بقلم : الشيخ / معوض عوض إبراهيم
في المدينة المنورة .. كان المسلمون حول نبيّهم صلى الله عليه وسلم مهاجرين وأنصارًا إلاّ فريقًا بقي في مكة رهنَ ظروف لا قبل لهم بدفعها، كانوا بخواطرهم ومشاعرهم يحيون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصَحبه، ويدعون الله مُخلصين أن يُهَيِّئ لهم الفرصةَ الأولى التي يلحَقون فيها بالمسلمين في دار الذين آوَوا وآثروا ونصروا..
إنه مجتَمع جديد سعيد يقوم على أرض المدينة، لا يعرف الناس من قبله ما يماثله أو يدانيه في الإيمان بالله والاعتصام بحبله. وبذل كلّ مُرْتَخِص وغال في سبيل أمن العقيدة. وسلامة الدِّين، ولقد كان بذل المهاجرين عظيمًا حقًا.. وماذا وراء هجر الوطن. وأي وطن كمكّة وإن سيطر فيها الشرك، وهَيْمَنَت الوثنيةُ في مَنْزِل الوحي ومشرق نور التوحيد؟
وماذا وراء ملاعب الصبا فيها، وذكريات الأصول والفروع من إبراهيم وإسماعيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأيامهم معه؟
وماذا وراء ذخائر الحياة من مال وتجارات ودور ومرابع؟ كل ذلك رجحت به جميعًا عقيدتُهم وحرصُهم على أن يغدوا ويروحوا بدينهم لا يرجون عنه حولاً ولا يرضون به بدلاً حتى قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَه..﴾ الحشر: آية 8.
والإمام ابن كثير يذكر أن هؤلاء المصدِّقين للنبي صلى الله عليه وسلم هم سادات المهاجرين فقال: “أي خرجوا من ديارهم، وخالفوا قومَهم ابتغاءً رضوان الله، وقد صدَّق فعلُهم قولَهم”، قال رحمه الله: ثم ذكر الله الأنصارَ مادحًا مُبَيِّنًا فضلَهم وشرفهم وكرمهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ..﴾ مُشيرًا إلى أن الأنصار أسلموا قبل بعض الذين جاءوا من بعد إلى المدينة مهاجرين قال تعالى: ﴿وَالَّذِيْنَ جَآءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإيمَانِ..﴾ الحشر: آية10. وأورد قولَ أبي حفص عمر رضى الله عنه: “وأوصي الخليفةَ من بعدي بالمهاجرين الأوّلين أن يَعرِف لهم حقَهم ويحفظ لهم كرامتَهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تبوّأوا الدارَ والإيمان من قبل، أن يقبل من مُحسنهم، وأن يعفو عن مُسيئهم” أخرجه البخاري، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بسنده عن الأنصاري أنس بن مالك خُوَيْدِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال المهاجرون: يارسول الله، ما رأينا مثلَ قوم قَدِمْنا عليهم أحسنَ مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم.
والحديث صحيح المعنى تُؤيِّده الروايات الأخرى، وإن لم يَروه ابن كثير في الكتب من هذا الوجه فقد تفرَّد الإمام البخاري برواية أنس رضى الله عنه قال: “دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصارَ أن يقطع لهم البحرين من البلاد المطلقة على الخليج العربي – قالوا: لا إلا أن تَقطع لإخواننا من المهاجرين مثلَها، قال: أمّا لا: فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة”، وتفرّد الإمام مسلم برواية أبي هريرة رضى الله عنه قال: قالت الأنصار: اقْسِم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: أتكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة؟ فقالوا: سمعنا وأطعنا.
إنه مجتمع حركة وبركة وتعاون وإيثار وقلوب تتعانق، ونفوس تتناجى بالبرّ والتقوى، يقوم فيها المهاجرون بتَبِعَات الزراعة وتعاهد النخيل، ويطلق الأنصار أيدي إخوانهم في تخيلهم وزروعهم ويتقاسمون الثمرة، وما أخذ المهاجرون أحبّ إلى الأنصار مما خلالهم إخوانُهم، فهم بحق ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمّا أوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَو كَان بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ الحشر: آية9.
نماذج من المجتمع الربانيّ
وإذا كان في دنيا الناس من يأكل وحده، ويمنع رِفده، ويَجْلِد عبدَه، وينسـٰـى أنه كسائر الناس، قد خلقه الله من طين ومن ماء مَهين، فهو يشمخ بأنفه ويشيح بوجهه ويدل ويميس وكأنه عروس، فقد يوقظه من غفلاته أن يرى نفسه في مرآة هذه النماذج من المجتمع الرباني.
وكان لعفراء غلامان يتيمان في حجر أسعد بن زرارة وأحد النقباء الاثني عشر، وكان نقيب بني النجار وكان للغلامين مِرْبَد أمام محلة بني النجار، بكرت فيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول دخوله يثرب، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتخذه مسجدًا فعرف الغلامان وقال لهما ثامنوني بحائطكما، وثامنهما ليبتاعه منهما، فقالا: بل نهبه لك يارسول الله. فلم يقبله هبة، ولكنه ابتاعه صلى الله عليه وسلم وأبعد عنه بقايا مقابر للمشركين، وسوّى ما كان فيه من حفر، وأخلاء من بعض النخيل، وقام المسجد النبوي بالبساطة التي وفّرتها الإمكاناتُ المُتاحة.
وقد يكون إيثار هذا المثل لأن يتامى صغارًا حرصوا على أن يعطوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك العطاء الذي قد يكونان أحوج شيء إليه من غيرهما ومستقبل حياتهما؛ لكنها الفطرة التي شحذت مشاعرَهما وأحاسيسهما الحسان على أن يضربا هذا المثل.. وقد آخى الرسول بين الأوس والخزرج، وكانوا الأنصار وآخى – صلوات الله عليه وسلامه – بين المهاجرين والأنصار، فكانوا إخوانًا تقصر عبارات الناس أن تصف عُمق هذه الأخوة وصدقها، فالأنصار “يُحِبُّون مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِم”، والمهاجرون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم “مما رأينا مثل قوم قدِمنا عليهم.. وهذه الأقوال تَجْلوها الأفعالُ، فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يَعرِض نصف ماله وخيرَ حدائقه على أخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف، ويعرض عليه ما هو أكثر من هذا، فيرضى عبد الرحمن بكرم الضيافة، ويدعو الله أن يبارك لسعد في ماله وأهله، ويسأل أخاه سعدًا أن يدلّه على سوق المدينة، وبدأ عبد الرحمن من الصفر، بعد أن كان بلُغة العصر مليونيرًا، وعوَّضه الله في المدينة عما خَلَف من ثراء وغنى وهو يهاجر مؤثرًا عقديته ودينه.
وفي بناء المسجد النبوي عمل الجميع، فقد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحمل اللَّبِن على صدره من مكان صنعه إلى مكان البناء بعد أن قسَم الأعمال ووزَّع الأدوار، وكانوا جميعًا وكأنهم النحل في الخلايا.. والرسول يذكر ربَّه ويرتَجِز قائلاً:
اللهم لا عيشَ إلا عيشَ الآخرة
فاغْفــــرْ للأنصــــار والمُهَاجِــرَة
وهم بعملهم يأخذون من نبيّهم – صلوات الله عليه – والمثل فيرتجزون قائلين :
لئن قعدنا والنبيُّ يعمل
لَذاك منا العملُ المضلل
وهكذا قامت في عاصمة الإسلام الأولى الجماعة المتكافلة المتواصلة المتعاونة وكل من فيها يعمل في داخلها وعلى حدودها لتأمين ثغورها، وتوفير أمنها، والتهيؤ للجهاد الذي فرضه الله على المسلمين في العام الثاني للهجرة يوم فرض الصوم والزكاة وكان ذلك تكليفًا لأمة عرفت الإيمان واستعذبت في سبيله ألوانَ العذاب وهاجرت به، وجاهدت أنفسَها بالصيام، ولانت أكفَّها بالزكاة، وكانت أسرع شيء بعد هذا الإعداد إلى الجهاد، كلما نادى مناديه ودعا داعيه ودوّى نفيره.
وخذوا هذا المثل من مراجعة في الاستيعاب لابن عبد البر و”أسد الغابة” لابن الأثير و”الإصابة” لابن حجر بتصرّف يسير: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حارثة بن مالك فسأله: كيف أصبحْتَ؟ فقال: أصبحتُ مؤمنًا حقًا يارسول الله، فقال – صلوات الله وسلامه عليه – إن لكل حقٍ حقيقةٌ، فما حقيقةُ إيمانك؟ فقال: عزفتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمات نهاري وكأني أرى عرش ربي بارزًا.. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أسمع أهل النار وهم يتعاوون فيها، فقال – صلوات الله عليه وسلامه –: “عرفت فالزم”.
وسأل حارثةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرزقه الشهادة، ولم يكن الجهاد قد فُرِضَ، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما سأل، ولم يلبث القوم أن نودُوا “ياخيل الله أركبي” وأحرز الشهادة التي تمنى، وجاءت أمُّه تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ولدها، وأجابها الرسول أن ابنها قد صادف الفردوسَ الأعلى.
وكانت أم حارثة ومن قبلها سُميّة بنت خيّاط أولَ شهيدة في الإسلام بمكة ومعهن نسيبة بنت كعب الأنصارية في أحُد وبعد ذلك في حرب الرِّدة ومن بعدهن الخنساء وكثيرات وكثيرون نماذج ينبغي أن يتأمل سيرتَهم الرجالُ والنساء والبنات والأبناء حتى يتجدد النظر إلى الحق وتتجدد الصلة بالسلف، وتعود مسيرتنا على طريق الصواب فنتّبع ولا نبتدع، ونرتفع بأنفسنا عن استيراد الأفكار والقيم كما نستورد الأحذية والملابس ومظاهر الزينة التي لايُنكرها الإسلام حتى تكون في البيوت تُرْسى دعائمها وتُشَدُّ أواصرُ الزوجية، وتشفي النفوس من إرسال الطرف في كل اتجاه دون تقيد بمنهج الله الذي يقـول: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُـرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ النور: الآيتان 30، 31. إنهما آيتان من هذه السورة التي كان عمر – رضوان الله عليه – يقول فيها: “اقرِؤوا نساءَكم سورة النور، واقرؤوا رجالكم سورة الأنفال”. فبقدر ما وضعت سورة الأنفال من منهج القتال العادل في الإسلام، وضعت سورة النور المنهج الذي يحمي الأسر، ويصون الشرف، ويجمل شريكات الحياة وشقائق الرجال بمأمن من العواصف الخلقية، وفواشي السوء التي تهزّ قواعدَ الأسر والمجتمعات من قريب وبعيد .
ويبقى عطاء السنة المطهرة في ذلك يأخذه ويلتزمه الذين يستجبيون لقول الله تعالى : ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الحشر: آية7.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادى الثانية 1429هـ = يونيو 2008م ، العـدد : 6 ، السنـة : 32.