بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي
المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
الإجابة عن ذلك تعني أن إجابةَ الدعاء تتأتّى على مستويين: (الف): أن يُنَالَ الطلبُ ويُعْنَىٰ به ويُوْضَع موضع الاهتمام. (ب): أن يُوَافَق عليه ويُصْدَر القرارُ حسبَ ما طُوْلِبَ به فيه.
ومُنَاوَلةُ الطلب نوعٌ من الموافقة عليه ونجاح كبير في مكانه . وربما تكون قد شاهدتَ فيما يتعلّق بالمحاكمات، أن المرافعة بشأن قضية ما تتمثل في مستويين كذلك: الأول أن تُقْبَل المرافعةُ وتوضع تحتَ الدراسة ، وهذا المستوى أيضًا نجاح كبير؛ لأنه إخقاقٌ أيُّ إخفاق أن لا تُقْبَل المرافعةُ. والثاني أن تُقْبَل المرافعة ، ويُصْدَر الحكم حسبَ الطلب، ويُلْغَىٰ ما يكون قد صدر من القرار سابقًا .
إذا أسغتَ هذه الصورةَ من القضية ، فاعلم أن : “أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ” محمولٌ على النوع الأوّل من الإجابة ، وليس محمولاً على النوع الثاني . والدليلُ على ذلك هو النصّ القرآنيّ بدوره ؛ لأنه مُرَتَّبٌ على : “إِنِّيْ قَرِيْبٌ” والفقرةُ توضح قربَ العلاقة الذي يقتضي بدوره أن يُقْبَل الطلبُ ويُعْنَىٰ به مهما صَدَرَ القرارُ حسبَ الطلب عاجلاً أو آجلاً، موافقًا للهوى أو معارضًا له ؛ لأن اتّخاذَ القرار إنما سيأتي حسبَ القانون والسنّة أو حسب مصلحة السائل أو النظر في مُحْتَوَيَات الملفّ . إنّ علاقة السلطان وعنايته بالطالب إنما تتطلبان أن لايرفض طلبَه ، وأن يضعه موضعَ الاهتمام ، وأن يقبله للدارسة وإصدار الحكم بشأنه ؛ فمعنى “أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ” أني أقبل وأتناول طلبَ كل داعٍ وطالبٍ وأضعه طيَّ الدراسة والعناية ، ولا يُوْضَعُ موضعَ الإهمال والإغفال؛ فهل هو شيءٌ هَيِّنٌ ؟. أيها السادة! إننا فيما يتعلق بدنيانا نبذل مساعِيَ كثيرةً ونُعْمِل أنواعًا من التملق للفوز بهذا القدر اليسير من الاهتمام ، أي أن يتناول السلطان طلبَنا مجردَ التناول ، ثم نُقْنِع أنفسَنا قائلين : إنّه إذا صدر الحكمُ حسبَ القانون فسيكون حسبَ رغبتنا، وإلاّ فسيكون غيرَ ذلك .
صُوَرُ إجابة الدعاء :
فلا بدّ أن نُقْنِع أنفسنا في هذه القضية هي الأخرى فنقول لها: إنه لما تُنُوْوِل الطلبُ ، فإن صدورَ الحكم إذا كان موافقًا لمصالحنا ، فإنه سيصدر ، وإلاّ فسنُنَاوَلَ ما يكون نافعًا غيرَ ضارّ لنا . وذلك لأنه تعالى غيرُ مُقَيَّد بقانون وترتيب ؛ ولكنه ينظر في مصالح العباد فلا يُجِيب من أدعيتة إلاّ ما لايكون ضارًّا له ؛ فذلك عينُ النجاح . أفلا رأيتَ أنّ الطفل يطلب من والده النقودَ ، فالاستجابةُ لطلبه منه قد يكون متمثلاً في أن يستمع لطلبه ، فيبدي تجاهه حبَّه وعطفَه ويقول له : إني قد استجبتُ لطلبك . ثم يحدث أنه قد يمنحه النقودَ ، وقد يمتنع عن منحه إيّاها ظنًّا منه أنه قد يذهب بها إلى السوق ، ولايدري ماذا سيشتريه بها ويتناوله مما قد يضرّ بصحته ، أو إنّ الاختلاف إلى السوق يُفْسِد عاداته ؛ فيحتفظ بالنقود ويمتنع بها عنه ، ويشتري له بدوره بما يراه منها بعضَ الأشياء ويدفعه إليه بدلَ أن يمنحه النقودَ ، فهل يجوز لأحد أن يقول : إنّ الوالد لم يقبل طلبَ ولده؟. لا، لايجوز له ذلك ؛ بل يجوز له أن يقول : إنه لم يقبل الطلبَ في الظاهر، ولكنه قبله في الحقيقة؛ حيث منحه شيئًا خيرًا من النقود.
فهكذا ينبغي أن يُفْهَمَ ههنا ؛ حيث إن الله تعالى حكيم وقادر في الوقتِ نفسه ، ورحيم ودود كذلك ، وهو أرحم على عباده من والديهم ؛ فعندما يحدث أنه لايعطي عبدَه ما طَلَبَه في الظاهر، ينبغي أن يتأكد في نفسه أن الموافقة على طلبه بنفس المراد الذي اشتمل – طلبُه – عليه كان يتعارض مع الحكمة ؛ ولذلك فإنّه تعالى سيهبه مكانَه من النعم ما يكون موافقًا لمصالحه. إن سلاطين الدنيا والمسؤولين إنما يضعونَ نصبَ أعينهم لدى إصدار الحكم حسبَ الطلب أن لايكون الاستجابة للطلب متعارضًا مع القانون، فإذا كان متصادمًا مع القانون رفضوه ، ولا يمنحون الطالب مكانَه شيئًا غير ما طلبَه ؛ ولكنه تعالى بالإضافة إلى النظر إلى القانون يضع في الاعتبار مصالحَ العباد لدى إجابة الطلب . والنظرُ إلى كلا الأمرين هو النجاحُ كلُّه .
معنى إجابة الدعاء :
فالإجابةُ التي وَرَدَ بها الوعدُ ، معناها تناوُل الطلب ووضعُه طيَّ الدراسة . وهذه الإجابةُ حتميَّةٌ لايَرِدُ التخلُّف بشأنها . والأمرُ الثاني أن يُمْنَحَ ما طلَبَه ، فذلك لم يَرِدْ به الوعدُ؛ وإنّما هو مُقَيَّدٌ بـ”إن شاءَ” فإن كانت مشيئةُ الله مقتضيةً له، كان كما طَلَبَ ، وإلاَّ فلا ؛ فقال تعالى:
“بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُوْنَ فَيْكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ” (الأنعام/41) ومن العلماء من قَيَّدَ “أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع إِذَا دَعَانِ” بـ “إنْ”. وعَدَّ بعضُهم ذلك محذوفًا بعد الآية ؛ ولكني لا أرى صحّةَ ذلك لأنه وَرَدَ في مكان آخر:
“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر/60) ، إنّ سياقَ الآية يؤَكّد ههنا أنَّ الإجابةَ تترتّبُ لا مَحَالَةَ على الدعاء ؛ لأن جوابَ الأمر يترتب على الأمر بشكل حتميّ ، فتقييدُ الآية بـ “إن شاء” يخالف الظاهرَ، كما أنّ الآية الأولى وَرَدَ فيها “إني قَرِيبٌ” سابقًا وجاءت الآية لاحِقَةً ، مما يؤكد أن الإجابة غيرُ مُقَيَّدَة بالمشيئة ، وإلاّ كانَ القربُ الإلهيّ مُعَلَّقًا على المشيئة ، على حين إن قربَ الله مُحَقَّقٌ على كل حال وبدون قيد ؛ لقوله تعالى : “سبقت رحمتي غضبي” ؛ فأعتقد أن “أُجِيبُ” ليست مقيدة بـ “إِنْ شَاءَ” بالمعنى الأوّل أي قبولُ الطلب وتناوُله ، ولكنها مُقَيَّدَةٌ بها بالمعنى الثاني أي منح العبد ما طَلَبَه بعينه .
فإذا كان الدعاءُ مقبولاً لدى الله لهذا الحدّ، فلماذا يَرِدُ منّا التقصيرُ فيه ؟ وإذا كان أحدٌ لايستحضر هذا التدقيقَ والتحقيقَ بشأن الدعاء، فإنّه يسعه أن يُقْنِع قلبَه بشكل آخر، وهو أنّ الناسَ في الدنيا يقومون بأعمال كثيرة نظرًا للمنافع المُتَوَهَّمَة ، مهما لَقُوا فيها الخسارة في النهاية ، والخسارةُ تكون مُتَصَوَّرَة ، والمخافةُ منها قائمةً ، كما يحدث في شأن التجارة ؛ حيثُ يمارسها التّاجرُ نظرًا للأرباح المُتَوَهَّمَة . أما الدعاءُ فلا احتمالَ فيه للخسارة ، فلماذا نُقَصِّرُ فيه؟. إنّ الدعاء له معنىً آخرَ أيضًا ، وهو أنه يتّصل العبدُ به – الدعاء – بالله تعالى بعلاقة خاصّة . وللعبد أن يتعمق لدى قيامه بالدعاء أنه يشعر بعلاقة خاصّة مع الله تعالى. فإذا كان الدعاءُ لايحصلُ به الداعي على شيء مطلوب بعينه ، فإنّه يحصل على هذا المعنى لدى ممارسة الدعاء عاجلاً ؛ حيث يشعر في قلبه بالطمأنينة والقوة المعنويّة ، وإن ذلك من بركات أن العبد لدى دعائه اللهَ تعالى يتعلق به تعالى بصلة خاصّة، وإن المحبين لا يريدون من وراء الأدعية إلاّ هذا المطلبَ ؛ فهم لا يلتفتون إلى قبولها وعدم قبولها؛ لأن المحب نجاحُه الأكبر يكمن في أن يستمع الحبيبُ لما يقوله . وهذا القدرُ من اللفتة من الحبيبُ يكفيه ، فلو ظَهَرَ بعد ذلك النوعُ الثاني من الإجابة فهو عنايةٌ مزيدة من الحبيب . فينبغي أن نتعلق بالله تعالى بعلاقة خاصّة ، وأسهلُ السبل إلى ذلك هو الدعاء . إن العبد إذا لم يدعُ اللهَ فإنه يكون أبعد ما يكون عنه . إنه لمؤسف جدًّا أن نظلّ بعيدين عنه لهذا القدر، ولنا حاجة أمسّ إليه حالاً ومآلاً ، إنّه قريب منّا جدًّا ؛ ولكننا نحن نتباعد عنه .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند .جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.