إشراقة
قال الإمام مالك رحمه الله: وبلغني أن صكوكًا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجَار فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب رسول الله ﷺ إلى مروان، فقالا له: أتحلّ بيع الربا يا مروان! فقال أعوذ بالله، وما ذاك؟ قالا: هذه الصكوك يتبايعها الناس ثم يبيعونها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان الحَرَس يتبعونها ينتزعونها من أيدي الناس، و يردّونها إلى أهلها.
قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على غيرة العلماء على الدين الذي استحفظوه، وعلى غيرة أولي الأمر على الدين، الذين جعلهم الله رعاة ومسؤولين عنه وعن رعيتهم. وهي صورة رائعة من صور حياة السلف الصالح ومواقفهم النيرة الشجاعة بين يدي الملوك والأمراء، وصدعهم بالحق دون تلكُّؤٍ أو تردد أو خوف لومة لائم، أو عقاب سلطان،كما دلت القصة على أن الترك فعل؛ لأن مروان بن الحكم لم يحل هذا النوع من البيع، وإنما ترك النهي عنه. و يشع من موقف الصحابيين- وهما زيد بن ثابت وأبو هريرة- اللذين دخلا على مروان بن الحاكم – وكان عاملا على المدينة المنورة من قبل معاوية – رضي الله عنه – إغلاظهما القول له، وتشديدهما النكير عليه في ذلك؛ فإن مسؤولية الحاكم لاتقتصر على الأمر بالمعروف؛ بل يجب عليه أيضًا النهي عن المناكير الشائعة في نطاق اختصاصه ودائرة سلطته، فإن لم يقم بذلك فكأنه يتعاطف معها، ويشجع أهلها على الضلوع في مثل هذه المناكير.
لم يكن زيد بن ثابت وأبو هريرة رضي الله عنهما من شيوخ السلاطين وعلمائهم، الذين يشكلون طبولًا وأبواقًا للدولة، يبيعون الأحكام والفتاوى الدينية على حساب دينهم وعقيدتهم وثقافتهم الإسلامية، وإنما كانا من أولئك العلماء الذين ضحوا بحياتهم وحرياتهم، وما ملكت أيمانهم في سبيل قول الحق وإعلاء كلمة الدين، فهم ينافحون عن الله ورسوله ودينه لا عن الحاكم وسلطته وأهوائه، وخاصة في الوقت الذي أصبح كثير من الحكام المسلمين عملاء للغرب، ومرتزقة لأعداء الإسلام والحق والصواب.
ولا شك أن شيوع المنكرات في البلاد مع سكوت الحاكم المسلم عليها يشكل تعاطفًا مع الوالغين فيها، وتيسيرًا للسبيل إلى ارتكابها. والناظر في البلاد الإسلامية عامةً يصاب بصدمة شديدة يتفطر لها كبده، حين يرى بلادًا تسجل في قائمة البلاد الإسلامية، وأهم مواردها المالية اتخاذُ الخمور وتجارتها على مستوى الدولة، وبترخيص منها ومباركات وتشجيعات وتحفيزات لانهاية لها.
بلاد تحت مسمى البلاد الإسلامية لاتتورع؛ بل تتبجح بتوفير سبل الدعارة والمجون والفواحش ما ظهر منها وما بطن، تحت ستار التجارة الحرة، واستقطاب أكبر عدد من السائحين والسائحات الداعيات إلى الخنا والفسق والإثم، وإرضاء للغرائز الجامحة، والواشمات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، والمومسات المائلات المميلات والعاريات الخليعات الماجنات الفاجرات الحاسرات عن رؤوسهن و أرجلهن إلى…، وذلك لتطوير القطاع السياحي في البلاد، الذي يضمن لها موردا ماليًّا ثرًّا، ولو على حساب دينها وعقيدتها ومُثُلها وثقافتها العربية والمحلية والدينية.
يا سبحان الله! دولة إسلامية تدار على مكاسب الخمر التي لعن فيها رسول الله ﷺ عشرة، فعن أنس، قال: «لعن رسول الله ﷺ في الخمر عشرة:عاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له، وحاملها، والمحمولة له، وبائعها، والمبيوعة له، وساقيها، والمستقاة له، حتى عد عشرة، من هذا الضرب» [ابن ماجة: 3381].
روى جابر أن رجلا قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟ فقال له النبي ﷺ: «إن الله لا يقبل إلا الطيب»، فنزلت هذه الآية: ﴿قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِيثِۚ﴾ [المائدة:100] تصديقًا لرسول الله ﷺ.(زاد المسيرلابن الجوزي.
إنه من المبكيات المضحكات أن ترى دولة إسلامية تقوم على مكاسب الربا والفوائد البنكية، وعلى مكاسب البغي والفاحشات. قال الله تعالى فيها: ﴿ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ﴾ [البقرة:275]، فإن القصد من هذه الآية الكريمة إبطال وسيلة كانت من أبرز أسباب ابتزاز أموال الفقراء والمحتاجين، وهي المعاملة بالربا الذي لقبه النبي ﷺ ربا الجاهلية. وجاء في خطبة حجة الوداع: «ألا، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي عباس بن عبد المطلب». و كان إنكار القرآن على أهل الجاهلية تعاطيهم الربا، من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة المكرمة. ومن عادة القرآن الكريم أنه يشرح أحوال الكفار تغليظًا عليهم، وتعريضًا بتخويف المسلمين، ليكرِّه إليهم أحوال الكفرة وصفاتهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فالمراد منه أيضًا تحذير المسلمين من مثله في الإسلام، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[البقرة:275]. وقال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة:276].
وما قصة محل بيع الخمور على قاب قوسين أو أدنى من مبنى القضاء في بعض الدول التي تسمى دولا إسلامية، وتحرم تناول الخمر وبيعها – ببعيد؛ فقد نشرت وسائل الإعلام المحلية فيها أن قاضيًا من قضاة محكمتها كان ينظر في قضية شرب خمر ضد بعض المعتقلين، فسأله القاضي: من أين اشتريت الخمر؟ فما كان من المتهم إلا لفتة من خلال شباك مجلس القضاء، وهو يشير إلى بعض المحلات بالقرب منها: اشتريتها من هذا المحل. فلم يملك القاضي – الذي كان يحمل بين جوانحه قلبًا نابضًا بالغيرة والحمية الدينية- عينيه، وبكى بكاء مرًّا، وقدم استقالته من منصب القضاء في حينه، فقد رأى من العار والشنار أن يقضي على المتهم بشرب الخمر بالحبس أيامًا وأسابيع، وهي تباع على مرأى ومسمع من الدولة؛ بل بترخيص منها، وعلى قاب قوسين أو أدنى من المحكمة التي نُصِبَ فيها قاضيًا يحكم بشرع الله تعالى، وينفذ حدوده وأوامره.
وما أغرب وأعجب وأشد شذوذًا واستهجانًا أن نرى بلادًا تزهو بتسمية نفسها بلادًا إسلامية، وتشرع وتسنُّ قوانين وضعية معارضة للشريعة الإسلامية على طول الخط وعرضه، وأن يثير الحاكم المسلم ومن وراءه وفوقه لغطًا حول ثوابت الدين ومحكمات الشريعة.
سمعت بعض من أثق به يقول: كان لي قريب مسلم ذو ميول دينية يعيش في بلد أوربي لوظيفة كان يشغلها فيه، فحدثت نفسه أن يقضي شهر رمضان في بلد إسلامي، في جو إيماني: جو العبادة والصلوات و التراويح، والإقبال على موسم الخير والبركة؛ ليكون على نصيب أوفر من النفحات الرمضانية الربانية في هذا الشهر الفضيل. ولم يسبق له زيارة بلد إسلامي من قبلُ، فحجز تذكرة السفر من فج عميق إلى هذا البلد الإسلامي، وكله أمل ورجاء وطموحات وحسن ظن به، وهومعتز بجوه الإيماني فيما حدثته نفسه، فما إن وطئت قدماه أرض المطار حتى وقف شاخصًا ببصره، لايستطيع أن ينبس ببنت شفة، وأصيب بدوار، وراح يبكي وينشج، وذهبت به نفسه كل مذهب في التفكير: هل أخطأ طريقه إلى البلد الإسلامي الذي كان موضع أمانيه، ومحط رحال آماله، والذي كان يحلم به في يقظته ومنامه؟ هل تغير هذا البلد عشيةً وضحاها؟ أصبح مؤمنًا، وأمسى كافرا؟ وتعمد أن يدقق النظر فيما حوله: هل يرى شيئا مما كان يتخيله عن بلد إسلامي؟ ﴿كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا﴾ [النور:38]. فخاب ظنه، واغتيلت آماله.
أبو عائض القاسمي المباركفوري
مجلة الداعي، ربيع الآخر 1444هـ = نوفمبر 2022م، العدد: 4، السنة: 47