دراسات إسلامية

بقلم : الشيخ إبراهيم الدسوقي ، وزير الأوقاف الأسبق

      عن علي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلع علينا رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله! أخبرني بأشد شيء في هذا الدين وألينه، فقال: “ألينه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأشدّه يا أخا العالية الأمانة.. إنه لادين لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له”. رواه البزار

       الكلمات:

       العالية ضاحية من ضواحي المدينة.

       ألين الشيء : أيسره وأسهله على الإنسان.

       البيان:

       أرسل الله رسوله واصطفاه من بين خلقه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يبلغ الناس ما أنزل إليه؛ فكان صلوات الله عليه يجلس بين أصحابه يعلمهم ويرشدهم ويغشى بدعوته المجالسَ والتجمعاتِ، ويتحين الفرص والمناسبات، ولايضيق بما يواجه من عنت أو يستقبل به من إيذاء، ولا يبالي ما يصيبه مادام في ذات الله.

       فبينما هو جالس يومًا بين أصحابه، طلع على مجلسه صلى الله عليه وسلم هذا العربي المسلم الذي خالط الإسلامُ بشاشةَ قلبه؛ فجاء مشمرًا عن ساعد الجد؛ ليستفيد من مصدر العلم ومنبع المعرفة الصادقة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، يسأله عن أيسر شيء في هذا الدين لايجشمه مشقة ولايكلفه ما لايطيقه، وعن أشد شيء فيه يحتاج منه إلى الجهد والمعاناة والبذل من ذات نفسه ومقدرات حياته، فبين له الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن ألين شيء في هذا الدين هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فهي كلمة هينة لينة خفيفة على اللسان تتحرك بها الشفتان .

       إنها كلمة يستطيع النطقَ بها المؤمن والمنافق، والبر والفاجر، والصالح والطالح، فلا حظر على من ينطق بها ولاقيد في أن يلفظ بها من أراد في أي موقف أو موقع، فهي ليست مُعَبِّرَةً عن إيمان وثيق وعقيدة راسخة، فكم من رجل ينطق بها بلسانه وقد اتخذ إلهه هواه، وعبد مع الله جاهه وسلطانه أو ماله وولده، أو عبد إنسانًا مثله يشترى رضاه بسخط الله.

       وكم من رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله بلسانه دون أن يشرق بها فؤاده أو تخالط وجدانه أو تعيش في ضميره فتُحَبِّب إليه الإيمانَ وتبغض إليه الفكر والفسوق والعصيان، ودون أن يتخذ من الرسول إمامًا له، ومن هديه دليلاً يقوده إلى الحق وإلى الطريق المستقيم؛ ومن هنا كان مجرد النطق بالشهادتين وحده ألين شيء في هذا الدين، إن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدينا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

       وأما أشد شيء في هذا الدين وأكثره تبعة وأعظمه مسؤولية فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم من سأله عن ذلك فقال: “وأشده يا أخا العالية الأمانة، إنه لادين لمن لا أمانة له، ولاصلاة، ولا زكاة له”.

مهمة الأمانة ومدلولها

       حقًا إن الأمانة فريضة جليلة وفضيلة ثقيلة عسيرة لاتقوى على تحمّلها إلا النفوس الكبيرة، ولا يطيقها إلا أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، والإرادة الحازمة؛ لأنها عمل في إخلاص، وجهاد في صبر، وعبادة في خشوع، وإنابة وتجرد في العمل لوجه الله والحق، إنها اضطلاع بمهام الحياة، وتكاليف الدين، ومسؤوليات المجتمع؛ ومن هنا نرى القرآنَ الكريمَ يصورها في صورة ضخمة يعجز الكون عن حملها؛ فقد عرضها رب العزة على السماوات فأبت أن تحملها، وعرضها على الأرض فأشفقت منها، وعرضها على الجبال الشداد فارتعدت من هيبتها، وعرضها على الإنسان فحملها، وألقيت عليه تبعاتُها ، صار حقًا عليه ألا يستهين بها أو يضيعها. قال تعالى:

       إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمـٰـوٰتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (الأحزاب 72)

       والأمانةُ في نظر الإسلام واسعةُ الدلالة رحبة المعنى؛ فليست قاصرة على الودائع التي يستأمن الناس بعضُهم بعضًا عليها، لتؤدي عند طلبها؛ ولكنها كل ما أمر الله به من الطاعات وما نهى عنه من المعاصي والمنكرات.

       فالصلاة أمانة الله لدى المسلم، إن أقامها كاملة خاشعة، فقد أدى بذلك أمانتها، وكان ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حافظ على الصلوات الخمس: ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة” رواه أحمد بإسناد جيد.

       وكذلك الصيام والزكاة والحج كل منها أمانة، إذا أداها كما أوجب الله ورسوله، فقد أداها على حقها.

       وما أنعم الله به على الإنسان من الحواسّ التي هي عدة المرء يرتاد بها مواطن الخير، وتحاشى الوقوع في براثن الشر، أمانة سوف يسأله المنعمُ سبحانه وتعالى عنها وهو القائل:

       وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا(الإسراء36)

       وزوجك وأولادك وأهلك أمانة الله لديك، وودائعه الغالية عندك، فمن حقهم عليك أن تكون لهم القدوة الحسنة، وأن تلزمهم الأدبَ والطاعةَ يقول صلى الله عليه وسلم : “ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن”. وقال تعالى:

       وَأْمُرْ أَهْلَكَ بَالصَّلَوٰةِ وَاَصْطَبِرْ عَلَيْهَا (طه132)

       وذلك يقتضيك أن تقوِّمهم إذا اعوجّوا، وتصلحهم إذا فسدوا، تقيهم بذلك عذاب النار، قال تعالى:

       يَـٰـآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوْا قُوْا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (التحريم 6)

       والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يُسأل الرجلُ عن أهله” (رواه ابن حبان في صحيحه).

       وعلمُ العالم أمانةٌ؛ فإن انفقه بسخاء ونشره بين الناس لايسألهم عليه أجرًا لم يتجاوز عنهم في العمل بما يقدمه لهم، كان العلم حجة له أمام الله وورثه الله علم ما لم يعلم، وكان له أجر من عمل بما تعلّم منه لاينقص من أجره شيء.

       أما إن بخل بعلمه فكتمه أو أهدر كرامته فسأل على ما يقول أجرًا أو اشترى به ثمنًا قليلاً، أو خالف فعلُه قولَه، كان العلم حجة عليه يوم لاتملك نفس لنفس شيئًا ، قال تعالى:

       إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (سورة البقرة – آية:159)

       وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (البقرة 174)

       وقال صلى الله عليه وسلم : “علماءُ هذه الأمة رجلان: رجل أتاه الله علمًا فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعًا ولم يشتر به ثمنًا، فذلك تستغفر له حيتان البحر ودواب البر والطير في جوف السماء، ورجل آتاه الله علمًا فبخل به على عباد الله وأخذ عليه طمعًا واشترى به ثمنًا، فذلك يُلْجَم يوم القيامة بلجام من نار، وينادي مناد: هذا الذي آتاه الله علمًا. فبخل به على عباد الله، وأخذ عليه طمعًا، واشترى به ثمنًا حتى يفرغ الحساب”. (رواه الطبراني في الأوسط).

أمانة السلطان

       وسلطانُ الحاكم أمانةُ؛ فهو ظل الله في أرضه إن أصلح وعدل، جمع الله حوله رعيته، وأسبغ عليه فضلاً من نعمه، وبارك عمله، وألهمه رشده، وآتاه الحكمة، وألهمه الصواب في جميع أمره، وإن ظلم وتجبر واختال أذاقه الله الخزي في الدنيا وله في الآخرة عذاب الحريق. يقول صلى الله عليه وسلم : “ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش رعيتَه إلا حرّم الله تعالى عليه الجنة”. (رواه البخاري ومسلم).

       ومن الأمانة أن توسد الأمورُ إلى أهلها؛ فنصطفي للأعمال الأمناءَ الأقوياءَ الذين إذا وكل إليهم أمرٌ أفرغوا في أدائه الجهد، ولم يبخلوا في سبيله بالتضحية والبذل، وأحبوا لذوي الحاجات لديهم ما يحبون لأنفسهم إذا كانوا مكانهم، ذلك خير وأحسن عاقبة للفرد وللمجتمع، وأرضى لله ولرسوله وللمؤمنين.

       فإن نحن لم نرعَ ذلك حقَّ الرعاية، واخترنا للعمل والقيام به لا على أساس الجدارة والكفاية، ولكن بالهوى والرشوة أو القرابة، فقد ارتكبنا خيانة تزلزل أركان المجتمع، وتقوض بنياته، وتأتي على مقدراته، ويشقى بها من يعيشون في كنفه وعلى أرضه وتحت سمائه. يقول صلوات الله وتسليماته عليه: “من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين” (رواه الحاكم).

       وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبوبكر الصديق حين بعثني إلى الشام: “يا يزيد إن لك قرابة خشيتُ أن تؤثرهم بالإمارة. وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ولى من أمر المسلمين شيئًا، فأمر عليهم أحدًا فحاباه ؛ فعليه لعنة الله لايقبل الله منه صرفًا ولاعدلاً” (رواه الحاكم).

التجارة والشركة

       والتجارة في يد التاجر أمانة، فإن بر وصدق كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة. وإن غش وكذب مُحقت بركةُ بيعه، وهوت عند الله منزلته، وساءت بين الناس سيرته، وبارت تجارته، وقضى بالهوان والذل على نفسه وأسرته. وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “التجار هم الفجار يوم القيامة إلا من بر وصدق”. وقال صلى الله عليه وسلم : “رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى” (البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق” (مسلم). كما نهى عن الغش والاحتكار، فقد مر صلى الله عليه وسلم برجل يبيع طعامًا، فسأله عنه، فأخبره وحسّنه، فأوحى الله إليه أن أدْخِل يدك فيه فأدْخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الطعام، فإذا هو مبلول، فقال صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من غشّ” (مسلم).

       وقال: “من احتكر على المسلمين طعامَهم ضربه الله بالجذام والإفلاس” (ابن ماجه).

       والشركة في يد الشريكين أمانة؛ فإن أخلص كل منهما لصاحبه وضع الله البركة بينهما، وتوثقت بالتعاون الطاهر علاقتهما، وفتح أبواب الخير لهما، وأغدق من فيض جوده عليهما، وأشاع بين الناس الثقة فيهما. أما إن عاشا في ظل الخيانة، وتولى الشيطان قيادةَ العمل بينهما، وساءت الخديعة أسلوب تعاملهما، تخلت رعاية الله عنهما، وأحاط البؤس والفقر والإِفلاس بهما؛ بل وبالمجتمع الذي ينعمان بخيره، ولايبخل بنفيس أو رخيص عليهما، الأمر الذي يقتضيهما الوفاء بحقه أن يبذلا أقصى ما يستطيعان من العمل المخلص الدائب لإسعاده وبث روح الحب له وإنعاش مقدراته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عزوجل: “أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما” (الحاكم).

والوظيفة أمانة

       والوظيفة في يد المُوَظَّف أمانة تقتضيه أمرين:

       أولهما: الحفاظ عليها من كل ما يعوق حركتها أو يعطل ثمرتها.

       والثاني: رعاية الله في حقوق أصحاب المصلحة فيها وقضائها وإحسان معاملتهم والاهتمام بشأنهم.

       على أن الحفاظ على العمل يفرض على العامل فيه مراقبة الله في إتقانه وإحسانه، وأن يعلم أنه بمقدار ما يعطي العمل من طاقته سيجده في ثمرته لنفسه لإخلاصه الذي يدخر به عند ربه رصيدًا من الخير ينفعه في دنياه وآخرته؛ فهو في دنياه قد طيب أجره الذي يتقاضاه عليه؛ فطاب بذلك كسبه وعاد كل ذلك عليه وعلى أهله بالرخاء والعافية، وعلى مجتمعه بالنماء والوفرة في عائد هذا العمل، وإن بقي بعد كفايته شيء عاد به على المحاويج من بني جنسه فضمن بذلك نماء النعمة وبقاءها، والله يقول:

       لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (سورة ابراهيم:7)

       أما رعاية الله في حقوق جماهير المنتفعين بوظيفته فإنما تكون أولاً بأن يعلم أن مصالحهم أمانات في عنقه، والله وحده سيسأله عن أدائها، وإن فرط في أدائها ولم يرع الله في إحسانها وإتقانها فويل له من أصحابها أولئك الضعفاء الذين لايملكون من أمر مؤاخذته قليلاً ولاكثيرًا، وويل له من انتقام الله لهؤلاء الضعفاء، والله تعالى يقول:

       وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (سورة ابراهيم – آية: 42)

       وويل له إن كان ينبغي من تعطيل مصالح ذوي الحاجات عنده كسبًا ماديًا حتى إذا أخذه طابت نفسه وأدى عمله، والنبي الكريم يتوعد أولئك حين يقول: “كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به” وما السحت إلا كسبه من وظيفته التي لم يؤد حقَّها وعطل مصالح الناس فيها.. أين من هؤلاء قول الله عز وجل: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا” (الكهف 30)

       وقول الرسول الكريم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتْقِنَه” كما يقول صلوات الله وسلامه عليه: “من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول” (أبوداود).

أمانة خطيرة

       والسِّرّ من أخطر الأمانات التي يجب الحفاظ عليها وأبلغها في الأفراد والأمم أثرًا؛ فإذا ائتمن المرء على سر فكتمه فقد حفظ صاحبه وكرمه، وإلا فقد أضاعه وأهانه، ومن السّرّ ما يكون بين المرء وأخيه، ومنه ما يكون بين الرجل وأهله، ومنه ما يكون خاصًا بالجماعة أو الإمامة.

       فالسر الذي يفضي به إليك أخوك أو جارك يطلب بها معونتك أو مشورتك أمانة لديك، ما كان على خير فإنه أمانة واجبة الأداء لايجوز إذاعتها أو نشرها. يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت، فهو أمانة” (رواه أحمد)

       ومن السر ما يجري في المجالس بين الناس في الأمور المهمة التي لايجوز إفشاؤها والتي تقضي المصلحة بكتمانها؛ ففي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: “المجالس بالأمانة إلا ثلاث مجالس، مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله”. ويقول: “إنكم تجالسون بالأمانة” كما جاء في الأثر.. استعينوا على الحاجات بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود؛ فكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنع من نيل مطالبه، ولو كتمه كان من سطوته آمنًا وفي عواقبه سالمًا ولنجاح حوائجه راجيًا. وقال عمر بن عبد العزيز: “القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها؛ فليحفظ كل امرئ مفاتيح سره”.

العلاقات الزوجية

       والعلاقات الزوجية بين الزوجين أمانة، فما ينطوي عليه البيت من أسرار، وما يحدث بين الرجل وزوجه يجب أن يحجب بستار من القداسة والكتمان؛ فلا يطلع عليه قريب أو بعيد، وإن من المجافة أن يحدث الرجل أو تثرثر المرأة بما يكشف الأسرار الزوجية؛ فذلك وقاحة يمقتها الخلق الكريم ويحرمها الله عز وجل ويبرأ منها الإسلام.

       عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنه فقال: “لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله ولعل أمرأة تخبر بما فعلت مع زوجها” – فأَرِم القوم – أي سكتوا وجلين – فقلت : إي والله يا رسول الله إنهم ليقولون وإنهن ليقلن ، قال: “فلاتفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون” (رواه مسلم).

       وفي الحديث الشريف: “إن من أعظم الأمانات عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امر_ته وتفضي إليه ثم ينشر سرها” (الترمذي).

أسرار الأمة

       ومن السر ما هو خاص بالأمة أو الجماعة، وإذا كانت الأمور تقاس بنتائجها فما أجلَّ وأعظمَ أن تقدس أسرار الأمة التي يتعلق بها أمنها وحريتها بل وحياتها سواء في ذلك السلم أوالحرب.

       وإذا كان في القصاص من المعتدي على فرد حياةُ أمة، فإن تعريض حياة الأمة وأمنها وسلامتها في أي مرفق من مرافق حياتها أو إذاعة أسرارها وما تجره عليها من أعدائها كبيرة دونها الجرائم كلها.

       فإن حق الأمّة على أبنائها الذين وسعتهم أرضها ونعموا بخيرها أن يوالوا من والاها، وأن يعادوا من عاداها، وإلا كانوا خائنين لأمانتها، نابذين للعهد بينهم وبينها، وغير أهل للعيش الآمن بين ربوعها، والحياة المطمئنة على أرضها. وثم يقول سبحانه:

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (آل عمران 118).

       ويقول سبحانه:

       يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ (الممتحنة 1)

       ألا ما أشدَّ حاجة الأمم إلى رجال ذوي همم عالية وإرادة قوية لهم من الحزم ما يمكنهم من ضبط أنفسهم، ويحفظ عليهم ألسنتَهم، ويسمو بهم عن الأنانية والأثـرة، ويوقظ فيهم وازع الإيمان والضمير الذي يعصمهم من الزلل، ويجنبهم مواطن الخطر، إن هؤلاء هم الأطهار والأخيار الذين يحفظون أممهم، ويرعون عهدها، ويصونون سرها، وإنها بهم أسعد الأمم.

الأمانة بين الفضائل

       إنه بين مدى ما للأمانة من آثار في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم نرى أنها جماع الفضائل، وأم المكارم ، وعماد كل نهضة، بل روح الحياة، والركيزة الكبرى لكل مجتمع سليم، وعدة النجاح في الدنيا والآخرة. ومن هنا ندرك عناية الإسلام بها وكيف كان المسلمون بها وأن يطمئنوا إلى وجودها فيما بينهم حتى أن الرجل منهم إذا وقف يودع أخاه في سفر شدَّ على يديه وهو يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك .

       إنها أم الفضائل حقًا. ففي حدث رواه مسلم عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة” (الجذر: أصل الشيء).

       وهذا يفيد بأن الله عزوجل حين خلق الخلق غرس الأمانة في فطرهم فأخذت مكانها في أعماق قلوبهم ؛ فمن خان الأمانة فقد تجرد من أفضل ما مازه الله به على سائر خلقه وتنكّر للفطرة السليمة التي فطره الله عليها. والأمانة إنما تنمو بالفهم الصحيح للقرآن والسنة، والتطبيق العملي لمبادئهما القويمة. إذ العلم وحده لايغني عن العمل وإذا رمى الضمير بالشلل وتوقف فلا جدوى لحركة اللسان بقراءة القرآن ودراسه السنة ولو بات المرء يقرأ ويدرس آناء الليل وأطراف النهار.

       فالإيمان والأمانة صنوان لايفترقان ، وقلما كانت خطبة من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم تخلو من الحديث عن الأمانة، فعن أنس رضي الله عنه قال: “ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولادين لمن لاعهد له”.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال  1429هـ = سبتمبر – أكتوبر  2008م ، العـدد : 10-9 ، السنـة : 32

Related Posts