الفكر الإسلامي
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة أشرف علي التهانوي المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
الحق المطلوب منّا نحو اللّه
صحيحٌ أنّنا لانستطيع أن نؤدِّي حق الله علينا في طاعته بشكل يليق بشأنه تعالى. ومهما اجتهدنا في أداء حقّه في هذا الصدد، فإنه يكون أقلّ مما يجب . وتقصيرُنا في المستحبات راجع إلى ذلك أيضًا، كما يرجع إلى عوامل أخرى ؛ لأننا عدنا ننخدع أنه إذا لم نقدر على أداء حقّه تعالى ، فلا حاجة بنا إلى بذل جهد أكثر ؛ ولكن ذلك خطأ كبير تورّطنا فيه ؛ فلا شكّ أننا لانستيطع أن نأتي في العمل على مستوى شأنه تعالى ؛ ولكننا نستطيع أن نعمل وفق شأننا نحن ؛ فالناس في العالم يشاهدون ليلَ نهارَ أن كثيرًا منهم يقدّمون هدايا وتحائف إلى السلاطين والوجهاء ، مع العلم بأنّها لاترتقي إلى مستوى مكانة السلاطين والوجهاء ؛ لكنهم لايتوقّفون عن تقديمها إليهم ، علمًا منهم بأنها لاتليق بشأن السلاطين والوجهاء ؛ بل يبالغون قدرَ مستطاعهم في تقديم أحسن ما يمكنهم من الهدايا . من هنا اشتهر بأنّ الهدايا إن لم تتّفق وشأنَ المقدمة إليهم ، فلتَتَّفِق وشأنَ المُقَدِّم لها ؛ فيجب أن نعمل حسب مستوى قدرتنا . ونؤكّد لكم أنّ رضا الله سيُنَال بالعمل المستطاع لدى العبد ، فلا تتكلّفوا ما يفوقَ وُسْعَكم ؛ لأن الله لم يُكَلِّفنا أن نعمل وفق مستوى حقّه تعالى ، وإنما كَلَّفَنَا أن نعمل وفق ما نستطيعه نحن البشر؛ فما أكبرَ خَطَأَنَا عندما نترك العمل بالمستحبّات ظنًّا منّا أنّنا لانستطيع أن نؤدِّي حقّ الله تعالى؟!.
ترك المستحبّات لمصلحة شرعيّة
ولكن يجوز ترك المَنْدُوبات لمصلحة شرعيّة ، مثلاً: لإعلام النّاس بأنها ليست من الفرائض أو الواجبات ، ومثلاً تركُ النوافل في السفر مراعاةً للرفقاء حتى لاينزعجوا بالانتظار، أو إراحة للنفس نظرًا للتعب الذي تعانيه ؛ لأن ترك النوافل في السفر لا يُلاَمُ عليه المسافرُ . وقد وَرَدَ الحديث بإراحة النفس : “إنّ لنفسك عليك حقًّا ولعينك عليك حقًّا الخ”[1]. ولكن ترك النوافل من غير وجه وبسبب الكسل والعجز، وَرَدَ الحديث بالنهي عنه : “اللهم إنّي أعوذبك من العجز والكسل”[2]. والكسل شيء غيرُ الإراحة؛ فليُتَأمَّلْ ، فظنُّهما شيئًا واحدًا خطأ كبير. فالإراحة رغَّب فيها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – صحابته – رضي الله عنهم – أمّا الكسل فقد استعاذ منه بالله تعالى ؛ لأن طلب الراحة إنما يُحْتَاج إليه عندما يكون العبد قد عمل وفق طاقته ، فيؤمر بأن لايكلّف فوق طاقته . أمّا الكسل فهو أن لايعمل وفق ما يستطيعه وإنما يكتفي بالقليل ؛ ولهذا وَرَدَ النهي عنه في الحديث.
المستحبّات والنوافل أيضًا من اللوازم
إن علاقتنا بالله تعالى عظيمة ، ونظرًا لها لَزِمَ العمل بالنوافل والمستحبّات كذلك . إن القرآن الكريم ذكر النوافل والمندوبات ؛ ولكن الناس يرون العمل بها غير لازم ، فأكّدتُ أن تعلّمها أيضًا واجبٌ ؛ لأن ثمراتها وبركاتها كثيرة لاتحصى . ومن بركاتها أنها تحول بعض الأوقات دون ارتكاب المعاصي ؛ لأن المواظب على صلاة التهجد وصلاة الإشراق ، لابدّ أن يكون محترزًا عن المعاصي بشكل أكثر من الذي لايواظب إلاّ على الصلوات الخمس . ومن طبيعة المواظبة على التهجد والإشراق ، أن القائم بها يشتهر بين الناس مُتَدَيِّنًا مُتَهَجِّدًا، فهو يستحيي من ارتكاب المعاصي بعد ما يحظى بهذا اللقب المُشَرِّف ، على أن بعض الفعل المستحبّ قد يرضى عنه الله رضًا يكون سببًا في النجاة .
لاينبغي للأمي أن يقرأ ترجمة معاني القرآن الكريم
جاءني ناسك أمّيٌّ بمصحف مُتَرْجَم بالأردية – ويسميه العوامّ عندنا “قُرْآنِ مُتَرَجِّم” كما كان أحد ذوي قرباي يقول لديوان المتنبّئ “ديوان مُتَبَنِّي” – وكانت الترجمة لصاحبها الشيخ عبد القادر الدهلوي (1167-1230هـ = 1753-1814م) ابن الإمام الشيخ الشاه أحمد وليّ الله الدهلوي (1114-1176هـ = 1703-1762م) ابن الشيخ عبد الرحيم الدهلويّ (1054-1131هـ = 1644-1718م) وقد رُوْعِيَ فيها كثيرًا الأسلوبُ الأرديّ المُتَّبَعُ . وكان قد قرأ ترجمةَ الآية الكريمة : “فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُم وأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ” (المائدة/6) فقال لي: إن القرآنَ يدلّ على المسح بالرجلين لا على غسلهما. فتحيّرتُ كثيرًا بحثًا عن الأسلوب الذي أُقْنِع به هذا الجاهلَ ؛ حيث إنه لايعرف “العطفَ” ولا “الإعرابَ” فقلتُ له : أيها الناسك ! كيف علمتَ أن هذا هو القرآن وأنه كتاب الله . قال: عن طريق قول العلماء . قلت: الله أكبر! إن العلماء أمناء صادقون في أن يقولوا عن “نصّ عربيّ” إنه كتاب الله ، وليسوا أمناء صادقين في أن يقولوا بأنّ غسل الرجلين هو الفرض ! فالعلماء – أيها الناسكُ – هم الذين قالوا بأنّ غسل الرجلين فرض ولايجوز المسح به ، وكذلك قالوا: بأن قراءةَ ترجمة معاني القرآن لاتجوز لأمثالك ، فحذارِ أن تقرأها أبدًا ، واكتفِ بتلاوته ، ولا تقرأنّ ترجمةَ معانيه.
قصّة رجل طاعن في السنّ
وأشدُّ من ذلك أنّه كان رجلاً مُسِنًّا مواظبًا على صلاة التهجّد ، وقراءة الأوراد والأذكار، جاءني فقال لي: أفهل يجوز لي أن أترك قراءة كلمة “رِاعِنَا” لدى تلاوة القرآن ؛ حيث إن الله تعالى يقول : “يـٰـأَيُّهَا الَّذِيْنَ ءامَنُوا لاَتَقُولُوا رَاعِنَا” (البقرة/104) قلت له : لا تتركْ “رَاعِنَا” ولكن اتركْ منذ اليوم للأبد قراءةَ ترجمة معاني القرآن ؛ لأنك لاتحمل أهليّة فهمها .
يا سادةُ ! إن أمثال هؤلاء هم الذين أفسدوا الشريعة ، من الذين صاروا “مجتهدين” بمجرد قراءة ترجمة معاني القرآن أو الحديث ؛ فإذا مُنِعُوا عن قراءة ترجمة كل منهما نظرًا لعدم أهليتهم ، ولم يُرَدَّ على شبهاتهم التي تورَّطوا فيها لأنهم لايقدرون على فهم ما يُرَدُّ به عليهم في صدد الشبهات ؛ فمنهم من يصارح: أن العلماء لايستطيعون أن يردّوا على أسئلتنا. فأقول لهؤلاء! وا أسَفَا على أنكم تعجزون عن الفهم. إن هناك جوابًا لكل سؤال ، ولكن هل هناك من يفهمه ويستوعبه ؟. أيها السادة ! إن هذا الاعتراض لاتوردونه على العلماء وإنما توردونه على عقولكم أنتم ، ولكنكم لاتعلمون.
كما حَدَثَ أنّ امرأةً وقفت عندنا تَتَحَرَّىٰ الهلالَ، وقبل أن تقف كانت قد نَظَّفَتْ غائطَ صبيّه بخرقة، فالتصق شيء منه ببعض أصابعه . ومن عادة النساء أنهن يضعن أصابعهن على أنوفهنّ ؛ فهذه المرأة وضعت إحدى أصابعها على أنفها ، فدخلت رائحةُ الغائط أنفَها ؛ فعادت تقول ! يا أَسَفَا ! إنّه ما أنتن الهلالَ الذي طلع هذه المَرَّةَ ؟!.
فذلك هو حال الجهلاء الذين يعترضون على العلماء ، ويقولون : إنهم يعجزون عن الإجابة عن أسئلتنا ، ولا يدركون أنهم هم الذين يعجزون عن استيعاب الأجوبة .
ومَثَلُ ذلك مَثَلُ عالم من علماء الطبيعة يقول لأستاذ : اِشرح لي قضية كذا من قضايا الأقليدس ، فيشرح له الأستاذ ، ولكنه لايفهم شرحَه ، ويقول : لا أدري بماذا يهذي؟!. فقل لي: من هو المذنب في هذه القضية ؟ إنّ الذنب إنما يعود إلى عقل العالم . ولكن الجهلاء إنما يرجعون الذنبَ إلى الأستاذ ويقولون: إنه هو الذي يهذي ، كما قال العالم .
كما حَدَثَ أنه نُظِّمَتْ مناسبةٌ للوعظ في جزء مُخَصَّص للنساء من دارنا ، وحضرتْها سيدة كانت زوجةً لحائك ، واستمعتْ مصغيةً ساعةً ، ولزمت الصمتَ ؛ ولكنها لم تفهم شيئًا من الوعظ ، فراحت تقــول : لا أدري بماذا ينبح الواعظ الـذي يلقي الوعظَ . وحقًّا كان ما قاله الواعظ “نباحًا” بالنسبة إليها . فقل لي: إن مقالتها هذه كانت انتقادًا للواعظ أو لعقلها هي؟!.
وكذلك إذا عجزتُ عن تفهيم الناسك قاعدةً علميّةً ، فالذنب لايعود إليّ ، وإنما يعود إلى فهمه وعقله هو ؛ حيث بلغ من غبائه أن القائم على المسجد كان قدكلّفه أن يضع السراجَ لدى الظلام في دورة المياه ، فكان أن حمل السراج ذات يوم ليضعه فيها ، فوجد فيها طالبًا من طلاب العلم ، فقال له : أيها السيّد المولويّ! أغمض عينيك ؛ لأني أريد أن أضع السراج في دورة المياه ؛ فكأنه أراد أن يرى الطالبَ عريانًا ، ولم يَرَه هو مُتَزَيِّيًا ؛ فمثلُ هذا الغبيّ من يستطيع أن يفهمه أن كلمة “أرجلَكم” الواردة في القرآن ترتبط أصلاً بكلمتي : “وجوهَكم وأيديَكم” أي إنّها معطوفة على المنصوب ، وليست معطوفة على المجرور . إن الذي لا إلمام لديه بقواعد النحو لن يفهم هذا الجوابَ ، فإفحامُ مثله إنما يتأتّى بأن يقال له : إن الطريق الذي به علمتَ أن القرآن كتاب الله ، هو الذي يجب أن تسلكه لمعرفة الأحكام ، ولايجوز لك ان تقصد فهمَ القرآن بدورك عن طريق ترجمة لمعانيه . وإنما سقتُ إليكم هذا التفصيلَ حتى لاتظنّوا أنكم بارعون في فهم القرآن ، بمجرد قراءة بعض تراجم معانيه .
——————————————————-
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3 ، السنـة : 32.
[1] عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألم أُخْبَرْ أنك تصوم النهارَ وتقوم الليلَ”؟ قلت: بلى يا رسول الله . قال: “فلا تفعل: صمْ وأفطِرْ، ونمْ وقمْ؛ فإنّ لجسدك عليك حقًّا ، وإنّ لعينك عليك حقًّا ، وإنّ لزوجك عليك حقًّا، وإنّ لزَوْرك عليك حقًّا ، وإنّ بِحَسْبِكَ أن تصومَ في كلّ شهر ثلاثةَ أيّام ؛ فإنّ لك بكلّ حسنة عَشْرَ أمثالها ؛ فإنّ ذلك صيامُ الدهر” (أخرجه البخاريّ ، كتاب الصوم ، باب حق الجسم في الصوم ، رقم الحديث : 1975).
[2] عن أنس – رضي الله عنه – قال: كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “اللهمَّ إني أعوذبك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل ، وأعوذبك من عذاب القبر، وأعوذبك من فتنة المحيا والممات” . (مسلم، رقم الحديث: 2706).