أنباء الجامعة
تعريب : الأخ محمد أجمل القاسمي طالب بقسم الإفتاء
نقل النص الأردي من الشريط: الأخ محمد ظفر أحمد القاسمي
بقسم التخصص في اللغة العربية وآدابها بالجامعة
أقيم في جامع رشيد الكبير الحديث البناء بالجامعة حفل ترحيب موسع ، حضره طلاب الجامعة وأساتذتها ومسؤولوها ومنسوبوها وكثير من رجال الإعلام . وذلك ترحيبًا بالعالم الديني والقائد الإسلامي والسياسيّ البارز فضيلة الشيخ فضل الرحمن رئيس جمعية علماء الإسلام بباكستان والوفد المرافق له . بدئ الحفل في الساعة التاسعة من يوم الأحد: 22/ ربيع الثاني 1427هـ الموافق 21/ مايو 2006م، واستُهل بآي من القرآن الكريم ، سعد بتلاوتها فضيلة الشيخ المقرئ آفتاب أحمد أستاذ التجويد بالجامعة. ثم تقدم الطالبان بالجامعة : الأخ شكيل أحمد الديناجفوري، والأخ إقرار أحمد البجنوري بأنشودة الجامعة بصوت عذب ساحر. وتلاه مدير الاحتفال الشيخ المقرئ محمد عثمان المنصورفوري نائب رئيس الجامعة وقال:
يسرُّنا ويسعدنا أن نجد بين أظهرنا ضيفنا المحترم سماحة الشيخ فضل الرحمن رئيس جمعية علماء الإسلام وزعيم حزب المعارضة في مجلس الشعب الباكستاني والوفد المرافق له، الذي يضُمُّ كلاً من سعادة الدكتور خالد محمود عضو مجلس الشيوخ الباكستاني، وأصحاب الفضيلة الشيخ مجاهد تلميذ المحدث الجليل الشيخ حسين أحمد المدني رحمه الله المعروف بشيخ الإسلام، والشيخ معراج، والشيخ أشرف، والأخ طلحة.
وقد سبقت لهم زيارةُ الجامعة في يوليو 2003م. ونحن إذ نُكْرِم وفادتَهم، نقدّر علاقتهم الروحية بهذه الجامعة، ونوجِّه إليهم الشكر الجزيل على ما أبدوا وظلوا يبدون تجاه الجامعة وعلمائها من عواطف الود والمحبة، ونقدم إليهم ترحيبًا حارًا نابعًا من أعماق قلوبنا. وأضاف سماحته قائلاً :
قد كان الشيخ فضل الرحمن عقد بباكستان احتفالاً كبيرًا بمضي 150 عامًا على تأسيس دارالعلوم / ديوبند حضره مليونان من الشعب الباكستاني، كما حضره وفد موقر من كبار أساتذة دارالعلوم برئاسة فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن رئيس الجامعة حفظه الله. وذلك قبل زيارته السابقة إلى دارالعلوم بسنتين، التي قام بها في يوليو عام 2003م . وهذا كله يعكس ما يكنه حفظه الله وبالتالي الشعب الباكستاني من عواطف الود والعظمة والتقدير الغير العادي تجاه دارالعلوم .
واستطرد :
إن هذه الزيارة ستلعب دورًا رائعًا في تحسين العلاقة بين البلدين وإقامة الصداقة بينهما، ونترك الحديثَ في هذا الصدد للضيف المحترم : الأستاذ الدكتور خالد محمود ليبدي آراءه بهذه المناسبة ، وتقدم سعادته حفظه الله بكلماته التي قال فيها :
حضرةَ رئيس الحفل المحترم! وحضرات الأساتذة الأكارم! وإخواني الطلبة ! وصل موكبنا إلى جامعة دارالعلوم برئاسة قائدنا المحترم سماحة الشيخ فضل الرحمن رئيس جمعية علماء الإسلام بباكستان. عندما حضرنا الجامعة شملنا الفرح والابتهاج الذي يعجر عنه الوصف. أبقى الله هذا المركز الإسلامي إلى يوم القيامة، وصانه من أن تلعب به الفتن، وقدّر له الله الرقي والتقدم، ويجعله يظل يزداد تطورًا على مرّ الأيام وكرّ الليالي. هذه الجامعة قام علماؤها الربانيون بإصلاح البيئة المسلمة بشكل شامل، وصمدوا في وجه طوفان الإلحاد والتقاليد الخرافية والبدع، وقدّموا تضحيات جسيمة في سبيل إرساء دعائم الإسلام في هذه الديار، وظلوا يردون أناشيد التوحيد ولم يبالو بما إذا نبابهم الزمان وعدا عليهم المكان .
إخواني الأعزاء! من شان العطاء الإلـٰـهي أنه يرزق الأحباء والأعداء على السواء؛ بل يزود الأعداء بشيء زائد، ليس عطاؤه ممنوعًا من بر أو فاجر. «ومَا كَانَ عَطاءُ ربِّكَ مَحْظُوْرًا»؛ ولكن من سنته الماضية في الكون أن الفتحَ والنصرَ يناله في عاقبة الأمر أهلُ الحق في الصراع الجاري بينه وبين الباطل. وإن كان ربّما يتراءى أن الباطل كسب الحرب، وغلب في المعركة، وأنزل على الحق هزيمة لاتدعه يتقوى ويزدهر. أنتم محاطون علمًا أنه تجرى الآن محاولات معادية ضد الإسلام تستهدف محو الحق وتصفية المسلمين من وجه الأرض. وجاء الاستعمار المسيحي العالمي المُطَعَّم بالصهيونة بجميع عدده وعُدَّته، ويجند كل طاقاته لتطويقهم من كل جانب؛ ولكن نحن على ثقة ويقين أن الله سيغيّر الأوضاع، وأن الأرض تنقلب ظهرًا لبطن، فإنه ما رأى العالمُ ليلاً إلا ويتبعه بزوغ فجر النهار.
ولكن هذا لايكون ولايتحقق حتى نصلِحَ حالنا، ونقدّم تضحيات مخلصة. قد جرت العادة الإلهية أنه جلّ وعلا يبلو عبادَه، ليعلم الصادقَ من الكاذب، وهذه العادة اُمتحِنَ بموجبها الأنبياءُ وأصحابهم والصلحاءُ والأتقياء، فنحن أيضًا نُمتَحَنُ بموجبها، وبشـــرى للصابــرين في الابتلاء والامتحان. قال الله جلّ وعـــلا: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِـــنَ الْخَوفِ والْجُوْعِ وَنَقْصٍ مِّن الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصّـٰـبرين». ويقول في موضع آخر: «إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوْا وَلاَ تَحْزَنُوْا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوْعَدُوْن الخ».
إخواني الطلبة! أوصيكم بأربعة أشياء: يقول الإمام ولي الله المحدث الدهلوي لايكون الإنسان كاملاً مالم يَتَحَلَّ بها، وهي الطهارة، والسماحة، والعدالة، والإخبات.
أولاً: لابدلكم أن تعتنوا بالطهارة حق الاعتناء: لابدّ أن تكون أجسادُكم طاهرة، وثيابكم طاهرة، وأفكاركم ونياتكم طاهرة. جَنِّبُوا أنفسكم عن التّلوّث بالمعاصي؛ فإنها نجاسةُ تُبَلِّد الذهن، وتُفْسِدُ الروحَ والقلبَ.
وثانيًا: تتعودا بالإنفاق في سبيل الله مما أنعم عليكم، وأن تخدموا الفقراء والمحتاجين بإعطائهم والتفضل عليهم.
ثالثًا: تمكسوا بالعدالة والإنصاف، وتنصفوا أبويكم، وقوموا بالعدل والإنصاف في جميع شؤون الحياة وفي كلتا حالتي السخط والرضاء .
رابعًا: يلزمكم أن تَتَحَلَّوْا بالإخبات والتواضع، ولايتسرّب إليكم الزهو والخيلاء؛ فإنه لايحسن بالضعيف الذي سيموت أن يرفع رأسه زهوًا أمام الملك الذي قال في شأنه: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَّيَبْقـٰـى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلاَلِ والإِكْرَامِ».
وتذكّرت بالمناسبة قصةً وهي أن شيخًا صالحًا مرّ على جماعة فتيان يلعبون كرة القدم . فوقف متظاهرًا بالعجب، وما هو إلا زمن يسير أن جاءه أحد منهم ، فسأله الشيخ لماذا تدوسون الكرة بالأقدام وتضاربونها من هناك إلى هناك؟ أي جريمة ارتكبت؟ وهو في ذلك حتى اجتمعو حوله، فتقدم الشيخ وبدأ يسائل الكرة، فاستخرج الموقف منهم ضِحكاً طويلاً، وقالوا هل ترُد الكرة عليك بشيء قال نعم قالوا وماذاك؟ قال: هي تقول: ما ارتكبتُ جريمةً إلا أن مُلِئ رأسي هواءً لذا أُداس بالأقدام .
أيها الطلاب الأعزاء ! قد مَنّ الله عليكم حيث أتاح لكم أن تتعلموا في مثل هذه الجامعة، فعليكم أن تصوغوا أنفسكم في بوتقة التعاليم النبوية، وتتقيدوا بالسنن في جميع شؤون الحياة، حتى تفوح منكم شذاها، ويتلألأ مظهركم بوَمضَاتها، وتتجلى قلوبُكم بحب النبي عليه – الصلاة والسلام – الذي معقود به نجاح قائم وفلاح دائم . ثم تحدّث إلى الحضور الشيخ فضل الرحمن الموقر حفظه الله ، فقال فيما قال :
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فإننا نعدّ زيارتنا لدارالعلوم أكبرَ سعادتنا وحسنَ حظنا، كما نعدُّ علاقتنا بها وانتمائنا إلى علمائها رأسَ مالِ حياتنا وأغلى شيء فيما عندنا. قد سبق لنا أن قمنا بزيارتها ؛ لكننا لدى حضورنا إياها هذه المرة نجد قلوبنا مفعمةً بألم وحزن بالغين، إذ لا نرى بين أظهرنا كبيرَنا ومشرفَنا ومربينا سماحة الشيخ السيد أسعد المدني – أنزل الله على قبره شآبيبَ رحمته، وأدخله فسيح جناته – رئيسَ جمعية العلماء وأمير الهند بالنسبة إلى الأمة المسلمة. ظلّ – رحمه الله – طول حياته يُسدي جهوده الزكية في شأن خدمة الدين الحنيف والأمة الإسلامية، كما ظل يناضل مديد عمره لاستعادة الحقوق الإنسانية، وتكبّد في هذا السبيل المصائب، وواجه العوائق، تقبل الله خدماته الجليلة وجعلها سببًا لنيل العيشة الراضية في جنته العليا.
الكبار والعبقريون لايأتون في الدنيا ليعيشوا حياة خالدة؛ إنما يأتون لإداء مسؤولياتهم وإنجاز ما أراد الله منهم. وفي مثل هذه المناسبات الأليمة ينبغي لنا أن نستحضر الدروس التي لقَّتنها هذه الجامعة وعلماؤها إيّانا في ضوء السيرة النبوية الطيبة: أن لانُقيم مجالس الحداد والنياحة على وفاة شخصية؛ بل ننهض بأعباء مهمته، ونعمل على إنجازها واستكمال ما تبقى منها، وبهذا يمكننا أن نؤدِّي حق إعجابنا وعلاقتنا به. وفقنا الله لإنجاز مهمته – رحمه الله – وبالعمل على استكمال مسيرته . مادامت دارُالعلوم وجمعيةُ علماء الهند متمتعتين برجال أسرةِ المحدث الجليل والمجاهد الباسل شيخ الإسلام حسين أحمد المدني – رحمه الله – نحن على ثقة ويقين بأنهما تمضيان قدمًا في سيرة التقدم، وتظل الأمة المسلمة متمتعةً بالقيادة الصالحة .
أيها السادة !
إن جامعةَ دارالعلوم عملتْ على نشر التعاليم الإسلامية على مستوى أكبر، حتى عادت تشكل مركزًا إسلاميًّا بالنسبة إلى شعب شبه القارة الهندية، وهذه الجامعة هي سلسلة تلك المهمة المباركة التي ابتدأها الشاه ولي الله المحدث الدهلوي – المعروف بـ باب الحديث في الهند – بهدف نشر الكتاب والسنة والتجديد، مازالتْ المهمة في مسيرتها حتى اتخذت نهائيًا شكلَ أكبرِ الجامعات الإسلامية في شبه القارة الهندية على الإطلاق، التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر الثقافة الإسلامية، وقامت بسقي بقاع العالم جمعاء، وأعادت إلى الإنسانية وعيها، وعرّفتها بمسؤوليتها، وخرّجت رجالاً جامعين بين العلم والأوصاف الحميدة، قاموا في وقت واحد في كل مجال وحقل وبكل كفاية بما تطلّب منهم الوقت، فمنهم من برع في الخطابة والدعوة، ومنهم من بذّ في مجال التعليم والتدريس، ومنهم من سبق أمثالَه في خدمة الخلق وإعانة العاجزين والضعفاء، ومنهم من خاض المعارك وناضل الإستعمار ومنهم مَنْ تعلَّم رموزَ السياسة، فأدهش العالم. ومنهم … و …. وبالجملة خرّجت رجالاً لجميع الجبهات بهروا أنظارَ العالم.
أيها السادة ! إذا تُلقون أنظاركم على العالم المتوزع في الحدود والثغرات الجغرافية، تجدون أن لكل دولة مشاكل وقضايا تغاير أخرى، أوجدها الاستعمار العالمي ليمارسَ من خلالها الضغطَ على الحكومات بهدف إخضاعها لمصالحه؛ ففي هذا الوضع العصيب ينهض الشعب للمواجهة، تحسبًا منهم أن الوضع يشكل خطرًا لهم، ويُهدّد حريتهم ومستقبلهم، ويقودهم إلى العبودية، فهم يواجهون دفاعًا عن حريتهم ومستقبلهم واستردادًا للحق وطلبًا للعدل، ويصدرون في ذلك عن شعور حريتهم، وهو شعور طبيعي تعرِف به الشعوبُ مكانتَهم في المجتمع، وهو الشعور الذي أيقطته دارالعلوم في النفوس؛ ولكن مما يثير العجب أنه إذا ينهض شعب أو فرد في أي دولة من دول العالم انطِلاقًا من هذا الشعور الطبيعي لاستعادة حقوقه الإنسانية، تلقبه وسائل الإعلام بلفظ واحد بأنه «ديوبندي»، هو متبع فكرةَ دارالعلوم/ ديوبند.
إني أؤكّد لرجال الإعلام (عندما يحاورونني في شأن القضية) بأنكم محاطونَ علمًا أن الدنيا كانت مسرحَ وحوش في صورة بني آدم، وكان يعمها ظلام مبطق، فبُعث النبي – عليه الصلاة والسلام – سراجَ نور، أعاد إلى الإنسانية كرامتها، وعَرَّفَها بمكانتها، وأعطاها كتابًا هو دستور شامل لجميع نواحي الحياة، وماكانت هذه الرسالة لشعب دون شعب، ولبلد دون بلد، ولزمن دون زمن. فقد أعلن القرآن بأعلى صوت: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيْعًا». كانت رسالته للإنسانية كافة، وكان النور للعالم أجمع، فإذا يرفع شعب صوته في شأن إبقاء مجده وشرفه ودفاعًا عن حريته وحقوقه في ضوء هذا الدستور وتعاليمه، فعلى وسائل الإعلام أن تحمل مسؤوليته المملكةَ العربية السعودية؛ بأن هذه الرسالة ابتدأت من مكة المكرمة والمدينة المنورة، وليس ذلك، وإن كان لايكون من الإنصاف في شيء؛ وإنما يكون ظلمًا فحسب. فكيف تسوغ لوسائل الإعلام أن تلصق التهم في هذا الشأن بدارالعلوم / ديوبند، وقد ظلّت في طول تأريخها تؤدي الرسالة التي بدأت من مكة المكرمة، وعممت دعوتها، وقامت بنشر الكتاب والسنة وتبليغ الآداب الإسلامية، وكافحت الاستعمار، وأمَّنت مستقبلَ الشعب الهندي المسلم وقد رآه مظلمًا.
ولا يمنعني شيء من المجاهرة بأن الفكرة التي تقدّمها دارالعلوم / ديوبند هي فكرة تهتدي بها البشرية، وإذا تجوَّلتَ في طول شبه القارة الهندية وعرضها : بلاد الهند وباكستان وبنغلاديش تجد المدارس الإسلامية منتشرة في القرى والأرياف التي تسير على غرار فكرة دارالعلوم، وتتبع نظريتها التعليمية، ويُقبــل عليها الطلاب من نواحي البلاد أطفالاً وفتيانًا وشبانًا، مع أنهم على يقـين أن هـــذا التعليــم لايكفل لهم المعايش، وأنهم لايفوزون بوظائف الحكومة والرواتب الضخمة. وعلى الرغم من كل ذلك هذا الإقبال الزائد يؤكد أن هذه الفكرة رُزِقت القبول غير العــادي في أوساط الأمــة، وهي فكــــرة توافق الطبيعة والفطرة البشرية، وبدونها يجد كُل أسرة نفسها محـــرومــــة من الثقافة الإسلامية؛ ولكن مما يثير العجب والأسف أنه على الـــرغم مــن كل ذلك إذا يحصــل في العــالـم حادث مهما كان فاعلُه وحيثما كان، تُحمَّل مسؤوليته تلكَ المعاهد والمدارس – وفي طليعتها الجامعة الأم دارالعلوم – مكافاةً لخدماتها الهائلة .
أيها السادة ! تأكّدوا أن هذه العمليات كلها سلاح يستهدف تشويه صورة المدارس وتجريح خدماتها، كما يستهدف ممارسةَ الضغط على أنظمتها وإضعاف تأثيرها في الشعب. أنا أقول بدون تلثعم وبكل صراحة: إن المدارس دورالأمن وبشائر السلام، تعمل على نشر الأمن ومحو الفساد والاضطراب. وهذا لأن كل ما يُعلَّم فيها من الدراسات مصدرها القرآن الكريم وهو يُعير الأمن اهتمامًا أكبر. يقول في شأن بيت الله الواقع في أم القرى: مكة المكرمة – التي يردها أبناءُ الإسلام من العالم كله مرةً بعد مرةً كمايَرد الأولاد إلى مهود الأمهات – : «وَلْيَطَّوَّفُوْا بِالْبَيْتِ الْعَتِيْقِ». ويقول في موضع آخر: «وَاتّخِذُوْا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيْمَ مُصَلَّى». وقد سبق هذا الأَمرَ أنْ عرّف – سبحانه وتعالى – أمَّ القُرى التي هي حَرمٌ مُعلِنًا: «وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا». فأول رسالة تنطلق من هذا البيت ومن شعاب هذه القرية المقدَّسة إلى الآفاق هي رسالة الأمن .
وإذا أمعنت النظر في القرآن الكريم – الذي يُمثِّل الإنسانيةَ في كل من الديانة والسياسة، وفي الحياة الشخصية والاجتماعية والدولية، تجددورَ الإسلام بالنسبة إلى الحياة الدولية بصفة خاصة تدور على شيئين أساسيين: الأمن والمعيشة. يقول القرآن الكريم: «فَلْيَعْبُدُوْا رَبََ هذَا الْبَيْتِ الَّذِيْ أَطْعَمَهُمْ مِّنْ جُوْعٍ وَّ آمَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ». ويقول حاكيًا دعاءَ إبراهيم خليل الله عليه السلام: «رَبِّ اجْعَلْ هذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَّرْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ». وأنّ الله جلّ وعلا إذا يبلو عبادَه يعاملهم من هاتين الجهتين الأساسيَّتين يقول حاكيًا عادته الماضية «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوْعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ الخ». ويُضاف إلى ذلك أن الإسلام يكمن في لفظه معنى «السلام» كما أن الإيمان يُخبر عن معنى «الأمن». فالنظام الذي هو عبارة عن الأمن والسلام من أعلاه إلى أسفله، كيف تُلصق به التُهم، ويُعْـزَىٰ إليه العنف والإرهاب؟ وكيف يوصف متخرجوه بـ«الإرهابيين»؟ ينبغي لهولاء الملاصقين أن يُنصِفوا ويتفكروا في وقت مّا، هل النظام نظام إرهاب؟ وهل متخرجوه إرهابيون أم محاربو الإرهابية ورُسل الأمن، يعملون على نشره وتطبيقه .
إن جمعيةَ علماء الإسلام أكبرُ جمعية دينية بالنسبة إلى جمعيات دينية أخرى في بلاد باكستان، وهي تتمتع بشعبية كاسحة، وتلعب حاليًا دورًا مثاليًا في شأن تحسين العلاقات بين البلدين وإقامة الصداقة بينهما، وتحرص كل وقت أن يحلَّ البلدان قضاياهما بشكل سلمي، ومسريتنا في هذا الشأن أسرع، وجهودنا مستمرة. أنا أسائل أليس هذا كله من مساعي الأمن؟ والقائمون بالمساعي هم رجال المدارس ومتخرجوها الذين تلقوا دروس الأمن والسلام في المدارس.
هَبْ أن نهرًا كبيرًا يخرج من منطقة، فيروي المنطقة بأسرها، ويُكسبها الخصبَ، حتى عاد يُعَدُّ زمرًا للسقي بالنسبة للمنطقة، وربما يكون أن يطغى ماؤه، فيجر الخرابَ على القرى المجاورة، وقد يحصل ذلك رَدَّ فعل لشيء. فهل يسوغ لأحد أن يجعلَ النهر مصدر الخراب والدمار، ويتجاهل دورَه الرائع بالنسبة للمنطقة؟ إنما يقال هي حالة طارئة. ومثال هذه الجامعة كنهر كبير هائل يرَوّي العالَم كله، ربما يحصل فيه فيضانٌ رَدَّ فعل لحادث، فيصيب قطعةً من قطعات الأرض أو قرية من قراها، يمكننا أن نسميه بـ«العنف»، أو نطلق عليه اسم «رد الفعل المتطرف» تسبقه العوامل؛ ولكن لايجوز لأحد أن يصفه بـ«الدور الطبيعي» لدارالعلوم. ومما يؤسف له جدًا أن وسائل الإعلام لاتنصف، فتعبرُ عن الحادث الطاريء – الذي يخلِّف العوامل – بالدور الطبيعي لدارالعلوم .
إخواني الأعزاء! ظل الأعداء طوال تاريخهم يوقدون نيران الحرب، وبصفة كوننا خلفاء الله على الأرض يجب علينا أن نؤدِّي دورَ إطفائها، وعلينا أن نتمسك بالعدل في كِلتا حالتي السخط والرضاء. يقول سبحانه وتعالى: «لاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تُعْدِلُوْا اِعْدِلُوْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوٰى». وقد وصف الله هذه الأمة بـ«الوَسَط»، فقال: «وَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وِّسَطاً»، فأصحاب الرسول هم الرعيل الأول من هذه الأمة، فمن كان – حتى بعد مضي أربعة عشر قرنًا من الزمان على بزوغ فجر الإسلام – أكثرُ اقتداءً بحياة الصحابة، كان أكثر اعتدالا واقتصادًا، وكلما كان المرأ أبعد عن حياتهم كان أكثر تجاوزًا عن الحدود، «وَمَنْ يَّتَعَدَّ حُدُوْدَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه»؛ لذلك فلا نتأثر بدعاية وسائل الإعلام التي تريد تشويه صورة الإسلام والمسلمين، فهي تسمي العقلَ جنونًا والجنونَ عقلاً، ونثبت بسلوكنا أن التعاليم الإسلامية هي سبيل الاعتدال والاقتصاد، لا العنف والتطرف. إن من أهم ميزات دارالعلوم أنها نشرتِ الإسلام بروحه الأصيلة، وعمّمته بشموله وعالميته واعتداليته، لانجد أكثر اعتدالاً في شرح الإسلام وعرضه من أبي حنيفة وأصحابه فيما مضى من الزمان، ومن علماء دارالعلوم في الوقت المعاصر، جعل الله هذه الميزة باقية لها بقاء الزمان .
أيها الطلاب الأعزاء ! إنكم خرجتم لتحصيل العلم، فأنتم تصادفون ثلاثة وتستفيدون منها: المدرسة، والكتاب والأستاذ. ولابد لكم أن تكون علاقتكم مع هذه الثلاثة علاقة أدب واحترام. والإ فلا يمكن لكم أن تقتبسوا أنوارها، فالمدرسة أم يتربى الطلاب في حجرها، والكتاب هو الغذاء الذي تحتاجون إليه، وتنشأون به وتترعرعون، والأستاذ هو الأب الحنون الذي ينتقي من الغذاء مايلزمكم. فهو يوفر لكم من الغذاء ما تحتاجون إليه حتى تتخرجون إنسانًا، وتتخرجون رجالاً ينتظرهم الغد؛ على هذا فيجب أن تعيروا لهذه الثلاثة إجلالاً وتكريمًا.
ندعوالله أن يلبس الناس جميعًا لباسَ الأمن، وأن يُبدِل العلاقات بين البلدين بالود والإخاء والوئام، ويوفقنا لما يحبه ويرضى، ويجعل آخرتنا خيرًا من الأولى، إنه تعالى على كل شيء قدير.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1427هـ = يوليو – أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.