إلى رحمة الله
في نحو الساعة الخامسة والنصف قُبَيْلَ الصبح الصادق من الليلة المُتَخَلِّلة بين الاثنين والثلاثاء: 26-27/ محرم 1429هـ الموافق 4-5/ فبراير 2008م استاثرت رحمةُ الله تعالى بالشيخ الصالح المُرَبِّي السيّد أنورحسين نفيس الحسيني بمدينة “لاهور” بباكستان عن عمر يناهز 75 عامًا بالنسبة للأعوام الميلاديّة و 78 سنة بالقياس إلى السنوات الهجريّة . رحم الله رحمته أولياءَه المتقين وعبادة المقربين .
وقد كان رحمه الله آخر الرجالات المتخرجين في التزكية والإحسان على الشيخ الكبير عبد القادر الرائبوريّ السهارنبوريّ رحمه الله (نحو 1290-1382هـ = 1873-1962م) كان مُثُقَّفًا بالثقافتين الشرعيّة والعصريَّة، وما تَخَرَّجَ في مدرسة أو جامعة إسلاميّة “عالمًا” بشكل مُنْتَظِم ؛ ولكنّه لاَزَمَ العلماءَ والصلحاءَ فتثقَّف في صحبتهم ، وتعلَّم من أحكام الدين وشرائعه مالايقلّ عما يتعلّمه “العالم” المُتَخَرِّج في مدرسة أو جامعة دينيَّة ؛ بل فاق كثيرًا منهم في تشرُّب روح الدين وآداب التقوى والإنابة إلى الله ، حتى تخرّج عالمًا ربَّانيًّا وصالحًا مصلحًا.
وكان يقول الشعرَ الرائعَ بالأرديَّة في المديح النبويّ، وكان مجاهدًا عاش حياتَه في مكافحة الحركات والدعوات الهدَّامة وعلى رأسها “القاديانيّة” التي جَاهَدَ في سبيل محاربتها جهادًا كبيرًا، مع كبار العلماء والقادة الدينيين في باكستان؛ فقد كان نائب أمير لعموم باكستان في هيئة صيانة ختم النبوّة، وكَرَّس جهودَه لوأد هذه الفتنة العمياء التي بذرها الاستعمار الإنجليزي لتشتيت شمل المسلمين ونخر الكيان الإسلاميّ في هذه الديار.
وإلى جانب ذلك كان إِمام الخطَّاطين في عصره، كان يجيد جميع الخطوط العربيّة إجادة بالغة. أما خطُّ النستعليق الفارسيّ الأرديّ بصبغته اللاّهوريّة فكان فيه – حقًّا – منقطعَ النظيرَ في عصره في العالم كلّه . وكذلك خطُّ الثلث العربيّ الذي كان يتقنه إتقانًا لايدانيه فيه أيّ خطَّاط في العالم العربيّ. وكانت خطوطُه كلها تأتي رائعة تجمع بين الدقة والتنسيق بشكل فريد كلما وقع عليها نظرُ القارئ المتذوِّق للفنّ والجمال يكاد يطير فرحًا ويرقص طربًا ويهتزّ نشاطاً، ويكاد لسانُه لايتوقّف عن الإشادة والتحبيذ والتسبيح بحمد الله الأحد الصمد الخلاّق العظيم الذي قد يجعل القلم والفرشاة والمرسام في أيدى بعض عباده كالشمعة يصنع به مايشاء، ويوظّفه كيفما يريد، وكأنّه جسد ذوروح يتحرك بالإرادة .
كلّما قرأتُ لوحةً بخطّ يده أو عنوان كتاب أو أبياتًا بالأرديّة أو الفارسيّة بخطّ النستعليق الذي كان يجعله سحرًا قاهرًا للعقول والقلوب، وقفت عندها طويلاً وتركّزت عليها عيناي بحيث لم تنحسر عنها لوقت كاف وكدت أعكف عليها لولا ما اضطرَّني من الأشغال الرتيبة والأعمال الملحة التي تجعل الإنسان يتخلّى عن إشباع كثير لذيذ من رغباته.
في بداية سنوات تدريسي بدارالعلوم ندوة العلماء بـ”لكهنؤ من عام 1973م وقع نظري على أبيات بالفارسيّة في الثناء على فضل وصلاح الشيخ الكبير المحدث المربّي رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (1244-1323هـ = 1829-1905م) زميل الإمام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله (1248-1297هـ= 1832-1880م) مؤسس الجامعة الإسلاميّة الأمّ في شبه القارة الهنديّة دارالعلوم بمدينة “ديوبند” الشهيرة في العالم، كانت مكتوبة بخطّ يد الشيخ الفقيد السيد نفيس الحسيني رحمه الله على صفحة كاملة في مجلّة أرديّة صادرة بباكستان. وكان الخطُّ خطَّ النستعليق الفارسيّ الذي اسْتُعِيْرَ لكتابة الأرديّة أيضًا فصار خطّاً أرديًّا كذلك. فما وسَعَنِي إلاّ أن قصصتُ الصفحةَ من مكانها في المجلة، وأَطَّرتها بإطار ثمين جميل، وعَلَّقْتُها في غرفتي على الجدار في مكان عالٍ تقع عليه عيناي وعيون الزُّوَّار كل وقت . وحَدَثَ أني رأيتُ في المنام طالبًا سليمَ الطبع كان يدرس عليّ بعضَ الموادَّ التي كانت مُسْنَدَةً إليَّ للتدريس ضمن المنهج الدراسيّ لدارالعلوم لندوة العلماء، يدخل عليَّ بطبق فيه رُزٌّ مطبوخ مدقوقًا مع الحليب والسكّر يقال له بالأردية “فِيْرِيْنِي” (Firini) وهو مأكول نصفهُ من جانب، ويقول لي: كان قد نزل بي فضيلة الشيخ الكبير المحدّث المربي رشيد أحمد الكنكوهي، فصنعتُ له هذا اللون من الطعام، فأصاب منه ماشاء، وأمرني أن أقدم الباقي توًّا إليكم، فها هو ذا. فتناولتُه وسُرِرْتُ جدًّا. وصحوتُ من النوم وكنت مسرورًا وسعيدًا جدًّا بهذه الرؤيا في المنام. وأيقنتُ أن ذلك من أجل ما عَلَّقْت هذا الإطارَ المشتمل على الأبيات التي قيلت في الإشادة بصلاحه رحمه الله.
ومن حسن حظّي أنني سعدتُ فعلاً بلقيا الشيخ نفيس الحسيني لدى إحدى قدماته إلى دارة الشيخ علم الله الحسني رحمه الله بقرية “تكية كلان” وطن سماحة الشيخ السيّد أبي الحسن علي الندوي رحمه الله (1333-1420هـ = 1914-1999م) ، فقد جاء من باكستان يزوره؛ لأنّه كان يحبّه كثيرًا لكونه أخاه في تلقي التربية من الشيخ المربي عبد القادر الرائبوري السهارنبوريّ رحمه الله، وكان يحبّ جهاد ونضال الشيخ الكبير الإمام أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله (1201-1246هـ = 1786-1831م) وجميع المنتمين إلى حركته الجهاديّة وأسرته الكريمة وكان الشيخ الندويّ من أسرته ومؤلف ترجمته الضافية.
رأيتُه فأعجبت به إعجابًا كبيرًا؛ لأنّه كان فوق ما سمعت وتصوّرت أبيضَ مُشْرَبًا بالحمرة، نحيل الجسم، طويل القامة، مثالاً للتواضع والانكسار، غضيض الصوت، يخزن لسانه إلاّ فيما يعنيه، ورأيتُ فيه أوَّلَ فنَّان إمام في فنّه لايحبّ التظاهرَ، وفرضَ الذات؛ وإلاّ فإنَّ كلَّ فنّان – خطَّاطاً كان أو مُقْرِئًا، أو أديبًا، أو شاعرًا، أو مُوْسِقِيًّا، أو مُطْرِبًا، أو لاعبًا، أو رسَّامًا، أو مُصَوِّرًا، أو… – يحبّ الشهرة للغاية؛ بل يودّ أن يُطَبِّق صيتُه أكثرَ من تضلّعه من فنّه. أما التواضعُ وإنكارُ الذات فلا يعرف له معنىً، ولايمسّه من قريب أو بعيد.
ولكن الشيخ نفيس الحسيني لحدّ علمي ومعرفتي كان الوحيد الذي وجدتُه لم يجعله تمكنُّه من فنّه كلَّ التمكن أن يُعْجَبَ بنفسه ويدل بفنّه . مما يدلّ أن التربية الدينيّة قد هَذَّبتْه حقّ التهذيب، وأنه عرف معنى العبوديّة لله، وتَذَوَّقَها للحدّ المطلوب، ونال منها الحظَّ الأوفَر.
وامتلاكُه ناصيةَ فنِّ الخطّ جَعَلَ المالَ يتوفَّر عليه ويتوثـَّب إليه، ولكنّه ظلّ زاهدًا فيه لم يأخذ منه إلاّ بالقليل الذي يعيش به وربّما كان يكتب للعلماء والصالحين وذوي المدارس الدينية ما يحتاجون إليه دونما مقابل، وإنما كان يقبل المكافأةَ من عامّة الناس وأصحاب المكتبات التجاريَّة الذين في الأغلب لايهمّهم الدين وإنما يهمّهم الاستثراءُ.
وكم تمنيتُ أن لو تمكنت من التوصّل إليه ليكتب لي بعضَ ما أودّ أن يكتب لي بخطّ يده وعلى رأسه كلمة “الداعي” بخطّ الثلث العربي وبخطّ النستعليق الفارسيّ الأرديّ بالأسلوب اللاهوري؛ ولكن تباعد المسافة بيني وبينه ظلّ يحول دون الأخذ بالأسباب التي تجعل أمنيتي تتحقق ؛ فاكتفيت بـ”الداعي” بالخطّ الفارسي الأرديّ بالصبغة الدهلويَّةَ ، وقد كتبها لي الخطاط الهندي الشهير خليق الطونكي رحمه الله (المتوفى 1415هـ/1994م) الذي كان دونه حقًّا في التمكن من الفنّ . وهذه اللوحة هي التي تطلع كلَّ شهر على الغلاف الأوّل من مجلّة “الداعي” والتي صارت رمزًا على المجلة يجعلها تُعْرَف من بعيد .
كان مسقط رأسه بلدة “كهورياله” (Ghoriala) المجاورة لمدينة “سيالكوت” بباكستان، وُلِدَ بها يوم السبت 13/ ذوالقعدة 1351هـ الموافق 11/مارس 1933م . وينتهي نسبه عن طريق الشيخ السيّد محمد بن يوسف الحسيني المعروف بـ”خواجه بنده نواز سيّد محمد گیسو دراز” رحمه الله (المتوفى 752هـ/1351م) الذي كان من أتباع وخلفاء الخواجه نصير الدين جراغ الدهلوي رحمه الله (675-757هـ = 1276-1356م) الذي كان من كبار وخواصّ خلفاء الشيخ الخواجه نظام الدين المعروف بـ”سلطان الأولياء” رحمه الله (631-725هـ = 1233-1324م) إلى زيد الشهيد (80-122هـ = 699-740م) ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة .
وكان والده الشيخ السيّد محمد أشرف علي بن السيد بدهن شاه بن السيد محمد شاه الحسيني السيالكوتي (1325-1416هـ = 1907-1995م) أيضًا خطّاطاً كبيرًا، وشيخًا صالحًا، فَرَبَّىٰ ابنه السيّد أنورحسين تربية صالحة خَرَّجته رجلاً صالحاً، وعلَّمْته الخطّاطيَّة، وثقَّفَتْه ثقافةً واسعة نافعةً أفادته وأفادت الخلق.
وكان يحبّ مشايخ وعلماء ديوبند حبًّا كبيرًا، وظلّ على صلة قويّة بهم يزور الأحياءَ منهم ويستفيد بصحبتهم ويتعلّم منهم ويتأدّب بآداب الدين، وكان يعتبرهم منارةَ علم وهدى وعلى صراط مستقيم ، ومتشبثين بأهداب السنّة النبويّة، وجاهدين طاقتهم في نشر الدين وعلومه، والعقيدة الصحيحة، ومنهاجها. رحمه الله وجعل الجنّة مثواه.
محطّات هامّة في حياته
- وُلِدَ يوم السبت 13/ ذوالقعدة 1351هـ الموافق 11/ مارس 1933م ومسقط رأسه قرية “كهورياله” (Ghoriala) بمديرية “سيالكوت” بباكستان .
- اسم والده: السيد محمد أشرف علي الزيدي ابن السيد بدهن شاه بن السيد محمد شاه، المولود في “كهورياله” بمديرية سيالكوت بباكستان عام 1325هـ الموافق 1907م، والمتوفى يوم 30/ ربيع الأوّل 1416هـ الموافق 28/ أغسطس 1995م .
- حصل عام 1366هـ / 1946م على الشهادة الابتدائية من المدرسة الآريّة الثانوية العالية الكائنة بـ”بهوبانواله” بمديرية “سيالكوت” التي اشتهرت فيما بعد بمدرسة جناح الثانوية العالية.
- وحصل عام 1368هـ/ 1948م على الشهادة الثانوية من المدرسة الإسلامية الثانوية العالية بـ”فيصل آباد” بالدرجة الأولى.
- وفي نفس العام بدأ يتعلم تحسين الخطّ من والده.
- عام 1369هـ / 1949م التحق بالكليّة الحكوميّة بـ”فيصل آباد” وحصل على شهادة “إيف إي” .
- عام 1371-1372هـ / 1952-1953م التحق بكلية أورينتل بجامعة البنجاب واجتاز امتحان “المنشي الفاضل” .
- في الفترة ما بين 1371-1376هـ / 1952-1956م عمل خطّاطاً أكبر بصحيفة “نوائى وقت” الأرديّة اليوميّة .
- في عام 1376هـ/ 1956م استقال من الصحيفة وبدأ يعمل خطّاطاً مستقلاً .
- بايع يوم 11/ جمادى الأولى 1370هـ الموافق 4/ ديسمبر 1957م بمدينة “لاهور” الشيخ الكبير الشاه عبد القادر الرائبوري رحمه الله المتوفى 1382هـ / 1962م .
- شغل في الفترة ما بين 1357-1392هـ/ 1956-1972م منصب نائب رئيس جمعية الخطاطين بمدينة “لاهور”.
- وشغل في الفترة ما بين 1392-1398هـ/ 1972-1978م منصب رئيس الجمعيّة .
- في عام 1393هـ/1973م اختير عضوًا في Board for Newspaper Employees.
- في الفترة ما بين 1396-1397هـ / 1976-1977م اختير نائب رئيس (All Pakistan Newspaper Employees Confederation) .
- في عام 1400هـ/ 1980م أكرم بالجائزة الأولى في معرض المجلس الوطني الباكستاني للفنون (Pakistan National Council of the Arts) .
- في عام 1403هـ / 1983م سعد بأداء الحجة الأولى .
- في عام 1403هـ / 1983م أكرم بالجائزة الأولى في معرض الخطّ القرآني لعموم باكستان الذي عقد من قبل هيئة العلاقات العامّة الباكستانية (Pakistan Public Relations Society) بمدينة “لاهور”.
- في عام 1406هـ / 1986م أكرم من قبل الحكومة الباكستانية بالجائزة الأولى على الأداء الحسن (Pride of Performance Award) والميداليّة الذهبيّة .
- في عام 1408هـ / 1988م عين حكمًا في مسابقة الخطاطين العالميّة والمعرض المنعقد بهذه المناسبة بمدينة “بغداد”.
- في عام 1409هـ / 1989م عين حكمًا بمسابقة الخطاطين المنعقدة بإستنبول من قبل لجنة صيانة التراث الإسلامي، وقد نسبت المسابقة إلى الخطّاط الأكبر في التاريخ الإسلامي ياقوت المستعصميّ رحمه الله (المتوفى 689هـ/1299م).
- في ربيع الأول 1421هـ / يونيو 2000م عُيّن نائب أمير لمجلس صيانة ختم النبوة بعد استشهاد الشيخ محمد يوسف اللدهيانوي رحمه الله.
- في 23/ صفر 1421هـ = 30/ أبريل 200م اختير رئيسًا لروضة الأطفال التابعة لجمعية “اِقرأ”.
- في عام 1422هـ/2002م سعد بأداء مناسك الحج والزيارة، وكانت هي حجته الأخيرة.
- في رمضان 1426هـ / سبتمبر 2005م استهلّ تكيّة السيد أحمد الشهيد رحمه الله .
- زار كلاً من الهند وأفغانستان وبريطانيا مرات عديدة . وفي جمادى الثانية 1428هـ / يوليو 2007م زار أوزبكستان .
- خلال زيارته لأوزبكستان أصيب بأذى في أذنه امتدّ إلى أدمغته، وقد توفّر على العلاج وتلقي الدواء ؛ ولكنه ما عوفي منه.
- في نحو الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم الإثنين : 26/ محرم 1429هـ الموافق 4/ فبراير 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى.
- صُلِّي عليه بملعب عتيق على مقربة من المسجد الملكي بمدينة “لاهور” في الساعة الثالثة بعد صلاة الظهر من نفس اليوم. وحضر الصلاة عليه مئات آلاف من المسلمين .
- ووُرِّي جثمانه على مقربة من تكية السيد أحمد الشهيد رحمه الله.
من مُؤَلَّفَاته
برگ گل(مجموعة قصائده) نفائس النبي (مجموعة قصائده في المديح النبويّ) شجرة الأشراف، شمائم گل برگہ، شمائمگیسو دراز، سادات گیسو دراز، قطب سوات، علاقة الحاج إمداد الله المهاجر المكّي رحمه الله الروحانية بالسيّد أحمد الشهيد، حكاية الحبّ والوفاء، قاسم العلوم والخيرات (ترجمة الإمام محمد قاسم النانوتوي مؤسس الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند)، شعر الفراق، مقالات في الخطّ، نفائس القلوب، تاريخ حسيني وذكر مرشدي، ريحان العترة، تلخيص كتاب سيدنا علي والحسين .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32