بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله  (1305-1369هـ/1887-1949م)

تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)

           يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ٤

         ساقت الآيات السابقة فهرسًا لكثير من المحرمات، فيفرض السؤال نفسه هنا: ما  الحلال؟ فرد عليه بأن: نطاق الحلال أوسع، فما عَدا عدة أشياء فيها ضرر ديني أو جسدي، الطيبات كلها حلال لكم. وسأل بعضهم عن صيد الجوارح بصفة خاصة، ففصله الشطر اللاحق من الآية.

         فائدة: يحل صيد كلب الصيد والبازي ونحوهما بشروط: (1) أن تكون  الجارحة معلمةً. (2) إرسالها إلى الصيد (3) أن يتم تعليمها تعليمًا يعتد به الشرع، أي يتم تعليم الكلب ألا يأكل منه إذا أمسكه، ويتم تعليم البازي بأن يُقبل وهو يشتد وراء الصيد إذا دعيَ. فإن أكل الكلب أو البازي من الصيد، أو لم يُقبل إذا دعي، علِمَ منه أنه لم يمسك الصيد لصاحبه ما دام أنه لايقبل إذا دعاه، وإنما أمسك لنفسه، وهذا ما قاله الشاه -♫- بأنه ما دام تعلم من الإنسان، فكأن الإنسان ذبح الصيد (4) أن يسمي الله عند الإرسال أي يرسل بعد أن يقول: بسم الله. هذه الشروط الأربعة قد نص عليها القرآن الكريم. (5) واشترط الإمام أبوحنيفة أن تجرح الجارحة الصيد بأن يسيل منه الدم، يشعربه كلمة (الجوارح) بمادته (ج رح). فإن فقد شرط واحد منها حرم ما صاده الجارحة. فإن لم يكن قد مات الصيد، وذبحه المرء حل أكله كما يدل عليه قوله تعالى: (وَمَآ ‌أَكَلَ ‌ٱلسَّبُعُ ‌إِلَّا ‌مَا ‌ذَكَّيۡتُمۡ) [المائدة:3].

         فائدة: أي اتقوا الله في الأحوال كلها، واحذروا أن تتجاوزوا الحدود والقيود الشرعية بالانتفاع من الطيبات والصيد. وكثيرا ما يغفل المرء عن الله تعالى وعن الآخرة بالانهماك في الملذات الدنيوية، والاشتغال في الصيد. فكانت الحاجة ماسة إلى التنبيه على ألا ينسوا الله تعالى، ويتذكروا أنه لابد من المحاسبة.

         ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ٥

         أي: كما أعطيتم اليوم الدين الكامل، كذلك أحلت لكم للأبد الطيبات من النعم الدنيوية، ولن تُنسخ.

         فائدة: المراد بالطعام هنا: الذبيحة، أي إذا لم يسم اليهودي أو النصراني – شريطة ألا يكون قد ارتد من الإسلام وتهود أو تنصر- غير الله تعالى عند الذبح حلَّ أكله للمسلم، وأما المرتد فله أحكام خاصة.

         فائدة: تطرق إلى ذكره استطرادًا، أي ما ورد في بعض الأحاديث من قوله  ﷺ : «لا يأكل طعامك إلا تقي»(1)، لايعني أنه لايحل أكله لغير التقي، فإنه مادام أحل للمسلم ما ذبحه الكافر الكتابي، فكيف يحرم ما ذبحه المسلم الموحد وطعامه لغيره؟

         فائدة: لعل التقييد بـ(المحصنات) للترغيب، أي على المسلم أن ينظر قبل كل شيء عند النكاح إلى العفة والطهارة، ولايعني أنه لايجوز النكاح إلا من المحصنة.

         فائدة: بجانب حكم خاص بأهل الكتاب، تطرق إلى حكم آخر خاص بهم، أي يجوز نكاح الكتابية شرعًا، دون المشركة، (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ) [البقرة:221]، ولايغيبن عن البال أن نصارى زماننا ليسوا نصارى إلا اسمًا في عامة الأحوال، فمعظمهم لايؤمنون بكتاب سماوي، ولادين إلهي، ولايصح إطلاق «أهل الكتاب» عليهم. فلاتكون ذبائحهم ونساؤهم في حكم أهل الكتاب، كما يجب الملاحظة بأن حل الشيء يعني أنه لا يشوبه في ذاته ما يوجب التحريم، وأما إذا اقترنت به آثار وأحوال خارجة يؤدي الانتفاع بهذا الحلال معها إلى ارتكاب كثير من الحرام؛ بل قد يؤدي إلى الكفر، فإنه لايجوز الانتفاع بمثل هذا الحلال. ولايخفى اليوم العواقب الوخيمة التي يؤدي إليها المؤاكلة مع اليهود والنصارى، و مخالطتهم من غير حاجة» و الوقوع في حبائل نسائهم، فيجب الحذر من الأسباب المؤدية إلى الشر و الإلحاد.

         فائدة: (مُحْصِنِيْنَ) كأنـــــه يشير إلى أن النكاح وإن كان يبدو تقييدًا، ولكنه خير من التحلل والتفسخ واتباع الهوى، الذي يحاول البهائمُ في صور الإنسان من ورائه استئصال الزواج والنكاح والقضاء عليه.

         فائدة: كما أشار إلى تعفف المرأة وتحصنها فيما سبق، أرشد الرجل هنا إلى التعفف والتحصن، (وَالطَّيِّبٰتُ لِلطَّيِّبِيْنَ وَالطَّيِّبُوْنَ لِلطَّيِّبٰتِ) [النور:26]. وعلم منه أيضًا أن القصد من النكاح عند الله تعالى هو الصيانة والعصمة، وتحقيق هدف الزواج، لا مجرد قضاء الشهوات واتباع الهوى.

         فائدة: ليكن من فوائد إباحة نكاح الكتابيات أن يتأصل صدق المؤمن القانت في قلب المرأة، لا أن تفتنه فيضيع إيمانه. فيكون قد خسر الدنيا والآخرة، وبما أن توهم هذه الفتنة في الزواج من الكافرة كان أقوى فناسب التهديد بـ(مَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَد حَبطَ عَمَلُه)، هذا ما أراه، ويقول الشاه رحمه الله: استثنى أهل الكتاب من الكفار في حكمين، وهذا في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فكل كافر صاحب سوء، ولن يقبل منه وإن عمل عملاً صالحًا.

           يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٦

         إن قلب المؤمن الصالح العارف بالحق يمتلئ شكرًا و وفاءً حين يسمع ما منَّ الله تعالى به على الأمة المحمدية، ومن الطبيعي أن يرغب أن يستسلم لربه حاضرًا في حظيرة قدسه، ويؤكد بعمله سعادتَه بعبوديته المتناهية لله تعالى. فقال الله تعالى: إذا أردتم الحضور إلى حظيرة قدسنا، أي قمتم إلى الصلاة، فتنظفوا وتطهروا. واللذائذ الدينوية والرغبات الطبيعية – أي الطيبات والمحصنات- التي أباحت الآية السابقةُ على آية الوضوء الاستمتاعَ والانتفاعَ بها، من شأنها أن تبعد الإنسان لحد ما من الصفات الملكوتية وتقربه إلى البهيمية، والأحداث كلها- من موجبات الوضوء والغسل- نتائج حتمية لاستعمالها واستخدامها، فإذا توجهتم إلينا منصرفين عن الرغبات النفسية، فابدؤوا بالتطهر من الأثرات البهيمية والكدارة والعكارة التي يفرزها الأكل والشرب ونحوهما، وهذا التطهر يحصل بالوضوء والاغتسال. فالوضوء يطهر بدن الإنسان؛ بل تتساقط الذنوب مع قطرات الماء إذا أحسن المرء الوضوء.

         فائدة: أي إذا نهضتم من النـــوم أو انصرفتم من أشغال الدنيا وقمتم إلى الصلاة، فابدؤوا بالوضوء، ولكن لايجب الوضوء إلا إذا كنتم  على غير وضوء مسبقًا. ثم نوَّهَ في آخر الآية بما تتضمن هذه الأحكام من الغاية والهدف بقوله: (لَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ). فعُلِمَ منه أنه إنما وجب غسل اليد ونحوها ليطهركم الله ثم يؤويكم إلى جنابه، فإن كان على طهارة مسبقًا، ولم يطرأ شيء من نواقض الوضوء، فلا حاجة إلى تطهير الطاهر؛ بل إيجابه قد يؤدي إلى الحرج على الأمة، ونفاه بقوله: (مَا يُرِيْدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ حَرَجٍ)، فإن جدد الوضوء استزادة من النظافة والنورانية والنشاط، استحب ذلك، ولعل إيراد قوله: (إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ) الآية على أسلوب يرغب في الوضوء كلما توجه إلى الصلاة يشير إلى ذلك.

         فائدة: أي امسحوا رؤوسكم باليد المبتلة، ولم يثبت عن النبي  ﷺ  طوال حياته أنه مسح أقل من الناصية. والناصية هي ربع الرأس، وذهب الإمام أبوحنيفة إلى وجوب المسح بهذا القدر، وأما الاختلافات والأدلة فليس هذا موضع بسطها.

         فائدة: أشار المترجم – شيخ الهند محمود حسن الديوبندي- في ترجمة القرآن إلى الأردية إشارة لطيفة إلى أن عطف (أرجلكم) على المغسولات، أي كما يجب غسل الوجه واليد يجب غسل الرجل إلى الكعبين، ولايمسحها كما يمسح الرأس، فقد أجمع أهل السنة والجماعة ودلت الأحاديث الكثيرة على أنه يجب غسل الرجل إذا لم يلبس الخفين. و يجـــوز  المسح على الخفين بالشرائط المذكورة في كتب الفقه، للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها.

         فائدة: أي لايكفي في التطهر من الجنابة غسل الأعضــــــاء الأربعـــــــــة والمسح؛ بل يجب إيصال الماء إلى ظاهـــــــــــر البشـــــــــــرة إذا أمكن ذلك مــــــــن غـــير إضرار، ولذا قــــــال الحنفية بوجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، وأما الوضوء فهو سنة وليس بواجب.

         فائدة: أي خاف الضرر من استعمال الماء أو عدم وجود الماء في السفر بقدر الكفاية، أو مثلًا جاء أحد من الغائط واحتاج إلى الوضوء، أو لزمه الغسل للجنابة، ولم يقدر على تحصيل الماء أو على استعماله لسبب من الأسباب، فيتيمم في هذه الوجوه بدلا من الوضوء أو الغسل. ويتحقق الغرض المقصود من مشروعية الوضوء والتيمم على حد سواء في كل وجه. وسبق بيان حكم التيمم ومسائله، و ما يتعلق بهذه الآية من الفوائد في الركوع السابع من سورة النساء.

         تنبيه: وقول المترجم قدس سره: أتيتم النساء في تفسير قوله تعالى: ( لَٰمَسْتُمُ النِّسَآءَ) يدل حسب الإطلاق العام على حالة الجنابة. وهذا التفسير يوافق ما ذهب إليه ابن عباس وأبوموسى الأشعري  رضي الله عنهما ، واعترف به ابن عباس سكوتًا عليه، كما في صحيح البخاري. وتفسير المترجمه قوله: (فَتَيَمَّمُوْا) بقوله: اقصدوا يشير إلى أن معنى القصد معتبر في لفظة التيمم لغةً، و نظرًا إلى هذه المناسبة مع المعنى اللغوي أوجب العلماء القصد أي النية في المعنى الشرعي أيضًا.

         فائدة: وعليه لم يوجب غسل جميع الجسد في الأحداث التي يكثر وقوعها، وإنما أوجب غسل الأعضاء من الوجه واليد والرجل ومسح الرأس، التي لايرى أهل أكثر البلاد المتمدنة بأسًا في كشفها، وذلك تفاديًا من الحرج والضيق. وأما الحدث الأكبر الذي يقع أحيانًا، وكانت النفس حينئذ في حاجة إلى تنبيه غير عادي لحملها على الخصال الملكوتية، فأوجب غســــــــل جميــــــع الجســـــــــــد لإزالته. ثم يسَّر كثيرًا في حالــــة المرض والسفر، فجعل التراب مطهرًا بدلا من الماء في جانب، وفي جانب آخر خفف من أعضاء الوضوء إلى النصف، فأسقط كليًا ما كان مخفَّفًا عنه من قبل، وهو الرأس، فلم يوجب مسحه، وإنما أسقط الرجل؛ لأنها تكون في التراب أو قريبًا منه في عامة الأحوال، والرجل أكثر أعضاء البدن تلوثًا بالتراب، فكان من العبث مسح اليد عليها بالتراب، فلم يبق إلا عضوان: الوجه واليد، فإذا مسحهما فقد حصل التيمم في الوضوء والغسل.

         فائدة: فإنه نظيف يحب النظافة.

         فائدة: لما سمع العبد ما سبق بيانه في الركوع السابق من النعم العظيمة ثارت في قلب العبد عاطفة القيام على الفور لعبادة هذا المنعم الحقيقي، فعلَّمه كيف يتطهر إذا أراد التوجه إليه سبحانه. وهذا التعليم بدوره نعمة من النعم. وتطهير باطن الجسد بإمرار الماء على السطح الظاهر منه أو إلقاء التراب عليه أو تتريبه به نعمة أخرى. فلم يكن العبد قد أدى شكر النعم السابقة، وإنما قصد أداءه حتى فاضت عليه نعم جديدة. فقال: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ) أي قبل تذكر النعم السابقة اشكروا هذه النعم الجديدة المتمثلة في أحكام الوضوء وغيره،ولعل قوله:(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ) استنبط منه بلال  رضي الله عنه  «تحية الوضوء». وبعد أن نبَّه على شكر هذه النعم المتخللة، يذكِّر في الآية اللاحقة بهذه النعم والمنن السابقة بالإجمال، التي أراد العبد أن يقوم لأداء شكرها إلى الله تعالى، فقال سبحانه عز شأنه: (وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ)[آل عمران:103].

           وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٧

         (مِيْثَاقَهُ) ولعل المراد بهذا العهد هو ما سيق على لسان المؤمنين في نهاية سورة البقرة: (وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ ‌غُفۡرَانَكَ ‌رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ) [البقرة:285]. وكان الصحابة  رضي الله عنهم  حين يبايعون النبي  ﷺ  يقررون بأنهم يطيعونه ما استطاعوا في المكره والمنشط. وهذا عهد عام. ثم أخذ عهد خاص ببعض أركان الإسلام أو ما يناسب أحوالهم من الأمور الهامة، فكأن قوله تعالى في أول هذه السورة (اَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ)، وتخلله ذكر النعم والمنن الكثيرة، التي يرغب استماعها في إيفاء العهد ترغيبًا أكثر، ثم عاد إلى التذكير بالدرس الأصل.

         فائدة: ما من أحد ذي مروءة وحياء إلا ويحب أن يستسلم لمنعمه والمحسن إليه. فالمروءة وشرف النفس وما يأتيه من المنن والنعم المزيدة؛ كل ذلك يتطلب أن ينصاع العبد كل الانصياع لمنعمه العظيم هــــذا، وخاصةً وقـــــد تعهد بلسانه عهدًا موثقًا بالطاعة والوفاء، فقد يغتر العبد بما يرى من النعم والعنايات الربانية اللامتناهية، فلا يبالي بهذه النعم وبما تعهد وأقر به، فقال: (وَاتَّقُوْ اللّهَ) أي دوموا على تقوى الله تعالى؛ فإنه لايعجز عن انتزاع هذه النعم منكم انتزاعًا. وما أشد عقوبة الكفران ونقض العهد.

         وعلى كل، تتطلب المروءة والنجابة والخوف والرجاء أن نستعد كل الاستعداد لخالص الطاعة والوفاء له سبحانه وتعالى، ثم قال: (عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْرِ) بما نأتيه، فهو على علمٍ تامٍ بإخلاصنا ونفاقنا، ورئائنا وطاعتنا النابعة من القلب. ولن نغرَّه بإطلاق (سمعنا وأطعنا) بمجرد ألسنتنا، وأداء صورة الشكر والامتنان، والمراءاة والتظاهر به.

         يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ٨

         أمرت الآية السابقة المؤمنين بتذكر نعم الله تعالى عليهم، وما عاهدوا، ونبهت هذه الآية على أن مجرد التذكر باللسان لايغني؛ بل لابد من تأكيد ذلك بالعمل. وهذه الآية الكريمة تنبه على أنكم إن لم تكونوا قد نسيتم آلاء الله تعالى الكثيرة، وعهدكم وميثاقكم، لزم أن تكونوا في كل وقت على استعداد تام، لأداء حقوق هذا المنعم الحقيقي، وتصديق ما عاهدتم عليه، فإذا جاءكم أمر من المولى عزوجل فامتثلوه على الفور، ولاتدخروا جهدًا في أداء حقوق العباد متزامنًا مع أداء حقوقه سبحانه وتعالى. فقوله: (قَوَّامِيْنَ لِلّٰهِ) يشير إلى حقوق الله تعالى، وقوله: (شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ) يشير إلى حقوق العباد. وسبقت آية مماثلة في الجزء الخامس من القرآن الكريم المبدوء بقوله: (وَالْمُحْصَنٰتِ)، إلا أنه ناسب إتيان (بالقسط) ثمة، وإتيان (لله) في هذه الآية. كما أن اللاحق في هذه الآية هو التعامل مع العدو اللدود، فاحتاج إلى التذكير بالقسط، واللاحق في سورة النساء ذكر المحبوب فجاء التذكير بأعظم المحبوب وهو الله تعالى في سورة النساء.

         فائدة: العدل: التعامل مع أحد بما يستحقه من غير إفراط ولا تفريط. ويجب أن يكون ميزان العدل بحيث لايرجح كفةً منها أعمق الحب ولا أبغض العداوة.

         فائدة: التقوى عبارة عن الكيفية النورانية الخاصة التي تتأصل في قلب الآدمي بسبب توقيه من الأشياء المهلكة أو الضارة – لحد ما- شرعًا. وما أكثر الأسباب القريبة والبعيدة التي تؤدي إلى التقوى. فلايبعد إدراج جميع الأعمال الحسنة والخصال الطيبة فيها. ولكن يبدو أن العدل والقسط أي التسوية بين الصديق والعدو وعدم الانجرار على الإطلاق وراء عواطف الحب أو البغض في الحقّ من أكثر الأسباب فعلًا وتأثيرًا وأشدها قربًا مما سواها في تحصيل التقوى. ولذا قال: (هُوَ اَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) أي هذا العدل الذي أمرتم به، أقرب إلى التقوى، فإن مزاولته أكبر عون على تحصيل كيفية التقوى.         فائدة: أي الطريق الوحيد إلى تحصيل العدل – الذي لايحول دونه صداقة صديق أو عداوة بغيض، و يُسَهِّل امتثاله على المرء التحلي بالتقوى- هو خوف الله تعالى، والخشية من انتقامه سبحانه. وهذا الخوف ينشأ من الإكثار من استحضار ومراقبة ما دل عليه قوله تعالى: (اِنَّ اللّٰهَ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُوْنَ)، فإذا استحضر المؤمن في قلبه اليقينَ بأنه سبحانه لايخفى عليه ظاهره ولا باطنه، فإنه يرتعد قلبه خوفًا من الله تعالى، وبالتالي يسلك طريق العدل والإنصاف في جميع شؤونه، ويستعد استعداد العبد الذليل لامتثال الأحكام الإلهية، ويؤدي به ذلك إلى اجتناء الثمر الذي ذكره الله تعالى في قوله اللاحق: (وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا) الآية.


(*)     أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.

(1)      رواه أبوداود في السنن برقم [4832].

مجلة الداعي، المحرم-صفر 1444هـ = أغسطس-سبتمبر2022م، العدد: 1-2، السنة: 47

Related Posts