إشراقة 

       كثيرٌ من الناس يكتبون ما يكتبون مُوْجَزًا وشاملاً وافيًا بالغرض . والكتابةُ موجزًا قد تكون طبيعةً لدى الكاتب، وقد تكون عادةً تَعَوَّدَها بالمران والرياضة. وعلى العكس من ذلك كثير من الناس يطيلون الكتابة، ولايكون بوسعهم أن يوجزوها؛ والإطالةُ أيضًا قد تكون مركوزةً في طبيعة الكاتب، وقد تكون ناشئة عن العادة التي تكوّنت لديه خلال رحلته الكتابية التي استمرت منذ أن وضع قدميه على الطريق إلى نضج في هذه المهنة المُشَرِّفة .

       وقد يشقّ على كلا الفريقين أن يشذّ عن مسارهما؛ فالـمُوْجِزُ يصعب عليه الإطالةُ، والمُطِيْلُ يصعب عليه الإيجازُ. وهناك فريق من الكُتَّاب يُحْسِنُ الإيجازَ والإطالةَ كليهما؛ فالإيجاز يُحْسِنُه إذا أراده، والإطالةُ سهلةٌ عليه إذا أرادها؛ ولكن هذا الفريقَ قليل جدًّا؛ لأن كُلاًّ من الإطالة والإيجاز فنّ مستقل وله رجال متخصّصون لايتأتّى لهم إلاّ ما تخصّصوا فيه .

       عددٌ من الإخوان الذين يحرصون على قراءة كتاباتي – العربية والأردية – طلبوا إليّ أن أوثر جانبَ الإيجاز في بعض كتاباتي؛ حتى يتمكّنوا من قراءتها على عجل، ولاسيّما لأنّ زحمة الأشغال تستعجل الإنسانَ المعاصر وتطلب منه سرعةَ الركض في كل شأن من شؤون الحياة . فقلت لهم: إن الإيجاز لاتتحمله قلة الفرص لديّ؛ لأنّه يحتاج إلى التخطيط والروية والتفكير مني؛ فإذا كتبتُ مقالةً طويلة في ساعة أحتاج لكتابةِ مثلها موجزًا إلى ساعتين أو نحوهما . إنّ الإطالة صارت جدَّ يسيرة عليّ؛ حيث أمضي أكتب مالم يكتمل الموضوع ومالم أشعر بأني قد قلتُ كلَّ ما كنتُ أَوَدُّ أن أقوله بشأن الموضوع الذي تعرّضتُ له في المقاله، وأنّي أشبعتُ الموضوعَ من الجوانب الكثيرة التي قد يَتَطَلَّعُ إليها قارئُ الموضوع .

       من هنا لايُتَاحُ لي الكتابة في الموضوع الذي يقترحه عليّ جهةٌ أوفردٌ على عجل ويقول لي أن أوافيه بالمقال في الوقت القياسيّ المحدّد الذي يحدّده هو ويطلب إليّ أن لا أتخطّاه حتى يسعه تجهيزه للنشر والتعامل مع جميع الترتيبات اللاّزمة التي تسبق النشرَ. وقد اضْطُرِرْتُ أن أعتذر للأبد إلى بعض الجهات الصحفية عن الاستجابة لطلباتهم المُسْتَعْجَلَة، نظرًا لما فُطِرْتُ عليه من الانصراف إلى وظيفة واحدة بكل همومي وتفكيري حتى أنتهي منها؛ حيث لا أرضى توزيع الاهتمامات بين وظائف عديدة في وقت واحد، كما يرضى ذلك كثيرٌ من الناس، ولاسيما لأن الجهات الصحفية لايهمّها إشباعُ الموضوع، أو تزويد القارئ بكل ما يتعلّق به؛ حتى يصدر عن قراءته وقد تَشَبَّعَ معلوماتٍ عنه؛ وإنما يهمّهما أولاً وآخرًا العملُ بالرتابة، والعمل على جذب عدد ممكن من القراء، واستدرار ما في جيوبهم من المبالغ؛ فتؤثر السطحيّةَ على التقعير، والجزئية على الشمول، والاهتمام بالمظهر على الاهتمام بالمخبر. وموقفُها اللامعقول هذا هو الذي جعلني أكره الكتابةَ في الصحف والمجلات التي تتناول المواضيعَ  الساخنة على عجل وفي غير شمول .

       والكاتبُ المتعوِّد الإطالةَ والإشباعَ، لَوْ رَاحَ يُوْجِزُ ويجتزئ؛ لاحتاج إلى الشيء الكثير من التفكير، وبذل المحاولة للتغيير، والتقديم والتأخير، والاجتهاد واعتصار الفكر، وإنفاق الوقت أكثر مما ينفقه للإطالة والتوسّع في القول؛ لأنّه قد تَعَوَّد أن يقول مايقوله بشكل عفويّ، لايعوقه حاجز داخليّ ولا عائق نفسيّ، ولا يُثْقِله تَقَيُّدٌ والتزامٌ أو تَحَفُّظٌ؛ فلا يقف دون استكمال الموضوع، وتوفيته حقَّه من الإحاطة من كل جانب، والاستيعاب من كل وجه.

       وقد يقتضي المقالُ – بطبيعته – الإطالةَ أو الإيجازَ؛ فإذا اقتضى الإطالةَ فلن يستوفي حقَّه إلاّ إذا أُطِيْلَ واستُقْصِي في جمع الموادِ المُكْمِلَةِ لنواحيه، والمُضْفِيَة عليه مسحةَ الشمول والاستيعاب، مما يجعله مقالاً يُكْسِبُ القارئ الشبعَ والتروّيَ في الموضوع المعنيّ، ولايشكو بعد الصدور عن قراءته أيَّ ظمأ بشأن الموضوع .

       وإذا اقتضى المقالُ الإيجازَ، لايجوز للكاتب أن يطيل لأنه عندئذ – كون المقال موجزًا – يكون حاملاً لطبيعة الشطائر والسندويتش التي لم تُوضَعْ للإشباع والإغناء عن الوجبة الغدائية أوالعشائية الوافية، وإنما وُضِعَتْ لتسكين الجوع وكسب بعض ما فقده المرأ خلال الرتابة العملية المكثفة من القوة والانتعاش؛ فلا يكون السندويتش جرعةً كاملةً، وإنما يكون جرعةً سريعةً ناقصةً تُعْطِي مفعولَه لبعض الوقت.  وذلك كزوايا الصحف، ومعظم المقالات التي تُنْشَرُ في الصحف والمجلات غير الدراسيّة وغير المعنيّة بالبحث والتحيق .

       والمُتَعَوِّدُ من الكتّاب الإطالةَ والاستيعابَ يَشْعُرُ بتقصير وذنب إذا أَوْجَزَ؛ لأنّه عند الإيجاز يُضْطَرُّ أن يُغْفِلَ بعضَ الجوانب، ويتجاهل بعضَ النواحي اللازمة، ويشير عند الإيضاح، ويُجْمِل لدى التفسير، ولايقول بعضَ ما يوَدُّ أن يقولَه، ولايُفَصِّل بعضَ النقاط التي تبقى غامضةً إذا لم تُفَصَّلْ. القولُ الفَصْلُ المُوَسَّع المُشْبِع المُتَكَامِلُ الْجَوَانِب، لايَعْدِلُه القولُ المُوْجَزُ القصير غيرُ المشْبـِع.

       على كلّ فكلا الفريقين : الموجر والمطيل، لايقدر على أن يسير في غير مسيره، وأن ينحو غير منحاه الذي ألفه، وعاش عليه، ومشى فيه، وعرف نجاده و وهاده، وجميعَ مُنْعَطَفَاتِه؛ فسَهُلَ عليه السيرُ فيه، والجريُ عليه، وجوبُه إلى المنزل المنشود.

       والراغبُ من القرّاء في قراءة المُوْجَزَات، لئن سَرَّه أنه يتمكن من قراءتها بكاملها، لكونها مستهلكة لقليل من الوقت، فإنّه يحزنه أنّه لايعرف التفاصيل وأبعادَ الموضوع وخلفيّات الواقع التي تدور حوله مقالة موجزة أو عجالة سريعة. إنّ الإيجاز ولإطالة كلاهما لئن يصحا في موضعهما، فإنّ الأول جانبه السيّء أنه لايشبع ولا يغني من جوع وظمأ، والثاني ينقصه أنه قد يجعل القارئ يسأم ويفقد الهمة؛ فيقعد عن إنهاء المقالة قراءةً، واستيعابها دراسة.

       فالمُطِيلُ ينبغي أن يبقى على الإطالة؛ لأنها أكثر نفعًا وأقل ضررًا. والمُوْجِزُ، ينبغي أن لاينحرف عن مساره الإيجازي؛ لأنّه يُشَجِّع القارئ، ويُجَرِّؤُه على التقاط المكتوب المنشور بنظرة خاطفة وتصفيحة عاجلة.

       الإيجاز أو الإطالة، ليس بدوره جميلاً جديرًا بالتقليد والتبنّي، وإنما يحسن في مكانه، ويجمل في مناسبته. وقد يكتسب كلٌّ منهما الجمالَ بلباقة الكاتب، وإتقانه وتصرّفه البارع مع مضامين الإيجاز أو الإطالة. الكاتب الذي أَتْقَنَ الإيجازَ، في الأغلب لايتقن الإطالةَ. وبالعكس فالبارع في فن الإطالة لايُحْسِن التصرفَ في فن الإيجاز. وقليلاً ما يكون الكاتب بارعًا في الإطالة والإيجاز كليهما .

       كثيرًا ما طَلَبَ إليّ بعضُ الإخوانُ أن أؤثر لهم الإيجازَ في الموضوعات التي سَمَّوْهَا . قلتُ لهم: هاتوا الوقتَ أُوتِكم الإيجازَ . لماذا تودّون منّي أن أَمْشِيَ الممشى الذي لم أتعلّمه أو لم أتعوّده. إنّي أودّ أن أمشي على الطريق الذي مشيت عليه – ولا أزال – منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأنا اليوم في مطلع العقد السادس من عمري؟.

       الخضوع لرغبات جميع الإخوان صعبٌ للغاية بل مستحيلٌ . إنك إذا أرضيت فريقًا ، أسخطت فريقاً. وصدق من قال: رضا الناس شيءٌ لايُطْلَب أو غايةٌ لاتُنَال . فلنمضِ في الطريق الذي آثرناه، ولنعمل ما أتقنّاه؛ لأنه هو أسهل ما نستطيعه من أعمال الحياة .

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الأربعاء:يوم السبتاللائقَ والتقديرَ الذي يستحقّه، وأن تدعو ربّك أن يديمه على ما هو عليه ما تطول به الحياة. ينتمي إليه؛ فلا بدّ أن تمنحه 10/جمادى الأولى 1427هـ = 7/يونيو2006م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1427هـ = يوليو – أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.

Related Posts