اللغة والأدب
بقلم : الأخ الأستاذ ياسر نديم القاسمي
كلّية معارف الوحي والعلوم الإنسانية
الجامعة الإسلامية العالمية ، ماليزيا
لما كان نجيب محفوظ في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية كانت هذه الأيام مرحلة صاخبة في تاريخ مصر وحياةِ محفوظ حيث شهدت البلاد الصراعات الحزبيةَ والمواجهاتِ مع الملك والمستعمر الإنكليزي. فيها تبلورت مواقفُ محفوظ السياسية والاجتماعية والفكرية فاختار الانتسابَ إلى حزب الوفد، ورأى في “سعد زغلول” البطلَ غيرَ المنازع، وآمن بكل أفكار أساتذته الكبار وخاصة “سلامة موسى” الذي دفعه للإهتمام بالبحث في تاريخ مصر وبَعثه، والإيمان بأن لا علاقة لمصر والمصريين بالعرب وأن انتماء مصر هو لحضارة حوض البحر المتوسط ولتاريخها المستقل المجيد القديم، وكان دافعَه لكتابة الرواية التاريخية حيث رغب أن يُقلّد الكاتبَ البريطاني “وولتر سكوت” الذي كتب تاريخ انكلترا في أسلوب روائي. وكما ذكرنا أنه حاول أن يكتب ثلاث روايات حول هذا الموضوع: “عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة” وبرز تأثره بالمسرحيات اليونانية حيث طرح في “عبث الأقدار” قضيّةَ تحكّمِ وتسلّطِ وانتصارِ الآلهة على الإنسان. بينما في رواية “رادوبيس” طرح قضيّة علاقة الإنسان بالآلهة وعمله للتحرّر من حكم الآلهة، ووقوعه تحت تأثير عواطفه.(19)
عصفت الأفكار الاشتراكية التي أتت بها الثورة الشيوعية في روسيا بمصر، وكثر المعتنقون لهذه الأفكار الداعية إلى مايسمى بـ”العدل الإجتماعي، والمساواة، والحرية، ونَيل الشعب لحقوقه”. وآمن نجيب محفوظ بهذه الأفكار التي شكّلت تحوّلاً جذريًا في توجهه الإبداعي، فقد تخلّى عن خطته في كتابة تاريخ مصر واتجه نحو أبناء شعبه من الطبقات الفقيرة التي تعج بها شوارع وأحياء القاهرة، وخصّص لها اهتمامه وإبداعه، وقد تمثّلت هذه المرحلةُ في روايات نجيب محفوظ “القاهرة الجديدة” عام 1945، “خان الخليلي” 1946، “زقاق المدق” 1947، “السراب” 1948، “بداية ونهاية” 1949 وانتهت بالثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) عام 1956/1957.(20)
ما تميّز به نجيب محفوظ عن الكثيرين غيره من المبدعين العرب وحتى الكثيرين من غير العرب أنّه لم يتخل ولم يشك ولم يضعف إيمانه بالأفكار والمبادئ التي آمن بها وتقبّلها واعتنقها في مسيرة حياته الإبداعية الطويلة- وإن كانت تلك المبادئ عادت لا قيمة لها، كالاشتراكية الفاشلة – والتي تتلخّص في:
1- إنّ انتماء مصر حضارةً وتاريخاً إلى حوض البحر المتوسط ولا علاقة لها بالعرب وتاريخهم.
2- لم تشغله في حياته سوى مصر ولم يصرف إهتمامه لأيّ قضيّة قومية أخرى، ولهذا لم يظهر في كل ابداعاته أيّ اهتمام بالقضية القومية العربية ولا بالقضية
الفلسطينية.
3- حزب الوفد هو حزبه المفضل والمثالي ولم يقبل بغيره انتماء، وسعد زغلول هو البطل القومي الذي لم يقبل بغيره زعيمًا.
4- العدالة والحرية والديمقراطيّة هي بديهيات يجب أن تتوفر للناس.
5- أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة في أحياء القاهرة هم الذين شغلوه في حياته ولهم كرّس كل ابداعاته، ولم يكتب عن الريف وأهل الريف أبدًا.
6- الحكام فاسدون ومفسدون ولا أمل في إصلاحهم.
7- الدين جاء ليخلّص الإنسان من العبَث ولكنه فشل في حلّ المشاكل وتوفير الأمان والحياة المعيشية المطلوبة للإنسان.
8- خلاص الإنسان يكون فقط بالعلم ولغة العلم وتَبَوّء رجال العلم لسدّة الحكم.(21)
هذه الأفكار مع كون جلّها فاسدًا تطرح سؤالاً مهمًا: وهو أن نجيب محفوظ لماذا يعد من أعلام الأدب العربي، بل لماذا يعدّ عربيًا عند النقاد إذا كانت القومية المصرية أحب إليه من العروبة؟ إنه لابد من دراسة تبحث مدى صحة هذا الادعاء بأن نجيب محفوظ كان أديب الأمة العربية، أوكان أديبًا عالميًا.
أعماله:
قدّم نجيب محفوظ عددًا كبيرًا من الروايات والأعمال الأدبية منذ بدايات القرن العشرين، وحتى وقت قريب، واستطاعت هذه الأعمال الأدبية أن تُصَوِّر التاريخَ الاجتماعيَّ والسياسيَّ والاقتصاديَّ لمصر خلال القرن الماضي الذي يُعَدُّ أهمَّ القرون التي عاشتها مصر، وتركت بصمتَها الواضحةَ على الشخصية المصرية. فمن أعماله:
همس الجنون نُشِرَتْ لأول مرة 1938 – عبس الأقدار 1939 – رادوبيس 1939 – كفاح طيبة 1943 – القاهرة الجديدة 1944 – خان الخليلي 1945 – زقاق المدق 1946 – السراب 1947 – بداية ونهاية 1948 – قصر الشوق 1956 – السكرية 1957 – أولاد حارتنا نُشِرَتْ في جريدة الأهرام من 21 / 9 / 1959 إلى 25 / 12 / 1959 ولم تُطْبَعْ ككتاب فى مصر – اللص والكلاب 1963 – السمان والخريف 1964 – دنيا الله 1965 – الطريق 1965 – بيت سيء السمعة 1966 – الشحاذ 1967 – ثرثرة فوق النيل 1968 – ميرامار – بلا تاريخ – خمارة القط الأسود – بلا تاريخ – حكاية بلا بداية ولا نهاية 1971 – شهر العسل 1971 – المرايا 1972 – الحب تحت المطر 1973 – الجريمة 1973 – الكرنك 1974 – حكايات حارتنا 1975 – قلب الليل 1975 – حضرة المحترم 1975 – ملحمة الحرافيش 1977 – الحب فوق هضبة الهرم 1979 – الشيطان يعظ 1979 – عصر الحب 1980 – أفراح القبة 1981 – ليالي ألف ليلة 1982 – رأيت فيما يرى النائم 1982 – الباقي من الزمن ساعة 1982 – أمام العرش 1983 – رحلة ابن فطومة 1983 – التنظيم السري 1984 – العائش في الحقيقة 1985 – يوم مقتل الزعيم 1985 – حديث الصباح والمساء 1987 – صباح الورد 1987 – قشتمر – الفجر الكاذب 1988 – أصداء السيرة الذاتية 96 .(22)
الجانب الفلسفي في أدب نجيب محفوظ:
قد درس نجيب محفوظ في أثناء دراسته الجامعيّة الفلسفةَ بجامعة فؤاد الأوّل (جامعة القاهرة). كان مفتوناً بالفلسفة ويستلهم منها في كتاباته ورواياته، حتى نرى فيها تماذجاً بين الأدب والفلسفة، وهذا هو الجانب المهم لأدبه. يقول نجيب محفوظ عن حرصه على الفلسفة والأدب كليهما وقد كان طالباً جامعيّاً: “كنت أمسك بيد كتاباً في الفلسفة، وفي اليد الأخرى قصة طويلة، من قصص توفيق الحكم، أو يحيى حقي، أو طـٰـهٰ حسين، وكانت المذاهب الفلسفية تقتحم ذهني في نفس اللحظة التي يدخل فيها أبطال القصص من الجانب الآخر. ووجدت نفسي في صراع رهيب بين الأدب والفلسفة، صراع لا يمكن أن يتصوره إلا من عاش فيه، وكان عَلَيَّ أن أقرّر شيئاً أو أجنّ. ومرّة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال “أهل الكهف” الذين صوّرهم توفيق الحكم، و”البوسطجي” الذي رسمه يحيى حقي، والفلاح الصغير الذي لا يعرف الدنيا أبعد من حدود عيدان الغابة المنتصبة من حافّة الترعة في رواية “الأياّم” لطـٰـهٰ حسين، وأشخاص كثيرون من أبطال قصص محمود تيمور، كلّهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة.”(23)
يظهر اهتمام نجيب محفوظ بالفلسفة وحرصه عليها وافتتانه بها بإلقاء النظرة على رواياته، فنقرأ صفحتين كاملتين من إحدى رواياته المشهورة “السكريّة” يتتابع الحديث فيهما عن كمال (شخصيّة الرواية) الدؤوب إلى تحصيل تلك اللذّة الفلسفية. يقول نجيب عنه: “وكان يريد أن يقرأ فصلاً على الأقل في كتاب “منبع الدين والأخلاق” لبرجسون.. هذه السويعات الموهوبة للفلسفة، والتي تمتدّ حتى منتصف الليل. هي أسعد أوقات يومه وهي التي يشعر فيها بأنه إنسان.”(24) عرض نجيب محفوظ شخصيّة كمال شخصية فلسفية تنغمس في ثنايا الفلسفة تعايشها وتتفكر فيها. يرسم نجيب خطوط هذه الشخصية قائلاً عنها: “قد يلوذ عن الوحشة بوحدة الوجود عند “سبينوزا”، أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع “شوبينهور”، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية “برجسون”.(25)
مما لا يختلف فيه اثنان أن الأدب والفلسفة يتصلان بالإنسان إتصالاً مباشراً يؤثـِّـران عليه، ويرسمان خطوط شخصيّته. ولأجل ذلك يتعرض أديبنا لهذا الجانب في رواياته التي جعلها تعبّر عن المشاكل الفلسفية التي راودت المفكرين على مختلف العصور، فهو بدراسته الفلسفية، وبما كتب من أقاصيص وروايات إنما يعبّر عن فهم واع لتداخل العلاقة بين الأدب والفلسفة. ومن ثم يمكننا أن نطلق عليه “الفيلسوف الأديب” أو “الأديب الفيلسوف.” فنجده يروي لنا قصّة أسرة عادية بسيطة تسكن في حارّة من حارّات القاهرة، لا علاقة لها بالعلم ولا بالفلسفة في بادئ الأمر، وفجأة، من خلال تلك القصّة، هو يطرح القضايا العلميّة الفلسفيّة التي تدهش المفكرين والعقلانيين. وأحياناً تؤدّي هذه الاكتشافات العلميّة والقضايا الفلسفية إلى رفض الإيمان بالحقائق الدينيّة، أو إلى ترجيح العلم على الثوابت من الدين. فيقول نجيب على لسان “كمال”(الشخصية الفلسفية): “وماالدين الحقيقي إلا العلم. هو مفتاح أسرس الكون وجلاله، ولو بعثت الأنبياء اليوم ما اختاروا سوى العلم رسالة لهم”.(26)
نظرية “داروين” تُعَدُّ من النظريات الفلسفيّة التي هاجمت على المعتقدات الدينيّة الأساسيّة، وشغلت عقول كل من الفلاسفة الحداثيّين والإسلاميّين. لم يلبث نجيب إلا أن طرح هذه النظرية في “سكريّته”. الاقتباس الآتي من الرواية إن يدل على شيء فإنما يدل على مدى اتصال الأدب بالفلسفة، أو بالعكس في شخصية نجيب، وبالتالي في شخصيّة “كمال” الفلسفيّة في روايته، فيقول: “قبل الخروج إلى صلاة الجمعة بساعة دعا أحمد عبدالجوّاد “كمال” إلى حجرته، والحق أنه كان مبلبل الفكر متحفّزاً لاستجواب ابنه عمّا يشغله، وكان بعض أصحابه قد وجّهوا نظره إلى مقال ظهر في البلاغ الأسبوعي بقلم الأديب الناشئ كمال عبدالجواد، ومع أن واحداً منهم لم يقرأ من المقال إلاّ العنوان وهو: “أصل الإنسان” وقف الرجل منزعجاً أمام هذه النظرية لأنها تقرّ بأن أصل الإنسان قرد وليس آدم كما يقول القرآن. ويَرُدُّ كمال على أبيه حينما سأله عن هذا المقال: “إنه مقال طويل يا بابا! ألم تقرأه حضرتك، إنني أشرح فيه نظرية عمليّة”. حدجه الرجل بنظرة برّاقة متحفّزة وقال:”أهذا ما يدعونه بالعلم الآن أن الإنسان سلالة حيوانية أو شيء من هذا القبيل. أحق هذا. هذا ما تقوله النظرية.؟”(27)
روايات نجيب لا تُقَدِّمُ النظرياتِ العلميّةَ والفلسفيّة في أسلوب روائي أدبي رفيع فحسب، إنما هي تُمَثِّلُ وجهاً من وجوه الكاتب بنفسه، فشخصيّة كمال بن عبدالجواد تكاد تكون إنساناً داخلياً لنجيب محفوظ. والقضايا الفلسفية التي يثيرها كمال يكاد يكون الكاتب مؤمنًا بها ودافعاً عنها. ويَدُلُّ على ذلك التشابه القائم بين نجيب وكامل في المكان والزمان والأسرة وأسلوب الحياة، فكلاهما ولد في سن متقارب، وربّما في مكان متقارب (إذ أن كلاّ منهما ينتمي إلى القاهرة). وكان كلاهما أصغر أفراد الأسرة، وكلاهما يدرس الفلسفة على الرغم من معارضة من حوله (28).
الرمزية في أدب نجيب محفوظ:
المتأمّل في أعمال نجيب يلاحظ أن الرمز في كتاباته الروائية قناع يَشِفُّ عماتحته، فمن تلك الأعمال “أولاد حارتنا” و “الطريق” و “الشحاذ” و “ثرثرة فوق النيل” و “حكاية بلا بداية ولا نهاية” وغيرها. هذه الروايات تعبّر عن رحلة نجيب الرمزية في البحث عن الله. يعتمد الكاتب في هذه الروايات على اللّغة الرمزية، مستفيداً من الدراسات الفلسفية. وهذه الرموز تتيح له أن ينقل أفكاره التي ربّما لم يتمكّن من نقلها والتعبير عنها بصراحة.
ويمكن لنا أن نقول بأن الكاتب نجح في لغته الرمزية، إذ توصّل قرّاؤه إلى ما قصده الروائي، وإلى فلسفته وفكره، وإن كان هذا التوصل قد تمّ بدون وعي منهم، فأحياناً نستجيب للرمز وإيحاءاته دون إدارك منا، ونجد أنفسنا في حيرة لهذه الاستجابة التي لا نستطيع تعليلها.
إن الرموز كثيراً ما تكون مشحونة بالمعاني والمدلولات. وهي تساعد على خلق مجال يساعد إلى حدٍّما على تنظيم أفكار الكاتب، وتساعده على توسيع وتعميق التجربة المراد إيصالها.(29) فكاتبنا الروائي نجيب محفوظ أراد من الأسلوب الرمزي أن يكون مُمَثِّلاً لأفكاره، وفلسفته التي ملخّصها التناقض والصراع بين العلم والدين، ثم تكون النهاية بانتصار العلم على الدين. تتجلّى هذه الفلسفة اللاإسلامية في روايته التي فاز بها نجيب جائزة نوبيل العالمية في الآداب عام 1988م. “أولاد حارتنا”.
إن الحارّة في الرواية رمز للدنيا، وأولاد الحارة هم البشر من لدن آدم عليه السلام إلى العصر الحاضر. و”الجبلاوي” المتسلط في الرواية رمز الله سبحانه وتعالى. و “قاسم” رمز لمحمد صلّى الله عليه وسلم، و “جبل” رمز لسيّدنا موسى عليه السلام، لأن الله كلّمه في الجبل. و “رفاعة” رمز لعيسى عليه السلام، لأن الله رفعه، ثم جعل نجيب “عرفة” رمزاً للعلم الذي يقتل “الجبلاوي” في نهاية القصة. وهكذا تنتصر فكرة “موت الإله، ودوام العلم وخلوده”.(30)
يلاحظ قارئ هذه الرواية أن «الجبلاوي» يريد أن يُوَلِّيَ إدارةَ وقف البيت الكبير الذي بناه أحداً من أبنائه: “إدريس” (رمزًا للشيطان) و “أدهم” (رمزًا لآدم) و “عباس” و “رضوان” رمزاً للملائكة. ويقع اختياره على أدهم على الرغم من بكورية إدريس وكونه صاحب الحق في زعمه، فيتمرد على أبيه «الجبلاوي»، وبالتالي يُطرد من البيت الكبير. ومحاولةً لانتقامه من “أدهم” الذي قد تزوّج أميمة(رمزًا لحوّاء) إدريس يشجّعه على أن يطلع على مجلّد ضخم موجود عند الجبلاوي الذي لايريد أحداً أن يراه، وهو يحتوي على حق ذريته في الميراث. فأدهم يرضى بانتهاك قانون الجبلاوي ويُطرد أيضاً مع زوجته من البيت الكبير إلى الحارّة المجاورة. وهناك تنجب زوجته ولداً تلو الآخر، ويتكاثر الأولاد الذي يصبح شغلهم الشاغل محاولةَ الرجوع إلى البيت الكبير (رمز للجنّة). والجبلاوي أيضا لا يتغفّل عنهم، وإنما يُرسِل إليه رسله وخدمه لإصلاحهم. فأرسل “جبل” (رمز لموسى)، وأرسل “رفاعة” (رمز لعيسى). يقول نجيب: “وللمرّة الثالثة تدخل «الجبلاوي» وأرسل «قاسم» وأدّى قاسم الرسالة كما أدّاها من قبله جبل ورفاعة. وظنّت الحارَّة أنّها ودّعت الإرهاب والشقاء إلى الأبد، ولكن ما كانت عجلة الأيام تدور حتى دارت الأحوال معها من جديد. وجاء فتوات جدد وناظر جديد وساموا الناس ضروب العذاب….”(31)
ويقول: “ولكن قاسم مات، وبموته ضاع كل شيء إلا ذكراه. ذكرى طيّبة، لكن محزنة”(32) وتنتهي هذه الرواية بموت الجبلاوي (موت الإله)، فيقول نجيب ويبدأ هذا المشهد الأخير: “يقرّر عرفة (رمز للعلم) أن يقدم على ما لم يجرؤ أحد على الإقدام عليه قط. سيذهب لمقابلة الجبلاوي شخصياً، وسيطلع منه على صحّة الوقف التي لم يطلع عليها أحد قط، حتى ولا ابنه أدهم.”(33)
فهذه الرواية في لغتها الرمزية ترسي مبادئ الاشتراكية العلميّة، والماركسية الملحدة بديلاً للدين والألوهية والوحي، وتبشر بوراثة العلم المادّي للدين الذي وهنت قواه، واستنفذ أغراضه حسب ما يصل إليه القارئ لهذه الرواية من نتيجة ودرس.
الواقع الاجتماعي في أدب نجيب محفوظ:
لِما أنّ الرواية تقدر على الموضوعية، بوسعها أن تكون فناًّ يعبّر عن الكينونة الاجتماعية للمجتمع الإنساني، وأن تكون في الوقت نفسه مشاركاً في القضايا التي تتصارع وسط المجتمع، كما أنّها تستطيع أن تتخذ موقفاً جاداًّ من تلك القضايا، وتطرح حلولاً مقبولة من خلال كشف النقاب عن العلل والأدواء.
نجد في قائمة الروائيّين كثيراً من الأسماء الذي اهتمّ بهذا الجانب المأساوي، ولمس كثيراً من القضايا الاجتماعية، وشارك في الاحتجاج ضدّ فقدان العدل، والتمزّق الاجتماعي، والفوارق بين الطبقات المختلفة من مجتمع واحد. نذكر من أولئك الروائيين «محمود طاهر لاشين» الذي “قد أحسّ بهذه الفوضى الاجتماعية التي تقتات من الظلم البشري، في استرخاء بليد متعفّن، هذا القسر الاجتماعي يتّضح في البغضاء الكامنة بين الطبقات …. طبقة لها الحول والطول والأمر النافذ أيضاً. أما الفقراء والمساكين فيجب أن يحتفظوا بمستواهم، فإذا رفعوا رؤوسهم خفضوها، وكلما تقدموا بجهودهم أخّروهم”.(34)
كذلك نجد الروائي عبدالرحمن الشرقاوي في روايته “الأرض” اعتنى بهذا التفكك والتمزق الاجتماعيّين، كما نرى الكاتب المعروف «توفيق الحكم» يصيح ضدّ هذا الظلم بلغة إنشائية في كتاباته ورواياته.
قد ظلّت تنعكس المشكلات الاجتماعية والفرديّة على الأعمال الأدبيّة المختلفة لنجيب محفوظ، فإنّه يُعدّ من سمات مساره الفني أنّه يحتضن الواقع الاجتماعي، وينطلق من رؤيا المشكلات التي يعانيها وجدانه. وهذا يسوّغ قولنا بأن أديبنا نجيب ليس كاتباً يحرّك قلمه لترفيه عقول الناس، إنّما هو كاتب له فلسفته وأسلوبه ورسالته وعنايته بكل من المجتمع والفرد. ويبدو هذا الاهتمام تجاه الواقع الاجتماعي في تحليل نجيب لشخصيّة “محجوب” في رواية “القاهرة الجديدة” التي تُمَثِّل مأساة البطل المنسحق وانهزامه الذي لا يجد مفراًّ منه على الرغم من أنه يحمل شهادة كليّة الآداب، فيقول: “المأساة لا تعدو كلمةً واحدةً ولا كلمة غيرها: هل لديك شفيع؟ أأنت قريب ممن بيدهم الأمر؟ أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد رجالات الدولة؟ إن أجبت بنعم، فنعم. وإن أجبت بكلاَّ فلتولّ وجهك وجهة أخرى.”(35) كذلك يحلّل نجيب شخصيّة “سعيد الدبّاغ” في رواية “السمّان والخريف” حيث يصيح سعيد: “لا قيمة لإنسان اليوم مهما علا شأنه. نحن في بلد الفقاقيع.”(36)
تظلُّ رواية “بداية ونهاية” لنجيب محفوظ توقع لحناً أسود يتقطّر من الجرح الذي لا يندمل من الرؤية المأساوية لتعهّر المجتمع حين يفرض الفقر والضياع على قوم، ويجود بالغنى والثراء العريض على قوم آخر. الكاتب يصف إنسانا يعيش في مثل هذا المجتمع الغاشم في هذا الحوار الآتي:
“فالتمعت عينا “حسنين” العسليتين وقال:
يجب أن نكون جميعاً أغنياء.
وإذا لم يكن هذا؟
إذاً يجب أن نكون جميعاً فقراء.
وإذا لم يكن هذا؟
فقال بحنق:
إذاً نثور ونقتل ونسرق.
فابتسم حسين قائلاً:
هذا ما نفعله منذ آلاف السنين.”(37)
هكذا روايات نجيب محفوظ من القاهرة الجديدة، والسمان والخريف، وبداية ونهاية إلى المرايا، وثرثرة فوق النيل، وزقاق المدينة، والطريق، تصرف اهتمامها الكبير إلى ما يعاني المجتمع الإنساني عامّة والمجتمع المصري خاصّة من فقدان روح العدل، ومرارة تفكّك الحياة، وغياب التعاطف الإنساني، والتمزق الاجتماعي والأخلاقي، وما إلى ذلك من قيم لا إنسانية كانت قد تسرّبت إلى شرايين مجتمع نجيب، وقد كان من المتوقع من مثل أديبنا نجيب محفوظ أن يقتحم ويحاول لإصلاح المجتمع، وإن كانت محاولته هذه مدعومة بفلسفته الخاصّة التي لم يرض ولن يرضى بها كل من رضي بالله رباًّ وبالإسلام ديناً.
خاتمة:
من المؤكّد أن المتأمّل في أدب «نجيب محفوظ» لم يلبث إلاّ أن يتوصّل إلى أن فن الرواية -على الرغم من كونه حديث العهد بالأدب العربي– بلغ أوج الكمال وقمة التطوّر، وأن هذاالفن بات يساير فنَّ الرواية الغربيّة في معالجة قضايا تهمّ المجتمع الإنساني. ولأديبنا «نجيب» فضل كبير في تطور الرواية العربيّة وجعلها واقعيّة وموضوعيّة. وسبقه وفضله في هذا المضمار اعترف بهما العالم الغربي إذ منحه جائزة «نوبيل» في الآداب عام 1988م. وإن كان هذا الأديب الراحل لم يكن في حاجة إلى مثل هذه الجوائز، فإنّه قد كان معترَفاً من خلال الآثار التي تركها أعمالها الروائية في أثناء ثلاثة أرباع من القرن الماضي. يمكن لنا استنتاج الملاحظات الآتية من خلال هذا البحث:
1- كان نجيب محفوظ متأثرا بالفلسفة تأثرًا شديدًا.
2- إنه تأثر في أسلوبه الروائي بسلامة موسى وسعد زغلول.
3- كان داعيًا إلى الإشتراكية والقومية المصرية.
4- كان يرى أن الدين قد فشل في تحقيق السعادة للمجتمع البشري.
5- اتخذ أسلوبًا رمزيًا لبيان قضايا حسّاسة.
6- كان يرى أن العلم هو السبيل الوحيد إلى تحقيق السعادة.
7- كان يهتم بقضايا إجتماعية اهتمامًا كبيرًا.
* * *
الهوامش :
(19) نجيب محفوظ: المُبدع الذي وضَحَت له الطريق طوالَ حياته. نبيه قاسم، صحيفة “الإتحاد” 26 كانون الثاني 2007م.
(20) المرجع السابق
(21) المرجع السابق
(22) ملف عن حياة نجيب محفوظ. ملتقى أسمار http://www.asmarna.org
(23) نجيب محفوظ، الطريق والصدى، د. علي شلش ص: 89. الهيئة العامّة لقصور الثقافة 1993م
(24) السكريّة، نجيب محفوظ. ص: 16
(25) المرجع السابق ص:17
(26) المرجع السابق ص375
(27) المرجع السابق ص345
(28) انظر: قراءة في أدب نجيب محفوظ. د. رجاء عيد ص: 130-131
(29) دراسات لأعلام القصّة. د. طه محمود طه ص: 44
(30) أنظر:دراسة المضمون الروائي في أولاد حارّتنا. عبدالله المهنا. ص62(بتصرف)
(31) أولاد حارتنا، نجيب محفوظ. ص: 95
(32) المرجع السابق. ص: 98
(33) المرجع السابق. ص: 115
(34) قراءة في أدب نجيب محفوظ. رجاء عيد ص: 333
(35) القاهرة الجديدة. نجيب محفوظ ص82
(36) السمان والخريف. نجيب محفوظ ص: 135
(37) بداية ونهاية، نجيب محفوظ. ص: 181
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.