التواضع المتكبر: مركب من كلمتين تركيبًا وصفيًّا: الأولى:التواضع، والأخرى: المتكبر. والتواضع قبل التركيب مع الكلمة الأخرى كلمة رائعة روعةَ الجمال، تنم عن الهدوء هدوءَ الطبيعة، وعن المجد و الشرف، فالتواضع خصلة حميدة، مطلوبة ندب إليها الشرع، وهو قبول الحق، والخضوع له، وعدم ازدراء الناس، فهو من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده. والمتواضع من الناس يسلّم على من عَرَفَ، و من لم يعرف، وعلى الصغير والكبير، والوضيع والشريف، ويقبل بوجهه وقوله على من خاطبه حتى يقضي حاجته، ويعاشر الناس معاشرةً حسنةً، ويجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، ويقوم بحق الخلق، وبحق الخالق. وهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس كبير؛ قريب إلى الناس، قريب إلى الجنة، بعيد من النار.فهذه بعض الإيحاءات التي تحملها كلمة التواضع.
ومن أحسن ما سُمع في التواضع قول أبي محمد عبد الله بن أيوب التميمي- من أهل الْيَمَامَة شَاعِر مولد فصيح عَرَبِيّ عَالم مُتَكَلم- فِي الْفضل بن يحيى:
لعمرك ما الأشــــــــــراف في كل بلدةٍ … وإن عظموا للفضل إلا صنائع
أرى عظماء الناس للفضل خُشَّعًا … إذا ما بدا، والفضل لله خاشع
تواضــــــــــــع لما زاده الله رفعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً … فكل رفيعٍ عنـــــــــــــــده متـــــــــــــــواضع
والكلمة الأخرى من هذا التركيب الوصفي هي المتكبر. والتكبر صفة بغيضة كريهة كراهةَ رؤوس الشيطان، والكبر بطر الحق ورده، وغمط الناس، واحتقارهم وازدراؤهم بالقلب والقالب. والكبر قائد البغض، وفضل الحمق. والمتكبر يستنكف عن البدء بالسلام، والإقبال على الناس بوجهه، وبقوله على من هو دونه من الناس، ويعاف مجالسته، ولايعنى بشأنه، وإنما يعظم الكبراء والأمراء، ولايتصدى إلا لأمثالهم. والمتكبر بغيض عند الله، بغيض عند الناس، وهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس صغير؛ بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب إلى النار.
والمركب من هاتين الكلمتين، وهو التواضع المتكبر أو التواضع الكاذب، بالغ من الشناعة والقبح كل مبلغ. وتجد كثيرًا من الناس يدعي أنه متواضع، ويحكي من أعماله وأقواله ثم يُنهيها بما يدل على التواضع وهضم الذات، وليس في الواقع متواضعًا، وإنما هو متواضع متكبر أو متواضع كاذب، يتظاهر بكل هذا التواضع -فعلًا وقولًا- لجلب المدح والثناء على نفسه.
ومن التواضع المتكبر أو الكاذب أنك تجد بعض الناس يذم نفسه، وينحي عليها باللائمة، و ليس ذلك إلا ليراه الناس متواضعًا هاضمًا لنفسه، فيسمو بذلك منزلته عند الناس، وتعظم في عيونهم مكانته وقدره، ويثقل وزنه، فيكيلوا له المدح، وتنطلق ألسنتهم بوابل من الثناء، ويُجلَب له من الآفاق حطام الدنيا الفانية.
قال أبو الفرج ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص140): «ومن الزهاد من يلبس الثوب المخرق، ولا يخيطه، ويترك إصلاح عمامته، وتسريح لحيته؛ ليرى أنه مَا عنده من الدنيا خير، وهذا من أبواب الرياء؛ فإن كان صادقًا فِي إعراضه عَنْ أغراضه، كَمَا قيل لداود الطائي: ألا تسرح لحيتك؟ فَقَالَ: إني عنها لمشغول، فليعلم أنه سلك غير الجادة؛ إذ ليست هذه طريقة الرسول ﷺ ولا أصحابه؛ فإنه كان يسرح شعره، وينظر فِي المرآة، ويدهن ويتطيب، وَهُوَ أشغل الخلق بالآخرة، وكان أَبُو بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يخضبان بالحناء والكتم، وهما أخوف الصحابة، وأزهدهم، فمن ادعى رتبة تزيد عَلَى السنة وأفعال الأكابر لم يلتفت إليه».
ويقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
«وها هنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يُري أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبَّه عليه السلف الصالح».
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: «كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملإ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سَفهٌ» (رسالة شرح حديث «ما ذئبان جائعان»، ص 88).
ولتدرك التواضع المحمود وغيره اقرأ ما قاله الغزالي في «إحيائه»: «اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان و واسطة، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرًا، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسًا ومذلةً، والوسط يسمى تواضعًا. والمحمود أن يتواضع في غير مذلة، ومن غير تخاسس؛ فإن كلا طرفي الأمور ذميم، وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر، و من يتأخر عنهم فهو متواضع، أي وضع شيئًا من قدره الذي يستحقه…. فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران، ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات؛ ليزول به الكبر عنه؛ فإن خف عليه ذلك؛ فقد حصل له خلق التواضع؛ وإن كان يثقل عليه، وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع؛ بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولةٍ من غير ثقل ومن غير روية؛ فإن خف ذلك، وصار بحيث يثقل عليه رعايةُ قدره حتى أحب التملق والتخاسس؛ فقد خرج إلى طرف النقصان، فليرفع نفسه؛ إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم، وذلك غامض في هذا الخلق، وفي سائر الأخلاق. والميل عن الوسط إلى طرف النقصان- وهو التملق- أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر، كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل، فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان، وأحدهما أفحش، وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان، وأحدهما أقبح من الآخر. والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب، وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة».
ويقول الإمام المحاسبي (آداب النفوس، ص129): «واعرف تواضعك فِي وَقت مَا جفاك جَاف وأكرمك مكرم؛ فَإِن فيهمَا الْفِتْنَة فَإِن العَبْد رُبمَا أظهر التَّوَاضُع عِنْد الْكَرَامَة لِيَزْدَادَ مِنْهَا، وَرُبمَا تواضع عِنْد الْجفَاء ليثبت لَهُ بالتواضع عِنْد ذَلِك منزلَة بَين النَّاس فتوقف عِنْد ذَلِك كُله، وفاتش الهمة».
ويقول العلامة أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي المتوفى: 388هـ (كتاب العزلة، ص71): «ما بقي من الخير إلا الاسم، ولا من الدين إلا الرسم، ولا من التواضع إلا المخادعة؛ ولا من الزهادة إلا الانتحال؛ ولا من المروءة إلا غرور اللسان؛ ولا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حمية النفس، والغضب لها، وتطلع الكبر منها؛ ولا من الاستعادة إلا التعزيز والتبجيل». أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، ذوالقعدة 1444هـ = مايو – يونيو 2023م، العدد: 11، السنة: 47