الأدب الإسلامي
بقلم : معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر / الرياض
وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السعودي
يحتاج الجسم لينمو وليبقى صحيحًا معافىً إلى الحركة، والحركة رياضة، والرياضة أنواع، منها ما يقصد لذاته، ويزاول بطريقة يُتفق عليها، وعلى فائدتها ووقتها، وتتفاوت مزاولتها بين الصغير والكبير، ومنها ما يأتي عفوًا وطبعًا، كالمشي والعمل بأنواعه وحركاته.
وإذا كان للجسم هذه الرياضة، وإذا كان لهذه الرياضة هذه الفائدة، وهي نمو الجسم وصلاحه؛ فما هو نصيب العقل والذهن من الرياضة حتى ينمو وينشط، ويؤدي العمل الجليل، والدور الخطير الذي هيّأه الله له، والذي يعتمد عليه الجسم كله، يتأثر به قوةً وضعفًا، وصحةً ومرضًا، وسعادةً وشقاءً، وراحةً وتبعًا؟
إن للذهن عدة أنواع من الرياضة، ولعل حصرها صعب، وأقرب لأن يزل الإِنسان لو حاوله، أو تصدى له. ولكن هناك أمورًا واضحةً، ومعروفًا أثرها، وأولها التعليم في إطاره العام، ويدخل ضمن أجزائه فهم المعلومات، والتعمق فيها، ومتابعة زيادتها، والحفظ للنصوص التي يستوجب الأمر ألا يُكتفى بمعناها مثل القرآن الكريم، والحديث، والشعر والخطب، والحكم والأمثال، والمعادلات في الرياضة والعلوم. وقد لُوحظ أن من يحفظ القرآن لا يصاب بخرف الشيخوخة، لنشاط الذهن في ترداد القرآن، حتى لايُنسى، ولنظرة الله – سبحانه وتعالى – إلى هذا الوعاء الخيّر النبّيل، وهو الإِنسان الحافظ، الحريص على عدم ضياع شيء من هذه الثروة العظيمة التي حباه الله بها.
ولا يقول قائل إن فائدة الحفظ في هذا يتساوى فيه الشعر والخطب مع القرآن؛ فكله حفظ، وأداته واحدة هي حيز محدد في العقل. لا، إن الفرق كبير، في الحفظ نفسه وفي الشعور النفسي؛ فالقرآن يتحتم على الحافظ ترداده في كل مكان طاهر، وحفظه للحافظين متساوٍ وواحدٌ، لايختلف فيه شخص عن آخر، أما الشعر والخطب فما يعجب منها حافظ قد لا يعجب آخر، وما يعجب المرء اليوم قد يجد أحسن منه غدًا، وقد يعجب المرء بنوع من الشعر يختاره من هنا ومن هناك. وفي القرآن ميزة أنك كلما قرأته تبيّن لك أمرٌ لم يتبين لك من قبل، إما في الصياغة أو في المعنى، أو في نحوه، أو في مبناه، أو في مقارنة بين آية وآية؛ فذهنك في تجدد معه إلى الأفضل لك، والأفود لدينك وخلقك، والزيادة في إيمانك بربك وبما أنزل.
الأمر النفسي، وهو مهم، هو شعورك في أنك في قراءتك للقرآن، في عبادة، وفي أمل الأجر والثواب، وأنك في تبتل: جالسًا أو سائرًا أو مضطجعًا أو راكبًا؛ وسواء كنت على الأرض أو طائرًا في الجو. وأنت بقدر ما تتحرج من قول الشعر في المسجد، وصمتك عنه عندما يؤذن المؤذن؛ فأنت مع القرآن في بهجة وأنت تقرؤه، ولعل قراءتك القرآن وأنت في عمل تنزل البركة فيه، وتنزلها في طعامك وأنت تأكله.
هذه بعض الأمور التي يتمدد معها العقل وينمو، وينشط ويؤدي عمله على الوجه الأكمل في حدود ما هيأ الله لصاحبه، أما بعض الأمور الجزئية التي اختارها بعض المفكرين لرياضة أفكارهم، وتقوية عقولهم، أو اختبارها، ومعرفة مدى ما وصلت إليه، أو محاولة كشف ضعف بعض العقول؛ فهي التي اخترنا نصوصها لهذه المقالة، وبعضها أقرب إلى الألغاز، وليس اللغز ببعيد عن أن يحتل مكانًا متقدمًا في رياضة الفكر وتحريكه .
ومن النصوص التي لم تقصد لزيادة المعلومات، وإنما جاءت للتّسلية، وتزجية الوقت. والقضاء على الملل، وقد لايخلو الأمر فيها من إضمار اختبار مقدرة الآخرين في ميدان عكس الجمل؛ وسرعة الرد والبديهة مراعاة في هذا؛ بل لعلها العنصر المهم، إن لم تكن هي العنصر المقصود أصلاً؛ والمبارزة الآتية قامت بين أديبين فاضلين، لهما باع طويل في الفكر والأدب، ولهما شهرة واسعة في الكتابة والبلاغة:
“كان بين محمد بن محمد، المعروف بالعماد الأصفهاني وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يومًا، وهو راكب على فرس، فقال له:
“سر فلا كبابك الفرس”.
فقال له الفاضل:
“دام علا العماد” .
وكلا القولين يقرأ عكسًا وطردًا”.(1)
هذا الترف الفكري لايمكن أن يتمتع به إلا أديب متمكن، ذو عقلية نادرة، وقد تقلّ صعوبة الإتيان بمثل هذا إذا أعطي الإِنسان وقتًا للتفكير، وفرصةً للتجهيز، والمحو والإثبات، وتبديل الصيغ؛ أما أن يأتي القول بمجرد رؤية هذا راكبًا فرسًا؛ فيرد عليه هذا في اللحظة نفسها بهذا الرد المتقن، ولم يكن جمال الرد في صورة الكلمة وهي تضمينها اسم العماد المتكلم، وإنما في معناها، وهل أكمل من أن يدعى للإِنسان، وهل أجمل من الرد بالدعاء على الدعاء؟!
وفي النص التالي أمر، وفرض لهذا الأمر من كبير إلى من تحته، والأمر محدد، وصعوبة التحديد أنه لايتناسب مع خطورة التنفيذ:
أمر الحجاج ابن القرّيّة أن يأتي هند بنت أسماء؛ فيطلقها بكلمتين، ويمتّعها بعشرة آلاف درهم.
فأتاها؛ فقال لها: إن الحجاج يقول لك: “كنت فبنت، وهذا [كذا] عشرة آلاف متعةً لك”.
فقالت: قل له: “كنّا فما حمدنا، وبنّا فما ندمنا، وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي”.(2)
لاندري هل ابن القرّيّة عرض الكلمتين اللتين اختارهما استجابةً لأمر أميره على الحجاج، وأخذ موافقته عليهما، أو أنه لم يفعل، واكتفى بحسن اختياره، وبدقة مرمى الكلمتين، وأدائهما الهدف الذي رمى إليه الحجاج.
أما ردّ هند فمتقن وقد ركّبت على كل كلمة من الحجاج كلمةً منها؛ فما زادت على قوله إلا بما أضافت مثله من قولها ردًّا مكافئًا، وفاجأت الإثنين بإعطائها مبلغ المتعة للرسول، مكافأةً له على تبشيره لها بالطلاق الذي فرحت به، وسرَّها وقوعه.
هناك ظل شك على القصة كلها، وهذا إذا تأكد يجعل القصة مبتدعةً ومخترعةً، قام بوضعها أديب أعطى فكره حصةً رياضةً، قام بها بتسجيل فكرة طريفة طرأت على باله أوحاها عداؤه للحجاج؛ لأن اللطمة قصدت له، والا ففاطمة رابحة بالطلاق من الحجاج الذي لايُقْبَلُ في نظر الأديب الناحل جليسًا فكيف به يُتزَوّج، وابن القرّية رابح؛ لأنه وفق لإِيقاع الطلاق بكلمتين اثنتين، ليس بينهما حرف عطف أوجر، وهي بلاشك، مقدرة من الأديب الذي وضع القصة.
ونحن لاندري ما هي الحكمة التي أرادها الحجاج من اختصار الكلام في أمر مهم كهذا، وإن كان هدفه منع رسوله من أن يقول ما قد يوحي لها بالاعتذار، أو تأخذ منه رائحة تبجيل أو تقريظ، خاصةً إذا أراد ابن القرّيّة أن يتقرب منها على حساب الحجاج؛ فكان بإمكانه أن يحدّد له القول الذي يؤدي غرضه؛ والحجاج لايعجزه ذلك، وهو من عرف بالفصاحة، وحسن المنطق، وهو صاحب الخطب الرنّانة، والأقوال المؤثــّرة. لقد نسي صاحب القصة هذا الجانب، ولم يأت بخلده أنه سوف يكون هناك بعد قرون من يتساءل هذا التساؤل!
وإذا كان الحجاج، لغرض أو آخر، قد أعطى أمره فعلاً؛ فإنه قد فكّر فيه طويلاً، وابن القرّيّة مثله كذلك قد أهمه الأمر؛ فقلبه على جوانبه، حتى وصل إلى الصيغة التي اطمأن أنها تنطبق على ما في ذهن الحجاج، وتؤدي الغرض؛ لكن “هند” أمرُها مختلف؛ فما بالها تزن قولها بميزان الذهب، وهي المرأة المجروحة في هذه اللحظة بالطلاق؛ ودع عنك ما أظهرته؛ فالطلاق للمرأة أمر عظيم؛ إن الواحدة منهن تحاكم زوجها شهورًا لتحصل على الطلاق، بعد معاناة شديدةٍ، ومكابدة معه متناهيةٍ؛ ولكنها عندما يصدر القاضي حكمه تنفجر باكيةً بعاصفة من البكاء، وسيل من الدموع؛ لأن كلمة الطلاق أيقظتها من سباتها، ونبّهتها إلى وضعها الجديد.
إن ظل الشك الذي بدأ في أول القصة أكده موقف هند هذا، وأن الهدف من القصة أصلاً هو هذا الجزء الذي يؤكد أن الطلاق وهو أبغض الحلال عند الله كان أحب شيء إليها، وألصق بقلبها لسوء الحجاج، وسوء عشرته، وهو ما حرص القاص على إبرازه، وقد نجح في السبك؛ فقصته بقيت حيّةً تتداول إلى اليوم، ولن يضيرها شكّنا فسوف تبقى في التداول ما دام هناك من ينظر إلى الحجاج نظرة عداء.
ويزيد الأمر شكاً أن هذا النسق لازم الحجاج، وجاء كأنه أسلوب اختاره، ونهج اختطّه، ومن يعرف الحجاج وجده يزيد شكّه، ويرجح أنه أسلوب الكاتب الذي تميّز بهذا النهج، واتخذه منهجًا يسير فيه، سواء ركبه على الحجاج في طلاقه هند، أو في زواجه بها؛ لأن هناك نصًا قيل إنه عن زواج الحجاج بهند بنت أسماء هذه، استعمل فيه الأسلوب نفسه، ووسّط فيه أيوب بن القرّيّة نفسه؛ فهو غراب البين في الأولى، وحمامة السلام في الثانية:
قال الحجاج لأيوب بن القرّيّة:
“أخطب عليّ هند بنت أسماء، ولا تزد على ثلاث كلمات” .
فأتاهم، فقال:
“أتيتكم من عند من تعلمون، والأمير معطيكم ما تسألون، أفتنكحون أم تردّون؟”
قالوا: “بل أنكحنا وأنعمنا”.
فرجع ابن القرّيّة إلى الحجاج فقال:
“أقر الله عينك، وجمع شملك، وأنْبت ربعك؛ على الثبات والنبات، والغنى حتى الممات، جعلها الله ولودًا ودودًا، وجمع بينكما على البركة والخير”(3).
لقد أحاط ناحل القصتين بالأمر من جانبيه، فزوج بثلاث كلمات، وطلق باثنتين، وجاء الإِنكاح بثلاث جمل والطلاق بكلمتين فقط، ولعل القاص تمرن فيما بين الوقتين، فأجاد الاختصار بعد التمرين!!
وهب بن منبّه رجل مطلع على كتب الأولين، وكثيرًا ما يروي يعض مواعظهم ويتكلم عن أمثالهم وحكمهم، ويقص آثارهم، ومن النص الآتي الذي رواه وهب بن منبه هو أن رياضة الفكر كانت قديمةً، ولا يستغرب هذا؛ فالفكر قديم، ومستلزماته مثله، وقدمه بقدم الإِنسان. ومع رياضة الفكر التي جاءت بها صورة النص جاءت الموعظة مجهمةً مكبرةً، وهذا هو الذي أعطى النص قوته:
“قال وهب بن منبّه:
صحب رجلٌ عالمًا سبع مئة فرسخ، ثم سأله عن سبع كلمات:
قال له:
أخبرني عن السماء، وما أثقل منها؟ وعن الأرض ، ما أوسع منها؟ وعن الحجر، ما أقسى منه؟ وعن النار، ما أحرّ منها؟ وعن البحر، ما أغنى منه؟ وعن اليتيم، ما أضعف منه؟ وعن الزمهرير، ما أبرد منه؟
فقال الحكيم:
البهتان أثقل من السماوات؛ والحق أوسع من الأرض، وقلب الكافر أقسى من الحجر؛ وقلب القانع أغنى من البحر، وجشعة [كذا] الحريص أحرّ من النار؛ ونمائم الوشاة أضعف من اليتيم؛ واليأس من القريب أبرد من الزمهرير”(4).
وتأتي رياضة الفكر في النصّ الآتي، سواء صح أو لم يصح، والشك يأتي من إنعدام الهدف من لجوء الخليفة إلى هذا الأسلوب في مخاطبة ولاته، ولا يأتي الإِلغاز والرمز إلا في الأمور السرّية التي يخشى أن يطلع عليها من أبهمت عنه حتى لا يفهمها فيما لو وقعت في يده، أما مدح عبد الملك للحجاج، وأنه جلدة ما بين العين والأنف؛ فأمر معروف عن عبد الملك في الحجاج، وليست هذه هي المرة الأولى التي يقولها عبد الملك، وقد أعلنها، وكأنه حريص على نشرها؛ ولهذا فيستغرب أن يلمز إليها في خطابه للحجاج، مما جعل الحجاج في حيرة، وعبد الملك والحجاج في حاجة إلى وقتهما لمقابلة أمور الملك، ومشاكل الإمارة، لا الركض وراء حل نصوص مبهمة.
ولو كان الإِلغاز في مجلس سمر لقبل، على أنه من جملة ما يقتنص للتسلية، وقتل الوقت، أما أن يبعث من الشام إلى العراق بخطاب يفتح، ويقرؤه الكاتب، ويحفظه الحافظ؛ فأمر يستبعد:
“كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج:
أما بعد: فإِنك سالم والسلام”.
فلم يدر [الحجاج ما القصد]، فنبّه على أنه أراد قول عبد الله بن عمر بن سالم:
يديرونني عن سالم وأديرهم
وجلدة بين العين والأنف سالم”(5)
الفكرة طريفة، والملوم في تركيب القصة بهذه الصورة هو البيت؛ فهو الذي أوحى بالفكرة، ونبّه إلى أنه يمكن أن يركب عليه قصة، خاصةً وأن هناك قصة تروى عن الوليد عن عبد الملك في أن الحجاج جلدة ما بين عيني عبد الملك.
قالو الوليد بن عبد الملك: كان أبي يقول:
“الحجاج جلدة ما بين عينيّ، وأما أنا فأقول:
الحجاج جلدة وجهي كله”(6).
وأن تكون القصة من اختراع أديب، أو ثمرة فكر كاتب، ركبها على عبد الملك والحجاج؛ فهذا لا يقلل قيمتها عند الحديث عن رياضة الفكر، وكل ما هنالك من اختلاف، أن الرياضة تحولت من الحجاج إلى ذهن مخترعها.
هذه أمثلة لبعض ما أحببت أن أستشهد به على رياضة الفكر في بعض كتب التراث، وهي مظهر من مظاهر الفكر في ذلك الزمن، وهذه النصوص قليل من كثير تطفح منه كتب التاريخ والأدب، ولا تكاد تحصى، وهي متشعبة، وتأخذ جوانب متعددةً في رياضة الفكر؛ فللأدباء قسطهم، وللفقهاء قسطهم، وللنحاة قسطهم، وللشعراء قسطهم؛ حتى العامة لهم في رياضة الفكر قسط.
* * *
الهوامش:
- معجم الأدباء: 9/18.
- عيون الأخبار: 2/228.
- عيون الأخبار: 3/78.
- ربيع الأبرار: 1/703.
- ربيع الأبرار: 1/459.
- ربيع الأبرار: 1/497.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1430 هـ = أبريل 2009 م ، العدد : 4 ، السنة : 33