذه الآية فقالوا: “خذ العفو”، أي: ما عفا لك من أموالهم، أي ما أتوك به عفوًا فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك.. ثم قال: اعلم أن تخصيص قوله: “خذ العفو” بما ذكر، تقييد للمطلق من غير دليل”(3).

       ونستخلص من كلام الرازي رحمه الله تعالى، أن “العفو” مقدار من الإِمكانيَّات، وكمية منها، وأنه بيان لما كلف الله عباده إنفاقه في سبيل الله من إمكانياتهم، بعد أن تساءلوا: أكل المال يجب عليهم إنفاقه أم بعضه؟ وأن “العفو” الوارد في آية سورة البقرة: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ﴾، هو الخاص بهذا التكليف، أما “العفو” الوارد في آية سورة الأعراف: “خذ العفو”، فيشمل المال، وغير المال كالأخلاق.

       ولقد دار المفسرون حول هذا المعنى في تفسيرهم للعفو؛ فقال القرطبي: العفو ما سهل، وتيسر، وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه. فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم؛ فتكونوا عالةً. هذا أول ما قيل في تفسير الآية، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدي، والقرظي محمد بن كعب، وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: العفو: ما فضل عن العيال، ونحوه، عن ابن عباس(4).

       وقال الشوكاني: العفو ما سهل، تيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال(5).

       وقال الطاهر بن عاشور: “العفو مصدر عفا يعفو، إذا زاد ونما، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال، أي ما فضل بعد نفقته، ونفقة عياله بمعتاد أمثاله(6).

       وجاء في تفسير “المنار”: وما ورد يدل على أن المراد: أي جزء من أموالهم ينفقون، وأي جز منها يمسكون؛ ليكونوا ممتثلين لقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله﴾ (البقرة:195)، ومتحققين بقوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَـٰـهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة:3)، وما في معنى ذلك الآيات التي تنطق بأن الإِنفاق في سبيل الله، من آيات الإيمان وشعبه اللازمة له على الإِطلاق، الذي يشعر أن على المؤمن أن ينفق كل ما يملك في سبيل الله، وقد اقتضت الحكمة بهذا الإِطلاق في أول الإسلام… وبعد استقرار الإِسلام، توجهت النفوس إلى تقييد تلك الإِطلاقات في الإِنفاق فسألوا: ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأن ينفقوا “العفو”، وهو الفضل والزيادة عن الحاجة. وعليه الأكثر، وقال بعضهم؛ إن العفو نقيض الجهد، أي: ينفقوا ما سهل عليهم، وتيسر لهم، مما يكون فاضلاً عن حاجتهم وحاجة من يعولون(7).

       وقال ابن عطية: العفو هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله، ونحو هذا هي عبارة المفسرين، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر؛ فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم؛ فتكونوا عالة(8).

       وقال صاحب الظلال: العفو الفضل والزيادة؛ فكل ما زاد على النفقة الشخصية – في غير سرف ولا مخيلة – فهو محل للإنفاق(9).

       وهكذا نرى أن المفسرين – قديمهم وحديثهم – يتفقون في الجملة على أن المقصود من “العفو” الوارد في قوله تعالى: “يسألونك ماذا ينفقون قل: العفو”، هو الفضل والزيادة عن الحاجات، وأنه كله محل للإِنفاق.

       وإذا انتقلنا من القرآن الكريم إلى السنة المطهرة، وجدنا لفظ “الفضل”، الذي فُسر به “العفو” الوارد في القرآن الكريم، قد استخدم في بيان ما ينبغي على المسلم، أن يعود به على غيره، من الإمكانيات التي لديه، وذلك في الكثير من الأحاديث الصحيحة، والتي منها قول النبي صلوات الله وسلامه عليه: “يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى”(10). ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر؛ ليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد؛ فليعد به على من لا زاد له”. فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل(11).

       فالفضل الوارد في الأحاديث السابقة، هو “العفو” الوارد في الكتاب الكريم، وهو محل للإِنفاق، حتى ليقول الصحابي الجليل: “رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل”، وتكون السنة المشرفة قد فسرت “العفو” الوارد في القرآن الكريم.. فالعفو هو مازاد عن الحاجة.. والفضل هو ما زاد عن الحاجة.. ولقد كان حريًّا بالمفسرين رحمهم الله تعالى، أن يستأنسوا بالسنة المشرفة في تحديد معنى “العفو”؛ فقد بيّنت أنه الفضل، عندما استخدمت هذا اللفظ في نفس الموضع الذي استخدم فيه “العفو” في القرآن الكريم. فهذا هو أصح الطرق؛ لكنهم اعتمدوا على الدلالة اللغوية للكلمة، وعلى ما ورد عن بعض الصحابة وبعض التابعين في تفسير معنى “العفو”، ونقل ذلك بعضهم عن بعض، دون إشارة إلى الأحاديث التي وردت في نفس المجال، واستخدمت لفظ “الفضل”.

       ولعل وضوح الدلالة لكلمة “العفو”، عندما تكون إجابةً للسؤال عن كمية ومقدار ما ينبغي أن يقوم الفرد بإنفاقه، لم تجعل المفسرين في حاجة إلى هذا الاستئناس، وإن كان هذا التبرير ليس كافيًا، ذلك أن السنة هي خير ما يفسِّر القرآن، بعد القرآن. وهي قد فسرت “العفو” بالفضل؛ فكان ينبغي أن يؤخذ مفهوم “الفعو” من السنة أولاً، ثم من أقوال الصحابة والتابعين ثانيًا، وهم في الحقيقة إنما استقوا تفسيراتهم من السنة، وإن لم يصرحوا بالنسبة إليها.

       وبهذا يتضح لنا مفهوم “العفو” في الفكر الإسلامي. وإذا كان حديثنا قد ركز على “العفو” من المال؛ فعند التحقيق نجد “العفو” غير مقصور عليه؛ فالآية لم تقيد “العفو” بالفائض من المال، وإن كان المفَسِّرون قد وقفوا “بالعفو” عند الفائض منه، وحتى إن قلنا: إن آية “العفو” من سورة البقرة، قد جاءت في إنفاق المال – ونحن لانرى ذلك – فإن السنة المطهرة قد وردت بالتكليف فإنفاق “العفو” من الجهد والإمكانيات البشرية، والتي سنتحدث عنها حديثًا مستقلاً، بمشيئة الله تعالى فيما بعد.

       ولو لم تكن السنة قد جاءت بتقرير هذا النوع من “العفو” – كما سنعرف – وسلمنا بأن الآية من سورة البقرة، قد وردت في “العفو” من المال، لكان “العفو” من الجهد البشري مقررًا في الإِسلام، قياسًا على “العفو” في المال؛ إذ أن علة تقرير إنفاق “العفو” من المال هي وجوده فائضًا عن حاجة الشخص؛ فإذا وجد فائض من الجهد البشري لدى شخص؛ فإن حكم الفائض من المال ينسحب عليه؛ لكن السنة – بحمد الله تعالى – قد أغنت عن القياس طريقًا لإثبات التكليف بإنفاق “العفو” من الجهد البشري. كل هذا بافتراض أن الآية خاصة بـ”العفو” المالي، مع أنني لا أرى ذلك، وإنما أراها مطلقةً تنطبق على العفو المالي؛ كما تنطبق على العفو من الجهد البشري.

       وبناءً على هذا النقاش؛ فإن التكليف بإنفاق “العفو” وارد على كل من المال والجهد البشري؛ بل إنني رأى أن دور “العفو” من الجهد البشري في بناء المجتمع، تمويل تنميته، أكبر من دور “العفو” في المال، وبخاصة في المجتمعات التي تمتلك قدرًا كبيرًا من العمل، ولا تملك من المال إلا القليل، وأكثر مناطق العالم الإسلامي اليوم هي من هذا الصنف، الذي به عرض كبير من العمل، بينما يعاني من عجز موارده المالية. إن تمويل التنمية في مثل هذه البلاد، يمكن تحقيقه بصورة أيسر إذا هي ركزت على “العفو” من الجهد البشري – الذي يملكه معظم الناس في المجتمع – ثم عضدته بـ “العفو” من المال(12). وسنرى في المطلب التالي، أن مفهوم إنفاق العفو، يشمل تقديمه بمقابل مادي، إلى جانب تقديمه بدون هذا المقابل، وأن الهدف هو جعل “العفو” أيًّا كان مصدره، مُنفقًا في تحقيق المصالح.

العفو والفائض الاقتصادي:

       إذا كنا قد تبينا أن “العفو” هو “الفضل”؛ فهل يفترق “العفو” عن الفائض الاقتصادي؛ كما تتحدث عنه الكتابات الإنمائية المعاصرة؟

       لا شك أن الفائض الاقتصادي – كما تعرفه الكتابات الإِنمائية المعاصرة – وبصرف النظر عن تقسيمه إلى فائض محتمل، أو مخطط، أو فعلي، إنما يعني ما يتبقى من الدخل، بعد سدّ الحاجات، وهو بهذا المعنى الإجمالي يتفق من حيث تكوينه المادي، مع “العفو” من المال. وتبقى فكرة “العفو” ذات شمول لايوجد في مفهوم الفائض الاقتصادي؛ لأنها تشمل إلى جوار الفائض الاقتصادي، أي “الفائض من الدخل عن الحاجات”، تشمل الفائض من الجهد البشري، والذي قلنا – من قبل – : إننا نراه أكثر أهميةً من الفائض في المال، لدى معظم مجتمعاتنا الإسلامية، وغيرها من مجتمعات العالم، التي تسعى إلى تحقيق التقدم والتغلب على مسببات التخلف.. واختلاف مفهوم “العفو” عن مفهوم الفائض الاقتصادي بهذا القدر، يجعل إدارة العفو وتوجيهه، تختلف عن إدارة وتوجيه الفائض الاقتصادي، ومن ثم فإن النظريات الاقتصادية عن توجيه الفائض الاقتصادي، ذات فائدة محدودة لنا عند وضع السياسات الخاصة باستخدام “العفو” في تمويل التنمية وتحقيق التقدم.

محددات العفو:

       وبعد وضوح مفهوم العفو، أصبح واضحًا أن كميته تختلف من شخص إلى شخص، سواء في ذلك العفو من المال، أم العفو من الجهد البشري، وذلك تبعًا لحجم إمكانيات الشخص، وحجم احتياجاته؛ فهناك من تفوق احتياجاته إمكانياته، وهناك من لاتتجاوز إمكانياته احتياجاته، وكلاهما لا يملك شيئًا من “العفو”، وهناك من تزيد إمكانياته عن احتياجاته، ومن ثم يوجد لديه قدر من “العفو”، يكبر، أو يصغر، تبعًا لحجم المحددين المذكورين: الإمكانيات والاحتياجات.. فالعفو من المال، يتحدد بحجم الدخل من ناحية، وبحجم تكاليف الحياة من ناحية ثانية، والعفو من الجهد البشري، يتحدد بحجم القدرة البشرية من ناحية، وحجم المستنفد منها في الوفاء باحتياجات مالكها من ناحية ثانية. والعفو في الحالين، قد جعله الله محلاً للإنفاق بمفهومه الذي سنوضحه في المطلب التالي بمشيئة الله تعالى.

*  *  *

الهوامش:

  • يقصد قول الله تعالى: “يسألونك ماذا ينفقون: قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل” (البقرة:215)
  • الفخر الرازي، التفسير الكبير “مفاتيح الغيب”، دارالفكر، بيروت، طبعة سنة 1978م بالأوفست عن طبعة المطبعة العامرية الشرقية سنة 1324هـ، الطبعة الثانية، مجلد2، ص 221-222.
  • المرجع السابق، مجلد 4، ص 337-338.
  • القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ط2 سنة 1952م دون ذكر اسم الناشر، تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، مجلد 3 ص61.
  • الشوكاني، فتح القدير، دارالمعرفة، بيروت، بدون رقم طبعة أو تاريخ، مجلد1، ص 222.
  • الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، سنة 1984، ج2، ص 352.
  • السيد محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973، بدون رقم، ج2، ص 268.
  • ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، دار إحياء التراث، قطر، ج2، ص 239.
  • سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط7، مجلد1، ص 231.
  • رواه الإمام مسلم في صحيحه، انظر الإمام النووي، رياض الصالحين، طبعة دار إحياء التراث، قطر، ط1، سنة 1986، توزيع دار الثقافة، الدوحة، حديث رقم 550.
  • رواه الإمام مسلم في صحيحه، انظر المرجع السابق، حديث رقم 564.
  • A. Lewis, Economic Development with Unlimited Supply of Labour, “Oxford University Press, 1975” pp. 402 FF.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33

Related Posts