الفكر الإسلامي
بقلم : أ. د. أحمد عمر هاشم
قال الإمام مسلم – رحمه اللّه تعالى – : حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبومعاوية عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة – رضي اللّه عنهما – “كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه وأنه أمر بخبائه فضرب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب، فلما صلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: آلبرتردن؟ فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأوائل من شوال”.
إن سنة الاعتكاف من السنن العظيمة، التي شرعت في الإسلام تخفيفًا لغلواء الحياة وتلطيفًا لماديتها الجارفة الطاغية، وهذه السنة الإسلامية الكريمة هجرها أكثر المسلمين وانصرفوا عنها، وربما كان الداعي لهذا الانصراف هو كثرة شواغل الناس، وتعدد مطالب الحياة، ولكن الحقيقة أن النَّاس كلما تعددت مطالبهم، كانوا أحوج إلى هذا اللون من العبادة، ليجددوا به نشاطهم، ويستجموا ويستريحوا من عناء الحياة وزحمتها فترة من الوقت يعيشونها مع ربهم سبحانه وتعالى، وبهذا تتبين لنا حكمة الاعتكاف.
يقول ابن القيم في حكمة الاعتكاف : “… اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سبيل الله تعالى وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطواته فيستولى عليه بدلها ويصير الهم كله والخطوات كلها بذكره والفكرة في تحصيل مراميه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق … ” اهـ .
أما حكم الاعتكاف : فهو مستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان لطلب ليلة القدر، وقال ابن بطال: “وفي مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكّده” ويكون الاعتكاف واجبًا بالنذر، قال الشوكاني: واعلم أنه لا خلاف في عدم وجوب الاعتكاف إلا إذا نذر به.
والحديث الذي معنا يوضح لنا صورة من صور اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم وبيان إخلاصه في الاعتكاف، وتنزيه ساحته عن أي شاغل في الحياة، وفي قولها: إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل مُعْتَكَفَه، ما يفيد أن الاعتكاف يبدأ من أول النهار وقد ذهب إلى هذا الرأي الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه، محتجين بهذا الحديث .
وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد الاعتكاف شهرًا أو اعتكاف عشرة، وأولوا هذا الحديث على معنى أنه دخل المعتكف وانقطع فيه، وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح، لا لأن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان من قبل المغرب معتكفًا لابثًا في جملة المسجد فلما صلى الصبح انفرد. اهـ .
وأنه أمر بخبائه فضرب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب وهن: عائشة وحفصة، وزينب، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية البخاري بلفظ “أربع قباب” وفي رواية للنسائي : “فلما صلى الصبح إذ هو بأربعة أبنية، قال: لمن هذه؟ قالوا: لعائشة وحفصة وزينب، أما الخباء الرابع فهو خباؤه صلى الله عليه وسلم.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: آلبر تردن؟ فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف، قال القاضي: قال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام انكارًا لفعلهنّ ، وقد كان صلى الله عليه وسلم أذن لبعضهن في ذلك .
أما سبب إنكاره: فهو أنه خاف أن تشوب اعتكاف أزواجه شائبة فيكن غير مُخْلِصات في الاعتكاف، فتكون رغبتهن هي القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن، هذا بالإضافة إلى ما قد يترتّب على وجودهن في المسجد من الضرر فالمسجد يجمع الناس، وقد يحتجن إلى الخروج والدخول أو أنه أنكر عليهن ذلك لما رآهن عنده في المسجد فأشبهت حالته وجوده في منزله وحضوره مع أزواجه، وعلى هذا يذهب مقصود الاعتكاف، وهو التخلي عن الأزواج وشواغل الحياة .
ويحتمل سبب آخر لإنكاره عليهن: وهو أنهن قد ضيقن المسجد بالأبنية إذا فالاعتكاف عبادة ينبغي أن تؤدى في اخلاص كامل، وينبغي أن تكون نقية من أي شائبة من الشوائب فالاعتكاف في ذاته عبادة قريبة من الصيام في نقائها وبعدها عن الرياء، فالمعتكف إنسان خلصت نيته، وترك مغريات الحياة وأقبل على ربه سبحانه وتعالى، ولذا كان أهم أركان الاعتكاف وأولها:
1- النية، كسائر العبادات الأخرى، وإذا كان الاعتكاف فرضًا بالنذر، وجب تمييزه عن النفل بنية الفرضية، وإن أطلق الاعتكاف، فلم يحدد له مدة معينة، كفته النية وإن طال مكثه، وإذا خرج إلى المسجد ولم يعزم على أن يعود ثم عاد وجب تجديد النية حينئذ سواء خرج لحاجة أم لا، أما إذا عزم على أن يعود فإن هذه العزيمة تقوم مقام النية ولو قيد الاعتكاف بمدة كيوم وشهر وخرج لغير تبرز وعاد جدد النبية وإن لم يطل الوقت لأنه كان قد قطع الاعتكاف بخلاف خروجه للتبرز فإنه لا يجب أن يجد النية لوطال الوقت.
2- الركن الثاني: المعتكف، ويشترط فيه أن يكون مسلمًا طاهرًا عاقلاً، مُمَيِّزًا.
3- والركن الثالث: المكث، وضابطه كما قال الإمام النووي: مكث يزيد على طمأنينية الركوع أدنى زيادة، وهذا هو الصحيح، وهناك رأي آخر يقول: بصحة اعتكاف المار في المسجد من غير لبث والصحيح الأول، وعبادة الاعتكاف لايشترط فيها نوع معين من الذكر أو فعل ما من الأفعال، سوى اللبث بنية الاعتكاف، ويباح للمعتكف الخروج من المسجد لقضاء حاجة أو للتطهر أو للغسل، كما يباح له الأكل والشرب والنوم في المكان الذي يعتكف فيه مع المحافظة على نظافته، ويباح له أيضًا عقود البيع والزواج.
4- الركن الرابع: هو المسجد، فلا يصح الاعتكاف في غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور، يستوي في ذلك الرجل والمرأة.
وذهب أبوحنيفة: إلى صحة اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المُهَيَّأ من البيت للصلاة، ولا يجوز ذلك للرجل واختلف القائلون باشتراط المسجد.
فقال الشافعي ومالك والجمهور: يصح الاعتكاف في كل مسجد.
وقال أحمد: يختص بمسجد تقام الجماعة الراتبة فيه.
وقال أبوحنيفة: يختص بمسجد تُصَلّىٰ فيه الصلوات كلها.
وقال الزهري وغيره: يختص بالجامع الذي تقام فيه الجمعة.
وعن حذيفة بن اليمان: اختصاصه بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد المدينة، والأقصى اهـ.
ولايشترط في الاعتكاف الصوم كما ذهب إلى ذلك الشافعي وأصحابه، وذهب مالك وأبوحنيفة وغيرهما إلى اشتراط الصوم في الاعتكاف. وأنه لا يصح اعتكاف المُفْطِر، واحتجوا بمثل ما رُوِي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان.
أما الشافعي فقد احتج باعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأوائل من شوال، رواه البخاري ومسلم، وبحديث عمر رضي الله عنه قال: “يارسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال: أوف بنذرك”. رواه البخاري ومسلم، ومعلوم أن الليل لايكون محلاً للصوم فدل هذا على أنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف.
والذي نرجحه: هو عدم اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف وذلك لورود الأحاديث الصحيحة في ذلك كحديث عمر وغيره ولكن يستحب لمعتكِف الصوم للاتباع وخروجًا من خلاف من أوجبه وفي ذلك كمال للعبادة، وسمو بها، وزيادة في الخير.
بقي الآن أن نوضح ما يبطل به الاعتكاف، وهو أحد أمور: مباشرة النساء، أو ذهاب العقل أو الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، أو الخروج من المسجد من غير حاجة .
مايؤخد من الحديث:
1- استحباب الاعتكاف، وبيان مكانته وفضله .
2- فضيلة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
3- تحرّي الإخلاص الكامل في العبادات.
4- لا يصح الاعتكاف إلاّ في المسجد مع المشقة، فلو كان الاعتكاف في البيت جائزًا لفعلوه ولو مرة.
5- للمعتكف أن يتّخذ له موضعًا من المسجد يعتكف فيه، وليكن في موخرة المسجد ورحابه حتى يكمل في الانفراد، ولا يحدث ضيق في المسجد.
6- جواز الاعتكاف للنساء، فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهنّ، وأما منعه لهن بعد ذلك، فقد كان لعارض آخر.
7- قال النووي: وفيه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف بغير إذنه وبه قال العلماء كافة فلو أذن لها فهل له منعها بعد ذلك؟ فيه خلاف العلماء، فعند الشافعي وأحمد وداود له منع زوجته ومملوكه، وإخراجهما من اعتكاف التطوع ومنعهما مالك، وجوز أبوحنيفة إخراج المملوك دون إذن الزوجة اهـ.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1429هـ = سبتمبر – أكتوبر 2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32