دراسات إسلاميــة
بقلم : الأستاذ عبد اللّه بن محمد السعودي
يجسد الانحباس في تشكيلة فكرية تنتهج توجهًا منهجيًّا ذا طابع نهائي مغلق أحد أبرز تجليات ثقافة التعصب كحقيقة وبائية تتموضع في الذوات، فتمارس فاعليتها الحدية من خلالها عبر توسيع المسافات البيئية وإذكاء أوارها على نحو ينعكس سلبًا على مستوى الاستقرار الأهلي ووحدة النسيج العام، يجري هذا بنجاح بالغ بفعل ما تضخه هذه الثقافة من الزخم الوجداني الأنوي وما تختزنه من الأبعاد المتشبعة بالحتمية المتجافية عن القيم المعيارية العليا، والنائية بالعقل عن مساحة التفاعل والموارية المقومات السواء السلوكي. في حالة التعصب كفاعلية تقويضية وكمنتج ثقافي للذهن الأحادي الخاضع في بنائه الثقافي للصوت الواحد، وللنمط الأبوي التوجهات، يجري تمحور المحاكمات العقلية حول المناحي الوجدانية، والدوران في فلكها بشكل يؤسس للوعي الوثوقي المتكئ على الجانب الانفعالي المعلول أكثر من توسله لمنطق الاجتهاد الاستدلالي المتسق. عندما تتربع هذه الذهنية الجزمية على مساحات فسيحة من مفاصل البنية الاجتماعية فثمة مخرجات عاملة في السلب ليس الارتداد نحو الداخل والانكفاء على الذات والتجافي عن التماس المعرفي المنضبط مع المغاير إلا تجل واحد من تمظهراتها المتنوعة. إن إشكالية التعصب كحالة مرضية لا تحتوي على ما يبررها، خُلِقَتْ عبر امتداد تاريخ البشرية المديد العديد من المآسي من حروب ومجازر آلت بطبيعتها إلى تمزيق اللحمة الداخلية وتعميق التمزقات المهددة للمشروع الإصلاحي، والمفضية بالضرورة إلى انهيار أسس الإجماع العام وتداعي بواعثها. سيادة روح التعصب ليست حديثة بل هي ضاربة في جذورها في القدم، و(إبليس) كرمز محض لأكثر الحقائق سلبية هو المجترح الأول لهذه الحالة المناهضة للسلوك السوي الرفيع، وقد كان التعصب لمنهج الآباء وللأفكار العرفية المتواضع عليها كاستجابة سيكولوجية لإملاءات المحيط الاجتماعي القائم هو الداء الناخر في جسد الإنسانية على مدار التاريخ، وهو الحالة التي أرهقت الماضي والحاضر بمتباين تمظهراتها، و(الفخر الرازي) يشير إلى هذا بقوله: (ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء ساريًا في عروق الأكثر من أهل الدنيا: داء التعصب للمذاهب واللرأي وللفكر واللسياسة وللحزب سار في أكثر الناس).
إن مستلزمات روح التفتح الحيوي تتنافى تمامًا مع الانغلاق على فضاءات رئيوية صارمة بفعل تمترسها خلف وابل من الأطروحات الدوغمائية المتمركزة حول الأنا على نحو لا يعبر في أسمى نماذجه إلا عن انفصال مفرط عن الحقيقة لازال سوسه ينخر في هياكل المجتمعات الإنسانية، ويشتغل على إفناء وجودها الحضاري. الذهنية الإستاتيكية التي يتعذر عليها أن تحقق نماء عرفيًا متضاعفًا عبر وحدات الزمن هي المرشحة وبدرجة عالية للإصابة بآفة التعصب كنقيصة مستحكمة تفضي لإضفاء الصبغة المطلقة على معتنقاتها ومنح القداسة لأدبياتها المتداولة ولتقاليدها المصطلح عليها عرفًا. إن الرؤية الإسلامية زاخرة بالمفردات المنددة بالسلوكيات المنبثقة من إملاءات العقدة الأبوية بحسبها آيلة بمنتجها إلى الغرق في مستنقعات العمه الفؤادي – الذي هو بطبيعة الحال أشد من العمى البصري – وحينئذ يتملكه تصلب ذهني يتعسر عليه التحرر من ربقته، ويفقد جراءه القدرة على إنعام النظر والتمعن والتحليل برؤية وتؤدة. تتمدد الروح الأنانية على هذاالعقل ذي القناعات الحادة، فتسيطر على تفاصيل وعيه ويستلم لمقتضياتها، يضعف إزاء سلطتها، ويتقازم أمام تسلطها، فيحكم على عقله بالوأد كبديل رمزي يضاعي إقناء الروح وتغييبها. الوعي هنا يقطع بمعقولية متبنياته، واستعصائها على التحوير وتأبيها على التاطير المعرفي حتى ولو استحالت الظروف التاريخية، وتحولت السباقات الزمكانية، يترسخ لديه اعتقاد جازم بتعذر إخضاعها لأي مقاربة تحليلية مهما بلغت – هذه المقاربة – من الحصافة النقدية .
إن التعصب كاتجاه ذي منشأ سكولوجي مناهض لمبدأ العدل والإنصاف يحضر بوجهه الكالح في الساحة الفكرية على مستوى عالمنا العربي، فثمة تياران متناقضان يتقاسمانه في مستوييه القولي والعملي أحدهما: تيار التطرف العلماني الحاد، والآخر تيار التطرف الديني المضاد. يبدوان متناقضين، ولكن ثمة وشائج قربى تنتظمهما في العمق، النهم العنفي هو القاسم المشترك الأكبر بينهما، فهو خاصية لازمة وجزء من التركيبة التكوينية لهذين التيارين اللذين يجمع بينهما خطاب التعصب، هذا الخطاب ذو البعد الواحد حتى ولو ادعى غير ذلك، حتى ولو تظاهر بنقيضه، فهو ينغلق على ما يدين غيره به، إنه يتوخى مثاليةً لا تتسق والبنية الطبيعية للأشياء. فهو يتشبث برؤى تتمرأى له ذات طبيعة نوعية يصعب الاهتداء إلى ما يضارعها. المتعصب هنا تتلبسه الفكرة ويتلبس بها، يفنى بها عن غيرها، تأسره دون أي احتمال للانعتاق من قيودها، يتعاطى وفقًا لإملاءات موجباتها، ويعيش وضعية الاستنفار المطلق للذود عنها، يزدري ما باينها، ويقف منها موقف التحفظ والتعالي .
إن ثمة عناصر متعمقة في أغوار هذه العقلية الوثوقية تحتفظ بكينونتها فتتعالى على الزحزحة وتتمنع على التحوير؛ لأن حركة العقل هنا وطريقة تفكيره مرهونة بإطار محدد؛ فهي تتوجه صوب المرغوب فيه وجدانياً. المتعصب وخصوصًا إذا كان من منظري الفكر وحملة الأقلام – لا لتأهيله لذلك وإنما لاحتلاله موقعًا تتقاصر عنه أدواته المعرفية، هذا إن كان لديه أدوات معرفية! – لا يتعاطى مع الاختلاف بوصفه حالة طبيعية وجزءًا من الناموس الكوني والقانون العام، فهذه حقيقة لازالت مؤجلة في وعيه المحكوم بالمنطق الثنائي الضدي في الحكم على الأشياء، فشعوره بوجود المخالف – الوجود النوعي – باعث كاف لإثارة توتره؛ فهو يعتبر هذا بمثابة تجريده من عناصر امتيازه، ولذا يفقد توازنه الكينوني، فثمة تواصل تنافري عدائي لا ودي مع الآخر. إنه يستشعر علاقة صراعية معه يندفع بموجبها لتلمس مصرف تنفيسي، وحينئذ يكون العنف – القولي أو الفعلي – ولا شيء غيره هو الخيار الوحيد الذي لا يعبر عن وجوده إلا من خلاله. هذا الأسلوب يتجلى بارزًا في خطاب التعصب – سواء بمنحاه العلماني أو بنزعته الدينية – فهو خطاب عاطفي لا عقلاني. العاطفة الحادة هي الركيزة التي ينهض عليها، والتأمل في بنيته يسفر عن تجذر حالة انتقاضة وجدانية تتوسل ألفاظ توحي للقارئ الساذج بأن ثمة بُعدًا علميًا يتجلى في هذا السياق مع أنه في حقيقته لايفصح إلا عن بعد غرائزي وجبن معرفي في الصميم! هو خطاب هجائي يتوسل الهجاء – والهجاء العبثي فقط – لأنه لا يملك إلا هو لفرض ذاته وبالقوة! وإقصاء الآخر وتحسير (من الانحسار) دائرة نفوذه المعنوي. هذا الخطاب المتخبط مصاب بفوبيا معرفية حادة يتكتم عليها – كردة فعل مضادة – عبر التلبس بحراك عنفي، وثقافة سلوكية متعطشة ومتشبعة – في آن واحد – بالمنحى الصراع الكارثي الأبعادّ من أشد ما يثير العجب هو أن هذا الخطاب (الحكواتي) بموقع ذاته بوصفه خطاباً حضاريًا تفرضه اشتراطات اللحظة المعرفية، ويجهل – لا يتجاهل – أنه مجرد من كل صفة علمية، وأنه لا يحتوي على أية قيمة ثقافية، وأنه لا يملك إلا العاطفة المراهقة التي تبرز بجلاء عبر الألفاظ العدائية، البكائية التي تبعث على الضحك الاستخفافي حتى عند الثكالى! والتي تتجاوب مع ما وهو قار في نفسيته ومتجذر في أعماقها اللجية. المتعصب الفكري لا يحيط وعيا بذاته، ولا يدرك أنها مفتقرة أشد الافتقار إلى شروط الحضور الحضاري، وهذا ما يجعله يطمح – كنوع من أحلام اليقظة التي تلازمه باستمرار – إلى إشاعة خطابه وتقديم نفسه بوصفه ممثلاً للمعرفة واحد أبرز متمثليها، ولا يعي – بفعل عدم وجود وعيه الذي لم يتشكل بعد – أن المعرفة في أدنى أولوياتها تتنافى مع البنية الأرضية لهذا الخطاب الذي يراد له التمدد على حيز واسع من الوعي الكلي. ثمة نهم عدواني يتملك المتعصب من الداخل فيندفع تحت وطأة هذا الشعور إلى استهداف المغاير والنظر إليه من عل وبذل أقصى درجات الوسع لتشبيحه (أي جعله شبحا) لتضئيل فعاليته الاجتماعية .
إن هذا الوعي المتلاشي لا يعلم أن التعصب حينما يتغلغل في الذات وينحت في مختلف أبعادها أنه لا يعزز حضور الأنا بقدر ما يلغي تموقعها ويخلق العوامل الضامنة لاستمرارية عزلتها الشعورية. إن التسامح كقيمة خُلقية وعنصر مضاد للتعصب هو النمط السوي الذي يتعذر استدعاؤه إلا لذات تحررت من حمولاتها الرامية إلى التحزب والانغلاق. الاعتدال الوسطي كثمرة من ثمار هذه العقيدة التي تنهض مبادئها على الإنصاف والعدل والنأي عن سلوكي الإفراط والتفريط هو الآلية الحضارية التي تتجلى قسماتها في سلوكيات خيار هذه الأمة، وفي ممارسات كل فرد يتمتع بقدر عال من الصفاء النفسي والاستنارة المعرفية على نحو يمكنه من الانفتاح المعتدل على من يباينه الرؤى. هذا المنهج الوسطي يحمل عليه قول (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه: (أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما). إن الحاذق الحصيف يتجرد للبحث عن الحقيقة لا يتوخى ما عداها، فهو في طلب الحق كما يعبر (أبو حامد الغزالي) في (إحياء علوم الدين): (كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له) هذا النمط العقلاني نراه يتجسد في أعلى صوره عند (أبي بكر) رضي الله عنه حيث كان لايورث الجدة السدس لقناعة مترسخة لديه، ولكن عندما روى له أحد الصحابة حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد بأحقية الجدة للسدس عدل عن رأيه وحكم بعد ذلك لها بالسدس، ومن بعده كان العلماء الأجلاء يؤكدون وفي كل مناسبة على نسبية اجتهاداتهم وعلى ضرورة اعتبار المفاهم المغايرة، فهذا الإمام (الشافعي) رحمه الله يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، والشأن ذاته يجري تمثله من قبل (أبي حنيفة) رحمه الله حيث يقول: (علمنا هذا الرأي، وهذا أقصى ما وصلنا إليه، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه). وفي المساق ذاته تجدر الإشارة إلى موقف الإمام (مالك) رحمه الله حينما ألف سفره النفيس (الموطأ) الذي ضمنه خلاصة اختياراته في الحديث والفقه، فذاع صيته في الآفاق ونال بجدارة استحسان الأمة حتى أن (أبا جعفر المنصور) أراد اعتماده منهجًا ملزمًا للأمة في القضاء والفتيا والاجتهاد. لكن الإمام (مالك) رحمه الله – وفي موقف انفتاحي فريد يبرهن بلا عناء على اعتبار كبير للمفاهيم المخالفة وافساح المجال لها – رفض حمل الناس على ذلك بقوله: (يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار فحدثوا، فعند كل مصر حديث علموه، وكل مصيب)، وفي هذا الشأن نجَد الإمام (أحمد بن حنبل) رحمه الله كما ينقل عنه (ابن مفلح) في (الآداب الشرعية) يقول: (مَنْ افتى الناس ليس ينبغي له أن يحملهم على مذهبه ويشدد عليهم) (2-45)،والفكرة ذاتها تتجلى في فكر (ابن تيمية) رحمه الله حيث يذهب إلى أنه (لايجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله) (مجموع الفتاوى) (20-208-209).
إن من نافلة القول: التأكيد على أن ثمة تعصبًا محمودًا يتمثل في الثبات على المبادئ والقواعد الكلية والمسلمات البديهية كما هو الحال في أصول الإسلام وعقائده ومفاهيمه الكبرى وحقائقه الشرعية ومحرماته القطعية كالسرقة وقتل النفس وتعاطي المسكر وقطع النسل.. فهذه بديهيات مسلمة ليست قابلةً للنقاش والجدل وتعدد الرؤى. إن التعصب في هذا السياق شأن يتعذر عدم منطقته. ومن المستقر المعتبر أنه ليس ثمة تموضع فكري إلا وله محاور يتمركز حولها، وليس ثمة نظام أيّاً كان نوعه سياسيًا أم اقتصاديًا أم اجتماعيًا إلا وثمة ثوابت قائمة يتمركز حولها لا محالة؛ بل وتسيطر عليه رغبة جامحة في محاولة استقطاب الآخرين لاعتنقاها. هذا أمر تقوم عليه طبيعة الأفكار حتى ولو ادعى متبنوها الحيوية والبراءة من الثوابت المسلمة. وعلى سبيل المثال (العولمة) ليست سوى مصادرة للنظم الكونية المتنوعة لاختزالها في نظام يتيم، وكذلك (الحداثة) فقد وُلِدَتْ في محضنها الغربي لتنفي المقدس الديني؛ ولذا انطوت في صيرورتها على تقديس لما يتقاطع ضديًا مع المقدس الديني. وكذلك (الثورة التنويرية) في فرنسا تبنت توجهًا لا يتناغم والتعددية الثقافية (تأمل في قضية الحجاب مثلاً)؛ بل حتى (منهج الشك) نفسه ينبعث انطلاقًا من أن الشك ذاته أمر مسلَّم لا يقبل الجدل. وهكذا يبدو وكأنه مناقض لنفسه!!
إن التسامح وليد شرعي لراهن نهضوي يعيشه مجتمع ما؛ ولذا يتحتم علينا تفعيله عبر (التعصب ضد التعصب)، والتسامح إزاء ما عداه، مع الأخذ في الاعتبار أن التسامح لا يعني التنازل عن المبادئ القيمية ولا يعني مواطأة المنشقين على الأسس الفكرية والثائرين عليها، فالتسامح هنا بمثابة التسماح مع المجرم الحاد الإجرام الذي قطع السبيل وسلب الأموال ووأد الأطفال، ونستحضر في هذا المساق تلك الإشارة الألمعية الشعرية من أبي الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف للعلى
مضرًا كوضع السيف في موضع الندى
إن موجبات شروط التألق التنموي العام تفرض استئصال شأفة التعصب أو على أقل تقدير التخفيف من ضراوته والتقليل من لأوائه والحد من تفاقم مسلكه، والإعلاء من شأن التسامح في عصر يخضع في مجمل تركيبه الثقافي لقيم معيارية تتمحور حول التعصب الحاضر وبكثافة مقلقة في مفاصل متنوعة تطول حتى لون البنية البشرية وماهية البُعد المورفولوجي .
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1429هـ = ينايـر- فـبراير 2008م ، العـدد : 1-2 ، السنـة : 32.