الفكر الإسلامي
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى 1297هـ/1880م رئيس الطائفة المؤسسة لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد القاسمي ، أستاذ بالجامعة الإسلامية : دارالعلوم ، ديوبند ، الهند
محضر الاجتماع في اليوم الثاني:
ما إن دَقَّتْ عقاربُ الساعة السابعةَ صباحًا حتى حضر المناظرون والمستمعون مجلس المناظرة، وحضره علماء المسلمين على اسم الله وبركته كذلك ؛ فلما أخذوا مجالسهم اقترح القسيس “نولس” على الشيخ محمد قاسم أن يُوَسِّعَ في الموعد المحدَّد للكلمة وقال له : إنّ القسيس “إسكات” يلقي اليوم كلمته من قبل المسيحيين . فقال له الشيخ محمد قاسم : قد رجوتك بالأمس مرارًا أن تحدِّدَ ساعةً لكل كلمة ، فما رفعتَ بنا رأسًا ، فلما رأيتَ اليوم ما فيه نفعك طلبت منّا مارفضته بالأمس . لقد قُطِعَ الأمر، وحُمَّ القضاء، فلا يوسَّعُ في الموعد المحدد للكلمة الآن ، ولا يُسْمَحُ القسيس “إسكات” بإلقاء كلمته ، قد ذهب له الوقت مع تعيين الشروط ، ولايكون ذلك الآن . وإلا يعني ذلك أنّنا – مع كوننا أعضاءً في المناظرة – ساقطون من حساب المناظرة، وأنتم الأصل وواسطة العقد فيها .
لا أخاف “إسكات” حتى أستاذه :
فقال القسيس “نولس”: إنك تخاف القسيس “إسكات” فقال الشيخ: أنا لا أخاف – بفضل الله و منّه – القسيس “إسكات” حتى أستاذه ، بل القساوسة كلهم ، وإنما أريد أنْ أُشْعِركُم بأنَّ من يفي بالعهد ومن ينقضه ، وينكصُ على عقبيه . أنا راضٍ سواء تحدِّد ساعةً أو ساعتين أو أكثر للكلمة ، وتدعو من تشاء لإلقائها ، أنا راض كلَّ الرضا ، فإن كنت تدخل القسيس “إسكات” ضمن المناظرين فأنا أضمُّ اسم الشيخ محمد علي ضمن المناظرين كذلك .
أذكر أنّه قد اتَّفَقَ الأطراف الثلاثة على أن تُحَدَّدَ نصفُ ساعةٍ للكلمة ، وعشر دقائق للنقاش عليها ، واختلفوا كذلك فيمن يقوم خطيبًا أولَّ الأمر ، فقال الشيخ مرارًا : إن كنتم تخافون فاسمحوا لي ، فأكون أنا أول من يُلْقِيْ كلمته .
القساوسة يحتالون حيلةً أخرى :
فلما بُتَّ هذا الأمر وتقرَّر احتال القساوسةُ حيلةً أخرى ، فقالوا: أولُّ ما يبحث فيه هو السؤال الرابع من الأسئلة التي طرحها المنشئ “بيارى لال” فقال الشيخ محمد قاسم: إن كنتم تريدون البحث في الدين وإثباته فأوَّلُ ما يبحث فيه هو ذات الله تعالى أهي موجودة أم لا؟ فإن كانت موجودةً فواحدة أم متعددة؟ ثم صفاته تعالى، ماهي الصفات الخاصة، أهي موجودة فيه أم لا؟ ثم تجلياته ماهي الأشياء التي تنعكس عليها تجلياته انعكاسَ الشمس على المرآة، وماهي لاتنعكس عليها؟ ثم النبوة والاحتياج إليها، ومن هم أنبياء ومن ليسوا بأنبياء، ثم الأحكامُ ماهي تنطبق على الأصول المذكورة وماهي لاتنطبق عليها وماهي صالحة للتسليم وماهي ليست كذلك، وإن كان الإنصاف يقتضي أنَّ عَقْلَنَة الأحكام حُسْنِها وقُبْحِها – بعد ثبوت نبوة رجلٍ معينٍ – أمر غير مُجْدٍ بل إساءةٌ للأدب؛ لأنَّ العقل إن كان يستطيع معرفة الحسن من القبيح لم تكن إلى الأنبياء حاجة، وإن كان الأنبياء مطاعين واجب الطاعة، نطيع ما يأمرون به كلَّ الطاعة .
على كلٍ فإن كان الغرض هو البحث في الدين وإثباته فاتبعوا الترتيب العقلي الذي قلت لكم بالأمس، وإن لم يكن يُهِمُّكم هذا فاتبعوا الترتيب الذي طرحه المنشئ “بيارى لال”، فنحن علماء المسلمين راضون بكل من الأمرين إن رضي علماء الهندوس .
علماء المسلمين لا يُصِرُّون على شيء :
وجملة القول أنَّ علماء المسلمين لم يُصِرُّوا على أن يُفعَلَ شيء أو لا يُفْعَل. وأما علماء الهندوس والقساوسة فقد أصَرُّوا على الأسئلة وتحديد الموعد. وأما إصرار علماء الهندوس على الأسئلة المذكورة وعدم رضائهم بتوسيع الموعد فذلك أنَّ الأسئلة المذكورة – كما أخبر بعض الثقات – كان قد وضعها الباندت “ديانند”، وإن كان المنشئ “بيارى لال” فيما يبدو مُوَجِّهًا للأسئلة. طبيعي أنَّ من يضع الأسئلة وحَضَر لذلك قبل أسبوعٍ، لايواجه أيَّ صعوبةٍ في الإجابة عنها. وأما من لم يكن عارفًا بالأسئلة ولم يكن لديه كتب فهو يواجه صعوبةً في الإجابة عنها .
لماذا يرفض علماء الهندوس توسيع الموعد ؟:
يبدو أنَّ علماء الهندوس رفضوا توسيع الموعد بادئَ ذي بدءٍ ظنًّا منهم أنّ الأسئلة معروفة لديهم ومفهومة لهم ، فيجيبون عنها بسرعةٍ عاجلةٍ . وأما من لايعرف هذه الأسئلة فهو يواجِهُ صعوبةً في الإجابة عنها. ومن الممكن أنَّ الباندت ظنَّ أنَّ القساوسة لايعرفون الفلسفة والإلـٰـهيات، وأما المسلمون ففيهم علماء بالفلسفة والإلهيات ليس لهم نظير في العالم، إلا أنَّ من يشتغل منهم بمناظرة القساوسة ومحاورتهم لايعرفون من الفلسفة والإلـٰـهيات شيئًا. وهؤلاء هم الذين سيحضرون الاجتماع، فيتورطون في هذه الأسئلة، فإن طُرِحَتْ أسئلة من النوع الآخر كان الانتصار على علماء المسلمين والغلبة عليهم أمرًا مستحيلاً. وقد كان انتصار علماء المسلمين في اجتماع السنة الماضية حديث المجالس والنوادي؛ فاحتالوا هذه الحيلة .
لماذا يُصِرُّ القساوسة ؟:
وأما إصرار القساوسة على هذه الأسئلة فيبدو أنه كان لأمرين، الأوَّل: أنّ القساوسة ظنّوا – كما ظنّ علماء الهندوس – مما أشار إليه الشيخ محمد قاسم عن هذه الأسئلة أنَّ علماء المسلمين لايعرفونها؛ فليكن أول ما يبحث فيه هو هذه الأسئلة ؛ فيفتضح علماء المسلمين وينهزمون وتسوء سمعتهم التي نالوها بالانتصار في اجتماع السنة الماضية .
والثاني أنَّ القساوسة كانوا يثقون بأنَّ القسيس “إسكات” له القدح المعلى في علم المعقول ، وقد ألَّف كتابًا في المنطق وأجازته الحكومة بخمس مائة روبيةٍ، – سيحضر الاجتماع مساءً ، فلينقض هذا اليوم كيف ما اتفق، وهكذا كان، فقد انقضى اليوم الأول في الإصرار والإنكار، ولم تجرِ المناظرة، فلما حضر القسيس “إسكات” مساءً، ورأى الأسئلة ارْتَاعَ، فطلب أن يبحث أول ما يبحث هو السؤال الرابع .
وأما الموعد المحدد للكلمة فقد أراد القسيس “نولس” – لما رأى الخطب الطويلة لعلماء المسلمين في اجتماع السنة الماضية – أن يُضيِّق الموعد أشدَّ الضيق ، فرضي بصورة أو أخرى بتوسيع الموعد من أربع دقائق إلى عشرين دقيقةً، مع أنه قد قيل له : إنّك ما حدّدت أكثر من خمس عشرة دقيقةً في السنة الماضية رغم إصرار علماء المسلمين على تحديد أكثر من ذلك ، فلما ألقيتَ كلمتَكَ وانقضى الموعد المحدّد اضطررت أن تستأذن الشيخ محمد قاسم المزيد من خمسَ عشرة دقيقةً، وتُعَاود اليوم ما فعلت في السنة الماضية بعد هذه التجربة ، ولكنه لم يلتفت إلى ذلك شيئًا .
يحتال القساوسة حيلة أخرى لهزيمة الخصم :
فلما أَيْقَنَ القسيس “إسكات” بفشله وهزيمته عَمَدَ – رغم تعيين الشروط كلها – إلى تعديلٍ في شرط الموعد من التضييق إلى التوسيع. وأما علماء المسلمين فقد أصروا في اليوم الأول في شأن الشروط والأسئلة؛ لأنَّ الغرض الأصلي من رواء الاجتماع هو البحث في الدين فلا تخيب آمال المستمعين الذين حضروا الاجتماع لاستماعه.
ومن الممكن أنَّ القساوسة عمدوا إلى تعديل في شرط الموعد ظنًا منهم أنَّ ما يسمعه الناس كثيرا يفهمونه بسهولة، ومالا يسمعونه فمن يفهمه؟. كما أنه من الممكن أنَّ القساوسة أرادوا أن يتظاهروا بعجزهم وتواضعهم حتى يتكبر الخصم ويقطع المستمعون رجاءهم منه، فإذا هُزِمَ الخصمُ كان ذلك أدعى إلى الفرح وأجلَبَ للسمعة.
خشيةَ أن يتوهم المستمعون أنَّ علماء المسلمين يلوذون بالفرار وينأون بجانبهم وأن يشهِّر بذلك القساوسةُ وعلماء الهندوس قال الشيخ محمد قاسم: نحن راضون بكلِ شكلٍ من الأشكال، فأرضوا الباندت. إلا أنَّ الباندت لم يرضَ بذلك. فجُعِلَ الأمر إلى المنشئ “بيارى لال”، فمال المنشئ إلى الباندت ووافقه في رأيه قائلاً: عندي أن يبحث في الأسئلة مُرَتِّبَةً.
فاضدر القسيس ورَضِيَ قائلاً: “حضرتُ مساءَ الأمسِ فقال لي إخواني المسيحيون: تُلْقِي كلمتك ردًّا على السؤال الرابع، فدرسته وحضَّرت له” فلما أبيتم إلا أن ألقي كلمتي على موضوع السؤال الأول من الأسئلة فأنا راضٍ اضطرارًا. والسؤال الأول هو أنه متى خَلَقَ الله العالم ومِم خلقه ولماذا ؟
كلمة القسيس إسكات :
نهض القسيس إسكات إلى منصة الخطابة، لِيُلقي كلمته في السؤال الأول فقال: “يسئلُ السائل: مِمَّ خَلَقَ الله العالم؟ فأجيب أنَّه خلقه من العدم، خلقه من قدرته، خَلَقَه من إرادته. وأما سؤاله: متى خلقه؟ فهذا أمرغير جدير بالسؤال، وما يُهِمُّ العبد أن يسئل متى خلقه؟ هذا ليس مما يتعلق بالبحث في الدين، ولم يرد في الكتب الدينية. وأما المؤرخون فلهم في ذلك أقوال مختلفة وآراء متضاربة، إلا أنّه من المؤكّد أن للعالم بدايةً. وأما سؤاله لماذا خَلَقَ؟ فأجيب: خَلَقه لأنّه شاءَه، وهو يفعل مايشاء وفَعَّال لمايريد. وخَلْقُ العالم لاينفعه، وإنّما ينفع غيره”.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1429هـ مارس 2008م ، العـدد : 3 ، السنـة : 32.