دراسات إسلاميــة
بقلم : الأستاذ خالد القاسمي
جامعة نكر، دهلي الجديدة
تهدف القوانينُ الإسلاميّةُ أساسًا إلى حماية خمسة أمور أساسيّة مِن الدين والحياة والعقل والذريّة والمُمْتَلَكات ولحماية هذه الأمور، اختار الإسلامُ طريقتين ، طريقَ التوعية الدينية والإنسانية والتربية الخلقية أولاً ، وطريقَ وضع عقوبات رادعة تَتَمَثَّلُ أساسًا في الحدود والقصاص والتعزير ثانيًا .
ليست القوانينُ الإسلاميّةُ مثلَ النظريّات البحثة الأخرى التي يصعب تطبيقُها وتنفيذُها مِن الناحية العمليّة ؛ فهي تتميّز بسهولتها وبساطتها وتوافقها مع الحاجات الأساسيّة والفطريّة للإنسان، وتُسَاعِد في إيجاد مجتمع إسلاميّ يَتَّسم بعلاقات المحبّة والتعاون والتعاطف مع الآخرين ؛ فلا مكان لمشاعر دنيئة مثلِ العدواة والبغضاء في مُجْتَمَع إسلاميّ يلتزم بتعاليم الإسلام التزامًا كاملاً . والقوانينُ الإسلاميّةُ كلُّها سواء كانت لها صلة بالعبادات أو العلاقات والتعاملات فيما بين أعضاء المجتمع أو داخلَ الأسرة والبيت أو الأخلاق الإسلاميّة أو الحكومة والإدارة والسياسة؛ فهي تخدم هدفًا نبيلاً واحدًا يَتَمَثَّل في تقوية أواصر العلاقة فيما بين المسلمين .
وتبرزُ أهميّةُ مبدأ الوحدة والمساواة لدى أداء الصلوات الخمس اليوميّة مع الآخرين ؛ فيُعْبَد إلهٌ واحدٌ ، ويُتَّبَعُ رسولٌ واحدٌ ويتمّ التوجُّهُ إلى قبلة واحدة كما يتمّ تلاوةُ السور والآيات من كتاب واحد هو القرآن الكريم . ويتمّ القيامُ بهذه الأعمال من قبل الجميع بدون أي تمييز بين الفقير والغنيّ ، والصغير والكبير، والشاب والشيخ والرجل والمرأة .
ويُطبَّق نفسُ المبدء على الأعمال الدينيّة الماليّة ؛ حيث يَفرِض القانونُ الإسلاميُّ أداءَ الزكاة للفقير المحتاج ويطلب من المسلم مساعدةَ المحتاج مِن أصدِقائه وأقرِبائه . وفي حالة ارتكابه أمرًا مُحَرَّمًا ، يجب على المسلم أداءُ كفّارة في صورة توزيع مبلغ من المال على الفقراء .
ويأمر الإسلامُ كذلك أن يتعامل المسلمون بالرِفق والمودة والسلوك الحسن مع المسلمين الآخرين وأن يتعاونوا فيما بينهم ويُساعد بعضهُم البعضَ عند مواجهة المِحَن والشدائد وأن يَمْنَحُوا قروضًا للمحتاجين الذين يمرّون بالأزمات المالية.
وكذلك ، يدعو الإسلامُ إلى التمسّك بالأدب والتواضع والاحترام ومُرَاعاة الآخرين والمبادرة بالتحية والتسليم عند اللقاء والاستقبال الدعاء بالسعادة …. والمشاركة في تشييع الميت والدعاء له بالرحمة والغفـران وذكر محاسنه واحترام جثمانه بعدم المشي على قبره أو حفره بدون الحاجة . إضافةً إلى ذلك ، فإنّ المسلمين مأمورون بتقديم التعازي والمواساة لأسرة الميت وبإكرام الناس والتعامل معهم بالجود والسخاء وبمساعدة الفقراء واحترام ذوي العلم وإظهار المحبّة والمودة للأقرِباء ودعم المظلومين والضعفاء ومنع الظالم من ظلمه .
وهكذا ، يسعى الإسلامُ لإيجاد مُجْتَمَعَ مثاليّ يخلو من دوافع ارتكاب الجرائم واضطرابات عاطفيّة ونفسيّة أخرى ، ويتمتع كل شخص بالأمن والعدل والحرية والاحترام والحب مِن قبل أعضاء المجتمع الآخرين .
ولذا ، عندما يتمّ ارتكابُ جريمة في مثل هذا المجتمع الإسلاميّ المثاليّ ، يُعْتَبَرُ ذلك انحرافًا يُؤَدِّي إلى عقوبات وردود فعل مؤلمة .
لقد أولى الإسلامُ أهميّةً بالغةً للعدل وجعله أساسًا يقوم عليه العالم كلُّه . ومن منظور الإسلام، يتمتع كل من الكافر والمسلم والعدو والصديق والحليف بحقوق متساوية أمام العدل . «يَأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ لِله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ، وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَّ تَعْدِلُوْا اِعْدِلُوْا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُو اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُوْنَ». (سورة المائدة،8) .
والحقيقة أنّ الإسلامَ يسبَق نظامَ العدل الحديث بإعلان : «يَأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيْرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تُعْرِضُوْا ، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرًا . (سورة النساء، 135)
كان العدلُ والمساواةُ والحريةُ مِن أبرز أجزاء رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ذَكَّرَ النّاسَ بأنّهم بنوآدم وأدمُ مِن تراب . «يـٰـأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ، إنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ» . (سورة الحجرات، الآية 13)
كان العدلُ والمساواةُ واضحًا جليًّا في العهد الإسلاميّ الأول ، عند ماتمَّ اختيارُ أبي بكر رضي الله عنه لِتَوَلِّى منصب الخليفة الأول إثرَ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، اتَّجَهَ كعادته إلى السوق لكسب الرزق له ولعائلته ، الأمرُ الذي أصبح موضوعَ الكلام لدى الناس ؛ فاجتمع المسلمون لمناقشة الموضوع وقَرَّرُوا اعتبارَ الخليفة الأول كمُوَظَّف للمجتمع ومنعوه عنِ العمل وخَصَّصُوا له راتبًا يفي بحاجته ولم يتجاوز بضعةَ دراهمَ له ولعائلته ، مما يدلّ على وجود تمييز بين خليفة المسلمين وعامّتهم .
وكان من نتائج هذا الشعور بالعدل والمساواة والحرية أن قام عُمر رضي الله عنه الخليفة الثاني في الإسلام الذي كان قد فتح دولَ قيصر وخُسرو ، يَنْهَرُ أحد أمرائه عمروبن العاص الذي كان ابنُه قد تَعَامَلَ بطريقة استبداديّة غير لائقة مع قبطيّ مسيحيّ ، قائلاً : يا عمروُ! متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا !.
توفير العدل الفوريّ والمناسب للناس من أهم سمات الإسلام ، عندما حاول أسامة رضي الله عنه ، التَوَسُّطَ لدى الرسول صلى الله عليه وسلم عن امرأة مخزوميّة كانت ارتكبت جريمة السرقة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ، غضِب الرسول على هذا التوسط والاجتراء على الكلام في حدٍّ مِن حدود الله ثم قام خطيبًا وقال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدَها» .
يهتمّ نظامُ العدل في الإسلام بمراعاة الظروف والأوضاع التي تَمَّ ارتكابُ الجريمة فيها قبل الإدلاء بالحكم عنها .
أقدم البعضُ مِن ذوي الحاجة على السرقة بسبب شدة الجوع . فقد ورد في كتاب أعلام الموقعين أن البعض من عبيد حاطب بن أبي بلتعه سرق ناقةً لرجل من قبيلة «مزينة» فتمّ إحضار السارقين أمام عُمر، واعترفوا بجريمتهم . وعندما حَضَرَ حاطبُ بن أبي بلتعه ، طَلَبَ منه عُمر الذهابَ بالسارقين وقطع أيديهم ولكنّه غيّر رأيَه بعد قليل مِن الوقت قائلاً : تعاملك السيّئ هو الذي دفع هولاء الرجالَ لارتكاب جريمة السرقة. كُنتُ قد رضيتُ بقطع أيديهم لوكنتَ تعاملتَ معهم وأطعمتَهم جيّدًا . وطلب عُمر من حاطب بن أبي بلتعة دفع غرامة ، وعندما اقترح الرجل من قبيلة مزينة بأن تكون الغرامة أربعمائة درهم ، رفضَ ذلك عمر وطلب دفعَ غرامة قدرها ثمانمائة درهم .
وبينما تَمَّ تصنيفُ الجرائم وتحديدُ العقوبات المناسبة لكل منها مِن قبل القوانين الإيجابيّة ، فإن هذه القوانين تنقصها القدرةُ على منع المجرمين مِن السعي لارتكاب الجرائم في حالة عدم وجود من يحرس عليهم مِن السلطات القضائية أوالجهات المراقبة الأخرى .
أما الشريعة الإسلاميةُ فهي تُؤَثِّر على ضمير الإنسان وتقضي بذلك على الشر قبل أن يدفع الإنسانَ إلى ارتكاب الجريمة ؛ فالشريعةُ الإسلاميّةُ تؤثر على ضمير المسلم وتَنْفُذُ إلى وعيه وتُطَهِّره من جذور الشر. والمجرم ، حتى ولولم يُشاهده أحدٌ وهو يرتكب الجريمةَ ، يُلح على الإعتراف بذنبه بهدف تنفيذ قضاء الله في حقّه وتطهيره مِن أدناس الجريمة التي ارتكبها – وليست قصةُ المرءة الغامدية إلاّ نموذجًا لمدى تأثير الشريعة الإسلاميّة على ضمير المسلم ، حيث جاءت عدَّةَ مرات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترِفةً بذنبها ؛ ولكنه أَجَّلَ تنفيذَ الحد عليها ولدت طفلَها وأتت بالصبيّ وفي يده كِسرةُ خبز، فأمرالرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بإجراء الحدّ عليها وعندما نضح دمُها على وجه خالد بن الوليد ، سَبَّها فسمع بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: مهلاً يا خالد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مكس لغُفِرَ له ويروي عُمران بن حسين أن عُمر استغرب استغفارَ الرسول صلى الله عليه وسلم للزّاني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنه تاب توبةً لو قُسِمت على سبعين آثما مِن أهل المدينة لَغَفَر اللهُ لهم جميعًا.
العقوباتُ في الإسلام تَتَّسِم بجوانب الترشيد والرحمة بالنسبة للمجرمين بدلاً مِن اتهامهم بشيء أو خلق النفرة والكراهية إزاءَهم .
ومِن أهمّ أهداف نظام العدل في الإسلام هو إقامة العدل في المجتمع وحماية حقوق الناس وأرواحهم ومُمْتَلَكاتهم وتسوية الخلافات .
(نُشِرَتِ المقالةُ في مجلة Radiance الأسبوعية ، باللغة الإنجليزية ، ونقلها إلى العربية كاتب المقال بنفسه)
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32.