المسلمون في العالم المعاصر التحديات وعبرة التاريخ والأحداث

الفكر الإسلامي

بقلم :  الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي رحمه الله المتوفى 1422هـ /2002م

      أولت الصحف العالمية الكبرى، وكثير من الهيئات العلمية والثقافية، الاهتمام بشأن المسلمين في العالم المعاصر في العقود الأخيرة التي تتقدم نحو القرن الحادي والعشرين الميلادي، من بين أهم ما توليه اهتمامًا، وذلك نتيجة لعدة عوامل أساسية: أهمها الموقع الجغرافي الخطير بين القارات العالمية الثلاث، وامتلاك عدد من الخلجان والبواغيز التي تتحرك من خلالها الثروة الاقتصادية للعالم كله، فضلاً عن تنامي المسلمين في منطقة غنية بكل المواد الأولية التي لا تستغني عنها الصناعة العالمية خاصة، وأن تعداد المسلمين أخذ يتنامى حتى بلغ حسب آخر الإحصائيات ألف وثلاثمائة مليون يمثلون ثلث تعداد العالم، وهم موزعون على ساحة عريضة تمتد من أرخبيل الملايو إلى الدار البيضاء. هذا العالم الإسلامي الذي تشكل خلال ثمانين عامًا من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم والذي اقتحم أوروبا من ناحيتين: من إسبانيا وجنوب فرنسا ومن بلاد البلقان حتى وصل إلى أسوار فينا خلال تاريخ حافل امتد أربعة عشر قرنًا.

       وقد تنامى الإسلام في دائرتين: (أولاً) من خلال الأزمات الكبرى، حيث امتد إلى جنوب شرق آسيا وإلى قلب القارة الإفريقية على أيدي التجار والدعاة المتجردين، بل لقد استطاع أن يقتحم إمبراطورية التتار المغولية وأن يسيطر عليها فتتحول إلى الإسلام كاملة .

       (ثانيًا) أما الدائرة الثانية فهي تتمثل في قدرة الإسلام على تصحيح مسار المسلمين إذا انحرفوا عن الطريق من خلال رفضه لكل مايتعارض مع تكوينه القائم على التوحيد الخالص، وفي أكثر من موقف استطاع بقدرته الذاتية أن يستعيد المسلمين إلى الأصالة بعد أن تنحرف بهم الطرق حين تعرض عليهم التبعية للأمم الغازية أو المسيطرة .

       ومن أبرز عوامل الاهتمام بالعالم الإسلامي المعاصر تلك الاحصائية التي أذاعتها منظمة الأمم المتحدة والتي تكشف عن أن المسلمين اليوم يشكلون ثلث سكان العالم، وأن الدول التي مازالت تقاوم الاستعمار هي: كشمير وفلسطين وأريتريا والصومال والفلبين وأن عدد الدول التي تسكنها أغلبية مسلمة هي أربعون دولة أما الدول التي يتراوح فيها عدد المسلمين من 30 إلى 40 في المائة من السكان فهي 15 دولة ما عدا روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا) التي يبلغ عدد المسلمين فيها أكثر من أربعين مليونًا والهند 70 مليونًا وفي كل من يوغسلافيا (3 مليون) وتايلاند (3 مليون) وبورما (3 مليون) والفلبين (4 مليون) وفي دراسة قام بها مجموعة من خبراء هيئة الأمم المتحدة نشرت تحت عنوان (الأرقام المتوقعة) لسكان العالم عام 2000 أمكن استخلاص هذه المعلومات التي تفيد المشتغلين بدراسات العالم الإسلامي في العصر الحديث :

       أولاً: يبقى الدور الذي تقوم به الدول النامية في الزيادة الحالية لسكان العالم على وضعه حتى نهاية القرن الحالي إذا أنها ستساهم بـ 85٪ من مجموع الزيادة السكانية للفترة بين 1960-2000 على أية حال من الأحوال.

       ثانيًا: الزيادة السكانية الحاصلة في البلدان النامية هي أكثر من الزيادة الحاصلة في بقية العالم المتطور.

       ثالثًا: الحجم الكلي لسكان البلاد النامية (الشرق الإسلامي) سوف ينمو إلى 72,5٪ وبهذا يمكن القول: إن البلدان النامية في خلال القرن الحالي وحتى نهايته سيتراوح عدد السكان فيها من ثلاثة أرباع إلى أربعة أخماس مجموع سكان العالم، أي أن البلدان النامية (وهي لاتدخل ضمن النظام الرأسمالي أو الشيوعي) ستضم نحو ثلثي سكان المعمورة..آ.هـ

*  *  *

       هذا وقد وضعت في يد العالم الإسلامي ثلاث قوى كبرى هي:

       1- التفوق البشري. 2- الثروة المادية. 3- الطاقة: وصولاً إلى التكنولوجيا الإسلامية.

       وقد روى الامام أحمد بن حنبل في مسنده عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

       ليبلغن هذا الأمر – أي الإسلام – مابلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزًا ويذل ذليلاً، عزًا يعز الله به الإسلام ولا يذل به الكفر. أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لغيره.. آ.هـ

       ولقد جاءت الأديان كلها قبل الإسلام تمهيدًا للدين الخاتم، الذي يمثل عصر رشد الإنسانية، فقد جاء الإسلام حدًا فاصلاً بين عصر وعصر، مما يصدق مقولة بعض الباحثين الغربيين المنصفين عن (الانقطاع الحضاري) فقد جاء الإسلام علامة على مرحلة جديدة تمر بها البشرية لها طابعها الخاص المتميز بالرحمة والإخاء البشري والسماحة والانفتاح على العصر وتقبل كل العناصر والأديان في محيطه حيث استصفى في منهجه خلاصة الدين الإلهي المنزل ليشكل ثقافة عالمية خالصة .

       ومن هنا فإن هذه المرحلة .. مرحلة الضعف والتخلف التي يمر بها العالم الإسلامي هي مرحلة عارضة وليست تطور اطبيعيًا ، وقد مرت هذه الأمة مرات من قبل بمثل هذه الأزمة في مواجهة التتار والصليبيين والفرنجة شرقا وغربا عندما اجتمعت عليها كل القوى لاحتوائها وتدميرها.

       ولكنها كانت تعرف أن الإسلام سيستردها ويبتعثها مرة أخرى من تخلفها إذا ما رجعت إليه والتمسته منهجًا لحياتها ومنطلقًا لوجودها ولقد اعترف الفكر الغربي في العقود الأخيرة بمجموعة من الحقائق لصالح الإسلام:

       أولاً: اعترف بأن أول التاريخ الحديث هو ظهور الإسلام وليس سقوط الدولة الرومانية.

       ثانيًا: اعترف بعطاء حضارة الإسلام للبشرية:

  1. المنهج التجريبي .
  2. منهج المعرفة ذي الجناحين.
  3. قوانين قيام الأمم والحضارات وسقوطها.

       ثالثًا: دخول الإسلام أوروبا سلمًا وامتداده إلى أمريكا وأستراليا وتقديم منهج الإسلام في صورة مجتمع جديد.

*  *  *

       ولقد عاش المسلمون حياتهم خلال أربعة عشر قرنًا بين عامل الاستجابة والتفريط متطلعين إلى المثل الأعلى الذي رسمه القرآن، وطبقه الرسول الكريم، وفي محاولة لإقامة منهج الله تبارك وتعالى على الأرض، ولكن تجربتهم البشرية كانت تصيب وتخطيء وتسدد وجهتها أو تنحرف وكان إغراء عدوهم لهم بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها يخرجهم من الصمود فيأمنوا عدوهم، وقد كانت القوى الخارجية لاتغفل عنهم فقد ولد الإسلام في قلب التحدي من خلال مخططات معدّة تطمع في تدميره والقضاء على أهله وقد أنذرهم القرآن الكريم وحذرهم في أكثر من موضع عن أن يأمنوا في مواجهة التحديات، أو أن يتخذوا بطانة من دونهم أو أن يغفلوا عن ثغورهم ومقدراتهم، وفي أكثر من موقف خلال تاريخهم كان العدو قادرًا على اقتحام ثغورهم وتدمير قواهم وتفريق وحدتهم.

       ﴿وَدَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا لَوْ تَغْفُلُوْنَ عَنْ أَمْتِعَتِكُمْ وَأَسْلِحَتِكُمْ فَيَمِيْلُوْنَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَّاحِدَةً﴾ سورة النساء آية 102 ﴿وَخُذُوْا حِذْرَكُمْ﴾.

       ولقد عمل المسلمون على إقامة مجتمعهم الرباني وحشدوا في سبيل ذلك قواهم ومقدراتهم ولكن التجربة كانت في حاجة إلى الصمود والثبات في وجه الأحداث، ولكن المسلمين سرعان ما كانوا يغفلون ويأمنون فتجتاحهم الأخطار، وتستولي على ما في أيديهم، ولم يكن العيب في هذا راجع إلى المنهج فقد كان المنهج سليمًا ربانيًا محذرًا من الترف والأمن الخادع ومطالبًا بالإعداد والحشد والقدرة على الردع والمواجهة والأخشوشان، ولو وعي المسلمون مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن جند المسلمين في هذه المنطقة هم في رباط إلى يوم القيامة لعلموا أنهم يجب أن يحتشدوا ويرابطوا ويكونوا دائمًا على تعبئة كاملة .

       ولو علم المسلمون من ميراثهم الخالد (القرآن والسنة) أن التماسهم منهج الله تبارك وتعالى هو دائمًا المخرج من الأزمات الكبرى التي تتجمع فيها قوى الخصم لتجتاحهم، وتحاول صهرهم في بوتقة الأممية وأن الإيمان والاستشهاد وبيع الأنفس لله تبارك وتعالى هو المعادل الحقيقي لقوة العدو والمحتشدة، لو علموا ذلك لالتقوا على وحدة الكلمة.

       وتكشف صفحات التاريخ الإسلامي عن هذه الحقائق في بيان ناصع وتعلن في صدق واضح: أن الأزمات تأتي نتيجة تفريط المسلمين في القوة والاستسلام إلى التحلل واللذات العاجلة والترف، وعندها يحتشد العدو ليضرب ضربته الفاصلة كما حدث في سقوط بغداد وسقوط غرناطة وسقوط القدس في الأخير. وهناك عدة أشياء غائبة عن المسلمين أهمها: العودة إلى العزائم والتماس أسباب التمكين وامتلاك أدوات التقدم وتصحيح كثير من الأوضاع الاجتماعية التي دفعتهم إلى الحضارة الغربية، وهي التطلع إلى الترف والمادة والتماس مصادر الحرام، والنزوع إلى الإسراف في المتعة المادية، وتجاهل الخطر المحدق الذي يعمل على احتواء المسلمين ومحاصرتهم والحيلولة دون تمكينهم من امتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم الرباني وتوجيه ثرواتهم نحو بناء قوة اقتصادية إسلامية تكفل لهم استغلال مواردهم فيستقل قرارهم، ولا يكونوا خاضعين لمن يفرض عليهم وجهتهم، ولا يتأتى هذا إلا بالعمل على إقامة وحدة جامعة بين كل العناصر الإسلامية: عربية وفارسية وتركية وهندية تستمد مقوماتها من المنهج الإسلامي الذي يجمع ولايفرق.

       كذلك فالمسلمون في حاجة إلى تأكيد الهوية الإسلامية الجامعة بين الهويات القومية والوطنية في دائرتها الكبرى حتى لايجد خصوم الإسلام ثغرة ينفذون منها وليأخذوا من التاريخ الطويل عبرة وعظة.

       إن غاية ما يقال أن للمسلمين منهجهم الأصيل وأسلوب عيشهم الخاص وإن حاجتهم من الفكر الغربي تقف عند العلوم التجريبية وحدها، هذه العلوم التي شاركوا في بنائها أولاً، وعلى أن ينصهر ما يستقدمونه في دائرة الفكر الإسلامي حتى لايتعارض مع مفاهيم الإسلام وقيمه وخاصة ما قرره الإسلام حول مهمة الإنسان في الأرض من خلال المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي والبعث والحساب والجزاء الأخروي وما يتصل بتوزيع الثروة وبناء الأسرة وعلاقة الرجل والمرأة .

       إن كتابات المفكرين الغربيين الأعلام الذين درسوا الإسلام في الغرب وآمنوا به تكشف تمامًا عن حاجة البشرية إلى نور جديد وليس غير القرآن إلى منهج جديد وليس غير الإسلام منهج الله : المنهج الباقي الخالد الذي يستطيع أن يعطيها على مدى العصور وفي مختلف البيئات وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يعطيها أمان الحياة وأشواق الروح وراحة الضمير.

       إن المسلمين مطالبون بالعودة إلى منهج الله وتجاوز كل العقبات الموضوعة في طريقهم، فإذا عادوا ومكّن الله تبارك وتعالى لهم في الأرض، وإن تقاصروا فسوف يلقون أشد الأزمات حتى يعودوا إلى الحق.

*  *  *

       والمسلمون اليوم في منعطف جديد سوف يؤرخ به للدعوة الإسلامية كمرحلة جديدة خطيرة كل الخطورة، في حاجة إلى إعادة النظر في المناهج الثقافية والتعليمية حتى يتمكن المسلمون من القيام بدورهم وأداء حق الله تبارك وتعالى عليهم من مسؤولية إزاء الفجوة التي أحدثها سقوط الشيوعية، وتطالب القوى كلها على السيطرة عليها واحتوائها.

       ولكن الحقيقة التي لايمكن أن تغلب مهما بدت ظواهر أهل السيطرة هي الآتي:

       “إن سقوط الأيدلوجيات من الماركسية إلى العلمانية” قد أصبح واقعًا لاسبيل إلى رجعية وأن الإسلام والإسلام وحده هو القادر على ملأ هذا الفراغ وتقديم منهج الله تبارك وتعالى للعالمين، وأن على قادة الفكر الإسلامي اليوم مسؤولية أداء هذا الواجب والاحتشاد له والعمل في عزم وتصميم من خلال أسلوب الإسلام الأمثل: القدوة والحكمة والموعظة الحسنة فهي وحدها الطريق الأمثل.

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32

Related Posts