يعيش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من الاضطهاد والتضييق والقتل والتشريد، وتكميم الأفواه، وكبت الحريات ألوانًا وصنوفًا تتجدد مع مرور الأيام والسنين، ويتفنن فيها أعداؤهم وأعداء الإنسانية بما يمليه عليهم عدو الإنسان الشيطان الرجيم الملعون من رب العالمين. وفي مثل هذه الأوضاع الحالكة المدلهمة يمر بالمسلمين ذكرى حدث يشكل منعطفًا هامًّا في تاريخ الدعوة الإسلامية الأولى، وهو حدث هجرة النبي ﷺ من مكة أحب البلاد إليه، وأحب أرض الله إلى الله سبحانه و تعالى، ذلك البلد الأمين الذي شهد مدارج طفولة النبي الأمين ﷺ وصباه، وشبابه و كهولته، وجزءًا كبيرًا من شيخوخته، البلد الذي له فيه ذكريات عزيزة كثيرة، بعد أن شدَّد أهلها الخناق عليه، وعلى الدعوة الإسلامية، فضاقت عليه أرض مكة بما رحبت. ولم يهاجر النبي ﷺ وأصحابه من مكة فرارًا مما كان يصبه عليهم أهلها من النكبات والآلام والفظائع التي تقشعر منها الجلود، وينخلع لها الفؤاد، وتذرف منها العيون بدلا من الدموع دماءً، وإنما هاجروا إلى المدينة المنورة بحثًا عن أرض تصلح لأن تستغلظ فيها الدعوة الإسلامية وتستوي فيها على سوقها، وتؤتي ثمارها المرجوة من إخراج عباد الله تعالى من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وينتشر الخير الذي انبثق نوره من غار حراء، هاجروا إلى من وقفوا بجانب الدعوة الإسلامية الخيرة النيرة، إلى الأنصار الذين عرضوا على المهاجرين أن يقاسموهم أموالهم وأراضيهم حتى أزواجهم، وأحبوا مَن هاجر إليهم على عكس ما تمكن في قلوب القبائل من الانزعاج والتحرج ممن يهاجر إلى ديارهم لمضايقتهم؛ وآثروهم بأموالهم ومنازلهم وأراضيهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.
وهنا يجب أن يتذكر المسلمون المواقف الخالدة التي وقفها النبي ﷺ وأصحابه خلال الهجرة وقبلها، مواقف البذل والتضحية والفداء.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يريد الهجرة إلى المدينة كما هاجر غيره من مسلمي مكة، فيأمره الرسول ﷺ بالتريث حتى يرافقه في الهجرة، ويعرض عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه راحلة عند الهجرة، فيأبى رسول الله ﷺ إلا بالثمن، لندع أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما – تحكي هذا البذل والفداء من أبي بكر فتقول: «قال رسول الله ﷺ: «أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان»، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله -ﷺ-، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجرًا، فقال له رسول الله-ﷺ-: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن». فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس أبوبكر نفسه على رسول الله-ﷺ- لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر؛ قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يومًا في بيتنا في نحر الظهيرة، فقال قائل لأبي: هذا رسول الله-ﷺ- مقبل متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداه أبي وأمي! إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر! قالت: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: «أخرج من عندك»، قال أبو بكر: إنما هو أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: «فإنه قد أذن لي بالخروج»، فقال أبوبكر: فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: «نعم»، فقال أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتيّ هاتين. فقال رسول الله ﷺ: «بالثمن»(1).
وهذا علي رضي الله عنه أمره النبي ﷺ أن ينام في فراشه ليلة الهجرة و خروجه من بيته إلى غار ثور، وقد عزمت قريش على تنفيذ خطتها المدروسة بإتقان وإمعان، بقتله ﷺ، وأحاط الشبان الذين تولوا كبره حين يخرج إليهم، ولم يقتحموا داره مع قصر الجدار؛ لأن بعضهم قال حين هموا به: «والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أننا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا سر حرمتنا». فأصبحوا وهم ينتظرون خروجه من البيت حتى ينفذوا الجريمة المبيتة عن مشورة و رأي. وكانوا يدعونه ﷺ أمينًا، وليس بمكة أحد عنده شيء يخاف عليه إلا استودع النبي ﷺ إياه لما يعلم من أمانته وصدقه. وكان عند النبي ﷺ تلك الليلة الشيء الكثير من تلك الودائع.فخلَّف عليًّا رضي الله عنه ليؤدي عنه الودائع إلى أصحابها، قبل أن يغادر مكة إلى المدينة المنورة، وقال له: نَم على فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنَم فيه؛ فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله -ﷺ- ينام في برده ذلك إذا نام(2). وقال في خلاصة الوفاء: «فلن يخلص إليك منهم أمر، فرد هذه الودائع إلى أهلها، وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته»(3). فانصاع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأمر رسول الله ﷺ، وخضع له طيبةً به نفسه. لنتذكر كيف أنه رضي الله عنه فدى رسولَ الله ﷺ بنفسه؛ فقد كان على علمٍ بأنه على كعب قوسين أو أدنى من رماح المشركين وسيوفهم، كأنها الحيات تتلمظ لتنهش فريستها، وأنه يشق عليه أن يخلص بنفسه من براثن هؤلاء المتربصين للنبي ﷺ المنتظرين خروجه، ليضربوه ضربةَ رجل واحدٍ، فيتفرق دمه في قبائل مكة، وباتوا يظنونه -عليًّا- محمدًا ﷺ حين ينظرون إليه من خلل الباب، فإنهم لو علموا أنهم قد خُدعوا بعلي رضي الله عنه، الذي نام في فراشه، اشتاطوا غيظًا، ولم يكن يمنعهم شيء من أن يشفوا غضبهم بقتله رضي الله عنه، فقد كان الموقف على غاية من الحرج والخطورة، والموت يرقص فيه. فكان علي رضي الله عنه- ذلك الفتى الشجاع المؤمن المصدق بالنبي ﷺ- أول شاب فدائي في الإسلام.
وهذا صاحب رسول الله ﷺ في الغار أبوبكر الصديق رضي الله عنه ، ينطلق هو و رسول الله ﷺ مختفين عن أبصار أهل مكة، ليلجؤوا إلى غار ثور حتى يهدأ الطلب، وكان أبوبكر رضي الله عنه لايأمن على النبي ﷺ الأخطار و المكاره. فكان يتقدم رسولَ الله ﷺ حينًا ويتأخر عنه حينًا آخر. يقول محمد بن سيرين: ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضَّلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله، لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر! لقد خرج رسول الله ﷺ ليلة انطلق إلى الغار، و معه أبو بكر فجعل يمشي ساعةً بين يديه وساعةً خلفه. حتى فطن رسول الله ﷺ فقال : يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعةً خلفي، وساعةً بين يدي؟ فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق(4).
وفي دلائل النبوّة: فجعل مرّة يمشي أمامه، ومرّة خلفه، ومرّة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال رسول الله ﷺ: «ما هذا يا أبا بكر، ما أعرف هذا من فعلك»؟ فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك. وكان رسول الله ﷺ قد خلع نعليه فى طريق الغار، وكان يمشي على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثرهما على الأرض حتى حفيت رجلاه، فلما رآه أبو بكر و قد حفيت رجلاه، حمله على كاهله، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار، فأنزله(5).
ويبدأ أبو بكر بدخول الغار مخافة أن يصاب النبي ﷺ بأذى فيه، فيقول أصحاب السير: «إن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله-ﷺ- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرًا فيه، فألقمه عقبه؛ لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله- ﷺ- فجعلت الحيات والأفاعي يضربنه ويلسعنه، فجعلت دموعه تتحدّر. وفي رواية: فدخل رسول الله-ﷺ- و وضع رأسه في حجر أبي بكر فنام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله ﷺ-، فقال: مالك يا أبا بكر؟ فقال لُدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله-ﷺ- فذهب ما يجده». رواه رزين(6).
وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن أبي بكر أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه أبو بكر رجليه. قال: «يا رسول الله، إن كان لدغة أو لسعة كانت بي». وروى ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: «لما انطلق أبو بكر مع رسول الله ﷺ إلى الغار، قال أبو بكر: يا رسول الله، لا تدخل الغار حتى أستبرئه. فدخل أبو بكر الغار، فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن إصبعه و يقول:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت(7).
وبعثت قريش الطلب في أعلى مكة وأسفلها، وأرسلوا القافة في كل وجه، حتى وصل الذي خرج نحو غار ثور، فوجد أثره به، فلم يزل يقتصه حتى انتهى إلى ثور. ولما رأى أبو بكر القافة اشتد حزنه على رسول الله ﷺ، لا على نفسه، فما أهون على أصحاب رسول الله ﷺ بذل نفوسهم دون رسول الله ﷺ؛ ولكن على الرسول وعلى دعوته ورسالته التي جاء بها من عند رب العالمين، حتى قال الصديق رضي الله عنه له- رسول الله ﷺ-: إن قُتلتُ أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنت هلكت الأمة. وقال الحسن البصري: وكان النبي ﷺ قائمًا يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبي ﷺ: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله، ما على نفسي أئل؛ ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره. ولما رأى الرسول ما نزل بأبي بكر من الهم والقلق، قَوَّى قلبه ببشارة تتلى ما بقي الليل والنهار: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:40].
وفي الصحيح عن أنس قال أبو بكر: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول الله -ﷺ-: «ما ظنك باثنين، الله ثالثهما»(8).
ولقد أحسن حسان حين قال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد
طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا
من الخلائق لم يعدل له بدلا(9).
فلما هدأ الطلب خرج رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر حتى أتيا قباء، قبل دخولهما المدينة، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقّوا رسول الله ﷺ بظهرالحرّة، وذلك يوم الاثنين لشهر ربيع الأول، فخرجوا إلى رسول الله ﷺ، وهو في ظلّ نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنّه. وقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله ﷺ صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممّن لم ير رسول الله ﷺ يحيّي أبا بكر و يرحب به، وهو يظن أنه رسول الله ﷺ، حتى أصابت الشمس رسولَ الله ﷺ فأقبل أبو بكر حتى ظلّل عليه بردائه فعرف الناس رسولَ الله عند ذلك.
وعند ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن عويم: أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله، ما أدري أيهما هو حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك(10).
وكم من مواقف أخرى للبذل والعطاء والفداء من أبي بكر رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي ﷺ، وكل ذلك يحمل في طياته دروسًا صادقة مخلصة للأمة الإسلامية بالأمس واليوم وغدًا مهما ضاقت على المسلمين الأرض برحبها.
محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري
(تحريرًا في الساعة الثامنة صباحًا من يوم الأحد: غرة المحرم الحرام 1444هـ = 31/يوليو 2022م)
(1) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان 1/28.
(2) سيرة ابن هشام 2/91.
(3) تاريخ الخميس 1/324.
(4) دلائل النبوة للبيهقي،2/ 476.
(5) دلائل النبوة للبيهقي،2/ 477.
(6) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 1/174.
(7) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ)، ص 3/240.
(8) صحيح البخاري،برقم [3653].
(9) شرح الزرقاني على المواهب 2/124.
(10) شرح الزرقاني على المواهب،2/ 150.
مجلة الداعي، ربيع الأوّل 1444هـ = أكتوبر 2022م، العدد: 3، السنة: 47