دراسات إسلامية
بقلم : يوسف محمد بناصر (*)
لقد ورثت الثقافة الإسلامية عن الثقافة العربية الجاهلية المنهجَ الشفاهيَّ في أخذ المعارف، وعلق في أذهان الصحابة بعد ذلك أن العلم والمعرفة تنال بالحفظ كما حفظت المعلقات السبع وأساطير العرب وتاريخ الحروب، وكذلك كان الأمر مع كل ما أنتجه وجمعه العقلُ المسلم – خصوصًا الصدر الأول – من علومٍ فقهيّةٍ وحديثيّةٍ على وجه الخصوص، وجاء منع النبي عليه وآله الصلاة والسلام عن كتابة الرواية الحديثية؛”مَنْ كَتَبَ عنّي شيئًا فليَمْحُه” ليدعم استمرارية الثقافة الشفهية فصدقوا والتزموا – كما التزمت الأمة من بعدهم ردحًا من الزمن – بقوله: “إنا أمّة أميّة لا نكتبُ ولا نحتسبُ“؛ فاستند العامّة والخاصّة على تلك الرواية للمنع، ثم جاء سلوك وعملُ بعض الصحابة ليزكي بشكل أعمق تلك الأحاديث ليحولها المجتمع المسلم إلى ثقافة يوميّة ممارسة ومشرعنة تمتد زماناً؛ فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: “إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه” وقوله: “إنما ضلّ من كان قبلكم بالكتب“، وكتب عمر بن الخطاب إلى الأمصار آمرًا: “من كان عنده شيءٌ فليمحه“، حتى أن ابن أبي موسى الأشعريّ قال: “كتبت عن أبي كتابًا كبيرًا فقال: ائتني بكتبك فأتيتُه بها فغسلها” وكثيرًا ما كان يقول لمن يأخذ عنه: “العلم احفظوا عنا كما حفظنا“، وقيل شعرا في فضل الحفظ مالم يقل عن القراطيس وحفظها للعلم؛ قال الشاعر:
استودع العلم قرطاسا فضيعته
وبئس مستودع العلم القراطيس
إن الدارس لتاريخ الكتب في الثقافة والحضارة الإسلاميَّتين ليأخذه العجب مما قد يجد من اغتيالاتٍ وإعداماتٍ ومصادراتٍ للكتاب من طرف رجال السلطة أو العلم أنفسهم؛ وفي فتراتٍ متباعدةٍ من التاريخ، ممّا هو راجع بالأساس إلى عدم تحول الوعي الإسلاميّ ليقبل بما جاء القرآن ليؤسس له من ثقافة حفظ الكتاب، ثم بالأساس تمجيد ثقافة اقرأ والقلم والمداد وثقافة: “فليكتب كاتب”.. هذا في المقام الأول، أما ثانيًا؛ فنجد أن هنالك أسباب متعددة أخرى واهية لتلك الحروب على الكتاب المدون؛ فبين التي دعت إليها الحمية السياسية والصراعات المذهبية والعقدية، وبين التي حدثتْ بسبب أزمة نفسيّة أو اجتماعيّة أو قبليّة لشخص المدون…، فمثلاً في سنة [311هـ]؛ حكى “ابن الجوزي“ في حوادثها قائلاً: “وفي نصف رمضان أحرق على باب العامة صورة ماني وأربعة أعدال [حمل أربعة جمال] من كتب الزنادقة فسقط منها ذهب وفضّة ممّا كان على المصاحف له قدر”. ونقل“المقري” عن “المطمح” أن كتب “ابن مسرة” وهو العابد الزاهد، قد تتبعت بالحرق واتسع في استباحتها الخرق وغدت مهجورةً على التالين محجورةً…”، ونقل أيضًا في كتابه: “نفح الطيب” أن أبا محمد ابن حزم قال عندما أحرق المعتضد بن عباد كتبه باشبيلية شعرًا:
“دعوني من إحراق رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس، بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن انزل ويـــدفن في قبــــري”.
ويتحدّث “الصفدي” في ترجمة الحاجب الملك المنصور الأندلسي أنه في سنة [366هـ] عمد أول تغلبه إلى خزائن “المستنصر“ فابرز ما فيها من صنوف التواليف بمحضر خواصه العلماء وأمر بإفراد ما فيها من كتب الأوائل حاشى كتب الطب والحساب وأمر بإحراقها وطم بعضها وكانت كثيرةً جدًا فعل ذلك تحبّبًا إلى العوام وتقبيحاً لرأي المستنصر..”، وفي أحداث سنة [537 هـ]، حكى أبو محمد بن اسعد اليافعي قائلا: “وفيها توفي صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين... وهو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الاسلام أبي حامد الغزالي“، وروى“النويري” في ترجمة أبي يوسف يعقوب بن يوسف أمير الموحدين أنه أمر في سنة [583هـ] بإحراق كتب المذاهب بعد أن تجرد من الحديث والقرآن؛ فحرق كتاب المدونة وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبرادعي والواضحة..، وقصد من عمله ذاك أن يمحو مذهب مالك من بلاد المغرب، ويحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة”، ويذكر زين الدين عمر بن المظفر بن الوردي في كتابه تتمة المختصر من أخبار البشر أنه في سنة [744هـ]: “فيها مزّقنا كتاب فصوص الحكم [لابن عربي] بالمدرسة العصرونية بحلب، عقب الدرس وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيهًا على تحريم قنيته ومطالعته..”.
كما تَحدّث المؤرخون عن بعض المشايخ الذين كتبوا وألّفوا الكتب الكثيرة وفي مختلف الفنون فلما ضاقتْ بهم ضائقةٌ قاموا بإحراقها أو دفنها، ومنهم من قام بغسلها ومحوها وتخريقها بأنفسهم أو بأمر منهم؛ فالإمام سعيد بن جبير [ت 95هـ] روى “الدينوري” القاضي المالكي في كتاب “المجالسة”: قال: “إن امرأةً سعديةً قالت: سمعتُ سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج دعا رجلاً؛ فقال: “اذهب فأحرق كتبي”، والثوري فيما حكاه الحارثي عنه قائلاً: “دفن سفيان كتبه فكنت أعينه عليها فدفن منها كذا وكذا قمطرة [ما تصان فيه الكتب]، إلى صدري فقلت: يا أبا عبد الله: “وفي الركاز الخمس” فقال: خذ ما شئتَ. فعزلت منها شيئًا. كان يحدثني منه”، وشيخ المحدثين شعبة بن الحجاج حكى عنه ابنه قائلاً: “أوصى أبي: إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها”، وأبو عمرو الكرخيّ الذي روى الحديث عن عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم من الصحابة؛ فقد محا كتبه عند موته، وعندما سئل قال: “أخشى أن يليها قومٌ يضعونها غيرَ موضعها”، كما حكى هشام بن عروة أنّ أباه عروة بن الزبير قد حرق كتبًا فيها فقهٌ ثم قال: “وددتُ لو أني فديتها بأهلي ومالي”، وكتب أبو حيان التوحيدي – في سنة 400 هجرية عندما حرق كتبه – إلى القاضي أبو سهل علي بن محمد الذي يعذله على صنيعه؛ فرد معتذرًا إليه قائلاً: “وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقع… بعد ذكر الشوق إليَّ، والصّبابة نحو ما نال قلبك والتهب صدرك من الخبر الذي نمىٰ إليك فيما كان منّي من إحراق كتبي وغسلها بالماء…”، حتى أن أبا حيان قد استشهد بحسن صنيعه في كتبه بما فعله علماء متقدّمون عليه مع كتبهم واعتبرهم أسوةً له في فعلته؛ فقال: “وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوةٌ بأئمة يقتدى بهم ويوخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو العلاء، وداود الطائي، ويوسف بن أسباط، وأبو سليمان الدراني، وسفيان الثوري، وأبو سعيد السيرفي…”.
فكأن حرق وخرق الكتب أصبح ثقافةً شعبيةً وطقسًا روحيًّا يمارسه الجهابذةُ من العلماء – فما بال العامة والجهلاء من الناس في الفتن والحروب وضيق ذات اليد – إما إكرامًا للكتاب من الوقوع في يد من لا يحفظه ولا يعرف قيمته، أو حزنًا على ما آلت إليه أمور العلم وحياة الكاتب، أو توبةً مما كتبه ورجوعًا عما ذهب إليه في بداية حياته…، وإضافةً لما سبق أعتقد أن ما حصل في تاريخ الكتاب الإسلامي كان نتيجة استحكام ثقافة الشفهي على ثقافة المكتوب المدون، فلم ينزل الكتاب منزلته التي يستحقها ولم يعط قيمته، واليوم ماتزال تلك الثقافة متجدرةً وممتدةً في حياة الأمة؛ فمن النادر أن تجد مكتبةً لكل بيت أو قارئاً نشيطاً ومقتنيًا للكتاب، بالرغم من مجهودات الدّول والمدارس والجامعات لتكريس ثقافة القراءة والمطالعة، حتى حُظيتْ الدّول والشعوب الإسلامية بأدنى الرتب في المقروء والمكتوب والمترجم.
لا يكاد يُنكر أحدٌ، ما للامتداد التاريخيّ السلفيّ وبعض معتقداتهم على مستقبل الأمة، وبخاصة تاريخ التأخر والتدهور، بحكم أنه هو الأقرب لحاضرنا ومنه نستمد أيضًا؛ فأغلب أفكار تلك المرحلة التاريخية ترمي بظلالها على مكتسباتنا المعرفية وكثيرًا ما تحدّد تصوراتنا للقضايا التي نشتغل وننشغل بها اليوم؛ فلا يكاد تناولنا لها يتجدّد، فهو تناول ممسوخ ومنسوخ ومتكرر لتلك الفترات الماضية، ولا يكاد منهجنا العقليّ يتحول عن المنهج الماضوي: “العقل السلفي” – بكلّ تجلياته – في تعاطيه مع المعرفة والإبداع والتحديث، وفي اتخاذ القرارات وإبداء الآراء، بله عودتنا إليه لتثوير قيمنا الأخلاقية والجمالية والمعرفية وحتى الفقهية…
إن الحديث عن مكتسابتنا المعرفية والمنهجية التاريخية بالنقد، وتواصلنا مع تراثنا وسلفنا بذرائعية ونفعية؛ لا يعني بالضرورة الإنكار عليهم ولا محاكمتهم ولا منع الخطأ عنهم ولا وصفهم بصفة العصمة، كما أن الوقوف على عورات معرفيّة وعلى إختلالات بعض مناهجهم لا ينقص من قيمتهم ورمزيتهم التاريخية…؛ بل إنّ ممارساتنا النقديّة على تلك الفترات وعلى بعض شخوصها؛ إنما يأتي في سياق التطلع إلى مواصلة النقد البنّاء الذي يفصل بين الغث والسمين، وبين الذي يذهب جفاءً والذي يمكث في الأرض؛ فمنهجية القرآن تفرض في تناولها للذي يصلح والذي لا يصلح تلك الممارسة، ثم إن الإصلاح والتجديد لن يتأتى بالانتظار لتتصفى كلّ تلك المعارف والعلوم لوحدها ويتحدد النافع من الضار؛ لكن يكون ذلك بحراكنا الفكريّ وتمييزنا النظريّ النقدي وبقدرتنا على إحداث انفصال وقطيعة مع الأشياء والأفكار التي تجرّ إلى الخلف، ثم بعد ذلك إحداث اتصال وتصالح واعٍ مع الذي كان نتاج منهج متكامل يقف على بنية رصينة من الحجج التي تجعله يستحق أن يبنى عليه من جديد للانطلاق نحو المستقبل، دون أن ننسى أننا نتصالح مع أصالتنا المعرفية وتاريخنا الثقافي، وهذا ما تؤكده بعض مقالات المتقدمين من علماء الأمة، لوعيهم بضرورة أن يوجد العقل النقدي ليخلق تصالحاً مع المعارف القديمة، بدون أن يكون هنالك استلاب بأحكام السلف المتقدمين.
فـ”المقري“ مثلاً في كتاب: “نـفح الطيب” خلص إلى ما قد يحدث للعقل من انغلاق وجمود أو فصل للعلوم بعضها عن بعض من فتنة وتخلف قائلاً: “كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقتْ عليه العامة اسم “زنديق”، وقيّدت عليه أنفاسه ويقتله السلطان، تقربًّا لقلوب العامة، وكثيرًا ما يأمرهم ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت…”طلقت عليه العامة ييي
، ولم يقتصر ذلك على الفلسفة لوحدها، إنما كان من حض العلوم الحكمية وعلم المنطق باعتباره مدخلاً للفلسفة؛ فمدخل الشرّ شرّ؛ فابن طلموس وصف الحالة المزرية التي صارت إليها الفلسفة قائلاً: “فإني رأيتُها مرفوضةً عندهم، مطروحةً لديهم، لا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وزيادةً على ذلك؛ فإن أهل زماننا ينفرون منها، ويرمون العالم بها بالزندقة وقد اشترك في هذا الأمر دهماؤهم وعلماؤهم”.
ولا أملك في النهاية إلا أن أنوه بالمجهود الذي قدّمه الأستاذ ناصر الحزيمي في كتابه حرقُ الكتب في تاريخ التراث العربي الصادر عن منشورات الجمل، حيث تتَّبع بعضَ القضايا التي تهمّ الكتاب ووضعية العلم والعلماء في مختلف القرون الإسلاميّة؛ فقام بجرد أهم الأحداث وسرد أخبار أغلب العلماء الذين وقعوا ضحية حرية التعبير أو مقالاتهم المخالفة للنسق.
استفاد بعض علماء المسلمين من العلوم التي كانت في عصرهم الزاهر فترجموا ولخّصوا وشرحوا لليونان والإغريق والفرس وغيرهم، لإيمانهم بتكامل المعارف وتداخل المناهج بين مختلف العلوم حتى ولو كانت غير العلوم الشرعية؛ فلا مفاصلة ولا انفصال بين ما يؤلّفونه من علوم وبين ما كتبه وألّف فيه السابقون من أهل الحضارات المجاورة، وهذه الرؤية كانت تعبّر عن انفتاح بعض العقلاء المسلمين على عصرهم، ووعيهم بأهمية تكامل العلوم والمعارف الإنسانية، إلا أن زحف عصر التدهور وبداية رحلة التقهقر شكل لحظة حاسمة في تاريخ المسلمين وعلومهم؛ بل لحظة انفصال؛ لما كان لذلك من آثار في تشكيل تصوّراتهم الجديدة وبناء مفاهيمهم حول مختلف المسائل والمباحث التي ناقشها المتقدمون، فأمسى نقاش تكامل العلوم والمعارف الإنسانية في ما بينها، والذي يكاد يكون مسلمًا به عند الأوائل، مثار جدل ونقاش محتدم، بله هو باب من أبواب الفتنة والإفتاء المتضارب،كأنه شيء حادث ونازلة مستحدث في الحضارة الإسلامية بالصدفة.
فابن الصلاح الشهرزوري [ت643هـ] اشتهرت عنه فتواه في تحريم المنطق والفلسفة والاشتغال بتحصيلهما؛ فقال: “الفلسفة أسّ السفه والانحلال، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المطهرة، أما المنطق فهو مدخل الشرّ ومدخل الشرّ شرّ؛ فليس الانتقال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع… “أما استعمال المصطلحات المنطقية في مباحث الإحكام الشرعية؛ فمن المنكرات المستبشعة والرقعات المستحدثة؛ فمن تمنطق “تزندق”، فتاوى ابن الصلاح الشهرزوري . فكأن الشيخ ابن الصلاح قد حسم للأمة في معضلة عظيمة نزلت بها؛ تهمّ العلوم والمعارف الإنسانية المستحدثة والتي اتصلت بالمعارف الإسلامية؛ فحكم أيضًا على من يتعلمها وعلى من يشتغل بها بالسفه والضلال، وبذلك كان لابد من مراجعة والنظر بشكل آخر في مختلف العلوم الإسلامية التي ولدت بين أحضان العلوم الإنسانية،– يونانية وإغريقية – مثل علم الكلام والمنطق الذي اختلط بمباحث أصول الفقه الإسلامي…، ولم يكن الشيخ لوحده الذي حكم على تلك العلوم بالسفه والضلال؛ لأن ابن عبد البر في “مختصر جامع بيان العلم وفضله” وغيره من المالكية الذين وقعوا في فخ تقنين وترتيب أهمية العلوم باعتبار قربها أو بعدها من الدين؛ فعلق بالذهنية الإسلامية أن المعارف فيها الكافرة والمؤمنة أو بالأحرى التي تؤدي إلى الكفر أو إلى الإيمان – وأخاف أن أقول أن الأمر لازال مستمرًا ولو بشكلٍ أخفّ مع مشروع إسلامية المعرفة –.
والمالكية جمدوا التفكير والإبداع الإسلامي بالقول: “لا يجب الكلام إلا فيما تحته عمل”، – والفلسفة وغيرها ربما ليس تحتها عمل – فعلوا ذلك لأنهم علموا أن أهل بعض البلاد ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل،ينظر باب ما يكره فيه المناظرة؛ فتتابع النهي في التأليف في هذه المسائل بعناوين توضح تحامل أصحابها على العلوم العقلية مقابل صحة وصلاحيّة العلوم النقلية كما فعل ابن قدامة المقدسي [ت 260هـ]: “تحريم النظر في علم الكلام” وشيخ الإسلام الهرويّ الأنصاريّ [ت481هـ] “ذم الكلام وأهله“، وابن الجوزية [ت 597هـ] في “تلبيس إبليس“…، فالعقل المسلم قد خاض حربًا ضروسًا بينه وبين نفسه في تحديد أيهما الأسبق فالأصحّ ثم الأصلح، النقل أم العقل؟ إلى اليوم لم يتمّ الحسم – بعد – في الجغرافية الفكرية والفقهية الإسلامية في هذه القضيّة وهي الوحيدة ربما المفتوحة للبحث…، فلكل فرقةٍ مستند تبين وتستمد منه قوّتها للدفاع والمحاججة؛ فالنقل وما تعلّق به من علوم حسب الشيخ ابن تيمية هو ميراث النبوة والعلم النبويّ الموروث هو الذي يستحق أن يسمىٰ علمًا وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا وإما أن لا يكون علمًا وإن سُمي به، و لئن كان علمًا نافعًا فلابد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، ينظر مجموع الرسائل الكبرى. فهذا علم يجب أن يصان ويحفظ خلاف غيره، ولا يجب أن يقع تداخل فيما بينها ربما حتى لا تنسى الأمة عقليتها النقليّة وضرورة استمرار وجودها في التاريخ، أو ربما لأن أهل النقل والحديث في التدين والأخلاق غير أغلب المشتغلين في المنطق والفلسفة الذين رقّ دينهم وضعف يقينهم، متطلّعون إلى التميز عن الأقران والأشباه، وأظهر علومًا ليثبتوا بها قدمًا في الحذق فنزلت بهم القدم، فاتّسع عليهم الخرق، فزلّوا وأزلّوا، مزجوا الشرعيّات بالعقليّات والمنتحلون له، أعداء الاسلام والأنبياء”، بحسب فتوى الشيخ شهاب الدين عمر السهروردى؛ [ت 632هـ] في كتابه: “كشف الفضائح اليونانيه ورشف النصائح الإيمانيه”.
ربما نختم هذه المقالة التي تعري بعض ما كان في تاريخنا العربي والإسلامي من محاكم تفتيش في العقائد ومقالات الإسلاميين، بحيث – ربما – سيتأكد للقارئ الكريم أن أيّ حضارة إنسانية مهما بلغت من ريادة وتعظيم للعلم والعلماء حدًا؛ فلابد لها من ثغرات وعورات تعتريها كما أمر حضارتنا العربية – الإسلامية؛ فكل العيب أن نغمض عنها الأعين أو نتحيز لغيرها من الفترات الزاهرة التي نستشهد بأنها فترات ناصعة في حضارتنا أو نقول أنه هكذا كان جيل فلان أو علان؛ ليعاد تنميط الناس والتاريخ دون أن نستوعب مجرياته ونعتبر بدرسه وصيرورته، وأظنه من العلمية أن ننظر نظرةً شموليةً وموضوعيةً فاحصةً لكل موضوعاتنا ولوقائعنا، وهو الذي أملى ما كتبته من أسطر، فكثرة المسلسلات التاريخية أو الدينية التي تَقُص من التاريخ فترةً مزدهرةً كان فيها النصر والرخاء والعدل لتعرضها على المشاهدين لتقنعهم أن جلّ ما مر من مراحل تاريخ الأمة كان بالفعل مميّزًا أو يجب أن يعاد صياغته في الحاضر ربما فيه نظر ونقاش…، كما تنبّهت لذلك الانفصام الذهني – عن الذات والتاريخ – الذي يقع فيه بعض المشايخ أو الوعاظ خاصةً عند الحديث عن تاريخ التخلف وعن فضل العلم وتعظيم العلماء ثم تذكرهم لتاريخ ازدهار المعرفة في بلاد الإسلام.. فينكرون حدوث القتل ومحاكمة العلماء وحرق الكتب في الساحات العمومية، فيتحدّثون مقاربين الموضوع – بدون وعي ربما – من تاريخ القروسطوية الأوروبية الدموي أو حتى بالعودة لتاريخ أوربا القديمة؛ فيذكرون المشاهدين بأيام سقراط وأرسطو وبرونو الإيطالي وجاليليو وجان دارك وسبينوزا وغيرهم، فيعددون محاكم التفتيش التي شهدتها أوربا بدءًا بمحكمة التفتيش المقدسة بروما الى محكمة التفتيش الملكية باسبانيا..
فيقومون بإسقاط كل فترات التاريخ الإسلامي المرة – والتي يجب أن يربط مرها بحلوها – بدون وعي، فينسون بأنهم يتحيزون لذاتهم الإسلامية فقط، ثم للجوانب المضيئة فيها، فيزكون ويستبشرون ويبشرون المشاهدين بعودة ذلك العهد، وينسون أن التاريخ حافل بالغث والسمين، وأن وقائعه وأحداثه الناصعة أو المظلمة ترمي بظلالها اليوم علينا، فقبل أن نتحدث عن جيل صلاح الدين وانتصاراته وعدل عمر بن عبد العزيز ورخاء وازدهار الترجمة في عهدي المأمون والرشيد وزهد ابن تاشفين واتساع حكم المنصور وفتوحات طارق بن زياد وعبد الرحمان الداخل وانتصارات المماليك..يجب الحديث أيضًا عن ظلم الحجاج ويزيد وأبو مسلم الخراساني وأبو جعفر المنصور وغيرهم، ممن ذكرهم التاريخ أو نسيهم، ونحكي عن قتل المفكرين والفقهاء والحكماء من طرف السلطة أو بعض وعاظ السلاطين أو العوام الرعاع، بدءًا باغتيال الخلفاء الراشدين مرورًا بوقائع ذبح أو شنق كل من: سعيد بن جبير والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي وزيد بن علي ومعبد الجهني وجهم بن صفوان وابن جرير الطبري و المروزي والحلاج والسهروردي… ثم متابعة ومحاكمة كل من أبي حنفية ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والشافعي وذو النون أبو العباس ابن العطاء وابن عربي والنسائي والنووي وابن تيمية وعبد القادر الجيلاني وابن حزم والغزالي وابن رشد وابن الخطيب…
ويذكر التاريخ أن بعض العلماء نبش قبرهم أو منع دفنهم في مقابر المسلمين لمجرد الاختلاف معهم في قضية فقهية أو سياسية مّا، فمثلاً أبوحنيفة النعمان؛ اتهم بالكفر، والارتداد واعتقل وحبس وعُذِّب وسُمِّم فمات في سجنه، ثم حفر قبره ونبش وأحرق ودفن كلب في قبره، ثم جعل مرحاضًا في بغداد وأعلن وقتها أن كل الأحناف كفار، والإمام البخاري؛ رُمي بالكفر وشهد ثلاثة آلاف عالم دين على كفره ونفي حتى دعى الله أن يريحه بالموت؛ فوصولاً إلى تاريخ القتل والتضييق والقتل المعاصر بتسميم الكواكبي وطرد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتصفية حسن البنّا والنقراشي وسيد قطب وحسين الذهبي… وغيرها من وقائع تاريخ امتنا المعاصر بالمشرق والمغرب الذي يكاد يكون مركبًا وحافلاً بقضايا منع الرأي وإسكات الأصوات ولو قهرًا، قديمًا وحديثاً؛ لذلك لا يجوز دائماً أن نكثر النظر للجوانب المشرقة منها مخافة أن نصدم بما قد نكتشفه، كما لا يجب التحيز لجانب مشرق دون اعتبار لجوانب أخرى، والاعتراف بأن الأمة بني ماضيها وحاضرها بجهد بشري نسبي يعتريه التقصير كما يظهر عليه التألق والإشعاع في أوقات أخرى.
إن التنبه لتاريخ الأمة الكلي بدون تجزئته في وعينا وسلوكاتنا وممارساتنا وأخلاقنا اليوميّة، يعني بضرورة أننا نعي أن أغلب ما يحدث في عالمنا المعاصر من انتكاسات أخلاقية وعقدية ومآزق حضارية وثقافية ونقاشات لمباحث فارغة؛كان مما ورثناه في المعرفة والبحث عن علمائنا أولاً، ثم مما جناه علينا بعض الحكام – غفر الله للجميع – في السياسة والفكر والفقه والاعتقاد؛ فإذا أضفنا لتلك التراكمات ما نتج عن جهدنا المنهجيّ المضطرب في الاجتهاد والتجديد والتنوير والتحديث..، فيترجم ذلك اليوم بأن الأمة المحمدية ستعيش تحت ظلال التخلّف والاحتراق بنار الجمود – إلى ما شاء الله–، وهذا مما لا يجب في حق أمة أقرأ، أمة الشهود الحضاري والخيرية والدعوة العالميّة.
(*) باحث في الحوار الديني والحضاري جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال – المغرب.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو – يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33