دراسات إسلامية
بقلم : د. سلمان بن فهد العودة
الخطأ من طبيعة ابن آدم؛ فهو مخلوق من طين، وركّبت فيه غرائز وشهوات، يميل لها ميلاً فطريًا، وخلق الله عزَّ وجلَّ الشياطينَ الذين تمحَّضوا للشرّ والفساد وإغواء بني آدم .
وقد يستقيم الإنسان ويصلح حتى يكون أفضل من الملائكة، وقد ينحط ويتردى حتى يصبح شرًا من الشياطين في بعض أحواله.
وامتن الله عزَّ وجلّ على عباده بأن جعل من أسمائه جلَّ وعلا: الغفور، الحليم، التواب، واسع المغفرة، غافر الذنب، قابل التوب، الرحمن، الرحيم، الكريم الوهاب، الجواد. وبمقتضى ذلك يغفر الله لمن يشاء من عباده، ويتجاوز عن سيئاتهم وذنوبهم وخطاياهم، إذا تابوا إليه وأنابوا ولم يُصِرّوا.
ومن أعظم ما شرعه الله لنا: (الاستغفار).
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواطن كثيرة: قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ محمد: 19.
وجاء في الصحيح عن المُغِيرَة – رضي الله عنه – قال إِنْ كَانَ النبي – صلى الله عليه وسلم – لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ؛ فَيُقَالُ لَهُ؛ فَيَقُوْلُ: (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وكان يصوم حتى يُقال: لايفطر، وكان يقوم من الليل أكثره، أو نصفه، أو ثلثه، وربما قام الليل كلَّه إلا قليلاً، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم جهادًا متواصلاً ودعوة وابتلاءً ومع ذلك قال له ربه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ (19) سورة محمد. ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبَّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ (غابر:55) وقال له: ﴿وَاسْفَغْفِرِ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رِّحِيمًا﴾ (النساء:106).
حالات الاستغفار
أولاً: حالُ التلبس بالعبادة أو فراغُه منها؛ فيقبل العبد على الاستغفار، يدفع به عن نفسه تبعة التقصير، أو معرة الاغترار.
وفي آخر ما أنزل على رسوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ (النصر:3)
وفي الصحيح أنه ما صلَّى صلاة بعد ما نزلت عليــه هذه السورة إلاّ قال فيها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفرلي). وذلك في نهايــــة أمره صلوات الله وسلامه عليـــه؛ ولهــــذا فهم منه الصحابـــة أنه أَجَلُ رسول الله أعلمه الله إياه؛ فأمره سبحانه بالاستغفــــار في نهايــــة أحوالــــه وآخر أمره على ما كان عليه، وآخر ما سمع من كلامه عند قدومـــــه على ربــــه: (اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى). وكان يختم كل عمل صالح بالاستغفار: كالصوم والصلاة والحج والجهاد؛ فإنه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال: (آيبون تائبون لربنا حامدون): وشُرِع أن يُختم المجلس بالاستغفار، وإن كان مجلسَ خير وطاعة.
وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار، فمما يقول عند النوم: كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة (باسمك رب وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفرلها…)
ثانيًا: بعد المعصية؛ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 135)
وفي الحديث (مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثـُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثـُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ إِلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ). ثـُمَّ قَرَأَ هَذِه الآيَة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ﴾ الآية(1)
ثالثًا: حالةُ الغفلة، وكلنا خطاءون وكلنا غافلون وما أكثرَ الغافلين الشاردين عن ربهم، ومن تأمَّل هدي سيد البشر وجده لا يفتر عن الاستغفار، وفي حديث الأَغَرِّ المزني أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قلبي وإني لأَسْتَغْفِرُاللهَ في الْيَوْمِ مَائَةَ مَرَّة)(2). وقوله: ليُغان من الغَين، وهو ما يتغشى القلبَ من الفترات والغفلات عن الذكر.
والاستغفارُ التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدمَ الإصرار على المعاصي كما مدح الله تعالى أهله، ووعدهم بالمغفرة.
قال أحد السلف: من لم يكن ثمرةُ استفغاره تصحيحَ توبته فهو كاذب في استغفاره. وفي ذلك يقول بعضهم:
أستَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ
مِن لفظَةٍ بَـدَرَت خالَفَتُ مَعناها
وَكَيفَ أَرجُو إجابات الدُّعَاءِ وَقَد
سدَدتُ بالذَّنبِ عِندَ الله مجراها
فأفضل الاستغفار ما قرن به تركُ الإصرار، وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحًا وإن قال بلسانه: (أستغفر الله) وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة كما يقول: (اللهم اغفر لي) فقد يرجى له الإجابة.
– وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل اللهَ المغفرةَ، كما في حديث شَدَّاد بن أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءَ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)(3).
– ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد ما جاء في الحديث: (مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحيَّ الْقَيُّومَ وَأتُوبُ إِلَيْهِ، غُفْرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ)(4).
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مائَتُ مَرَّة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ)(5).
ومنه : أستغفر الله.
ومنه : رب اغفر لي.
فوائد الاستغفار
– مغفرة الذنوب: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ (نوح:10)
– نزول الأمطار: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا﴾ (نوح:11)
– الإمداد بالأموال والبنين: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ (نوح:12).
– دخول الجنات : ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ﴾ (نوح:12)
– زيادة القوة بكل معانيها: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ (هود:52)
– المتاع الحسن: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنا﴾ (هود:3)
– دفع البلاء: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال:33)
– الاستغفار سبب لنزول الرحمة: ﴿لولا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (النمل:46)
– وهو كفارة لما يكون في المجلس. فعَنْ أبي بَرْزَةَ الأسلمي، قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله –صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ بِأَخرة إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمجْلسِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إِلَيْكَ).
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى. قَالَ: (كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ فِي المْجْلِسِ)(6).
– يزيل الهمَّ والغم: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أكثر من الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لايحتسب)(7).
قال ابن القيم رحمه الله: وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة ، أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتْها نفوسُهم ارتكبوها دفعًا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم، كما قال شيخ الفسوق:
وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَـــذَّةٍ
وَأُخرى تَداوَيتُ منها بَها
وإذا كان هذا تأثيرُ الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار(8).
ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: (يا بني، عوِّد لسانَك: اللهم اغفرلي؛ فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (طوبى لمن وجد في صحيحفته استغفارًا كثيرًا).
وقال أبو المنهال: (ما جاور عبد في قبره من جار أحبّ من الاستغفار).
قال قتادة: إن هذا القرآنَ يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
* * *
الهوامش :
- الترمذي: تفسير القرآن (3006) وأبوداود: الصلاة (1521) وابن ماجة: إقامة الاصلاة والسنة فيها (1395) وأحمد (1-2، 1-8، 1-10).
- مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2702) وأبوداود: الصلاة (1515) وأحمد (4-260).
- رواه البخاري.
- رواه أبوداود والترمذي.
- رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد.
- رواه أبوداود والترمذي وأحمد.
- أخرجه ابن ماجه والنسائي والبيهقي، وأحمد في مسنده، وصححه الحاكم .
- زاد المعاد 4-185.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1429هـ = سبتمبر – أكتوبر 2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32