الفـكر الإســــــــلامي
بقلم: العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله
(1305-1369هـ/1887-1949م)
تعريب: أبو عائض القاسمي المباركفوري(*)
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٣٨
أي إذا سرق أول مرة قطعت يده اليمنى إلى الرسغ، وباقي التفاصيل في كتب الفقه. وذكر الركوع السابق عقوبة قطع الطريق ونحوه، وتخلل ذلك بعض النصائح اللازمة للمسلمين لبعض المناسبات التي تطرقنا إليها، ثم عاد إلى استكمال المضمون السابق، أي قدَّم عقوبة قطع الطريق، وهنا ذكر عقوبة السرقة.
أي العقوبة التي تنزل على السارق ليست بدلا عن المال المسروق؛ بل عقوبة على فعله السرقة، ليكون نكالا له ولغيره من السارقين. ومما لاشك فيه أنه لايتم تنفيذ هذه الحدود و إنزال عقوبة السرقة هذه على بضعة من السارقين في مكان إلا وينسد باب السرقة فيه. ويصف أدعياء الثقافة اليوم أمثال هذه الحدود بالعقوبات الوحشية والبربرية، ولكن إذا لم تكن السرقة عندكم فعلًا حضاريًّا وثقافيًّا، فلاشك أن عقوبتكم الحضارية والثقافية لن تنجح في استئصال هذه السرقة اللاحضارية. وإذا كان احتمال بعض الوحشية يؤدي إلى تهذيب كثير من السارقين، فليهنأ حملة الثقافة والحضارة أن هذه الوحشية أعانت على مسيرتهم الثقافية. ويحاول بعض أدعياء التفسير أيضا اعتبار قطع اليد العقوبةَ القاصيةَ للسرقة، و يطلبون من الشريعة عقوبة أخف من هذه العقوبة. ولكن المشكلة أن هذه العقوبة الأخف على السرقة لم يتعرض لها القرآن الكريم ولاشهد العهد النبوي أو عهد الصحابة نظيرًا لها.
هل لأحد أن يدعي أن السرَقة المأخوذين في هذه المدة الطويلة لم يكن واحد منهم ممن سرق لأول مرة، حتى يعاقب بعقوبة مبدئية أخف من قطع اليد ولو على وجه بيان الجواز؟ و شك أحد الملحدين في الزمن القديم في حد السرقة هذا قائلا: إذا كانت دية اليد الواحدة خمس مئة دينار، فكيف تقطع هذه اليد الغالية بسرقة بضع روبيات ما دام أنه يجب على قطعها ديةٌ تبلغ خمس مئة دينار. فرد عليه أحد العلماء قائلا: إنها لما کانت أمينة کانت ثمینة فلما خانت هانت.
فائدة: الله عزيز، فحُقَّ له أن ينفذ ماشاء من الأحكام، ليس لأحد أن يناقشه فيها. وحكيم، فلا يوهم أن ينفذ قانونًا من القوانين في غير محله بناءً على اختياره الكامل، ولايدبر حفظ أموال عباده الضعفاء. وهذا ينافي عزته وغلبته. وأن يترك حبل السارقين وقطاع الطريق على غاربهم، ينافي حكمته.
فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٣٩
أي إذا حسنت التوبة، وذلك يستلزم أن يرد المال المسروق إلى صاحبه، فإن كان تلف ضمنه له. فإن عجز عن ضمانه تحلله منه. وندم على فعله، وعزم على الحذر منه في المستقبل. فعسى أن يرفع الله تعالى بتوبته عنه عقوبته الأخروية التي لاتعدل العقوبة الدنيوية بإزائها جناح بعوضة.
أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٤٠
فإذا كان الـمُلك الحقيقي له، دون غيره، فلايكون إلا له الاختيار في عفو من رأى عفوه، ومن رأى بحكمته وعدله عذابه عذَّبه. و له الاختيار الكامل في العفو والعذاب؛ بل لايحول أحد دون استخدامه صلاحياته واختياراته هذه؛ فإنه قدير على كل شيء.
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١
ذكرت الآيات السابقة حدود قطع الطريق والسرقة ونحوهما، وهذه الآيات تتحدث عن أقوام حرفوا حدود الله تعالى، وعرضوا أنفسهم للعذاب العظيم. وفصل البغوي الكلام على قصتهم فقال: إن رجلا وامرأة – قد أحصنا – من أهل خيبر زنيا، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم، فتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: هذا الذي في يثرب – يعنون به النبي ﷺ- ليس في كتابه الرجم؛ بل عنده الجلد. فهلا ترسلون رجالا من يهود بني قريظة، فهم جيرانه وعلى صلح معه. فانطلقت جماعة منهم إلى النبي ﷺ ليعرفوا ما عقوبة الزاني المحصن عنده، فإن قال بالجلد قبلوه، وإن قال بالرجم أبوه. فلما سألوا النبي ﷺ قال لهم: هل ترضون بما أرى؟ فقالوا: نعم. فنزل جبرئيل عليه السلام بالرجم من عند الله تعالى. فرجعوا عن إقرارهم، حتى سألهم الرسول ﷺ: مارأيكم في ابن صوريا من فدك؟ فقالوا: أعلم الناس بشرائع موسى عليه السلام على وجه الأرض. فأرسل إليه النبي ﷺ، فلما قدم سأله النبي ﷺ: ما عقوبة هذه المعصية في التوراة؟ورغم أن غيره من اليهود كان يحاول كتمان هذا الحكم، وقد كشف القناع عنه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، إلا أن ابن صوريا – العالم المعترف به عندهم- أقر بصورة أو أخرى بأن عقوبتها هو الرجم في التوراة، ثم كشف الستر عن واقع الأمر، و كيف أن اليهود رفعوا الرجم، واستبدلوا به جلدَ الزاني، وتسويد وجهه، والطواف به معكوس الوجه على حمار. وحاصل القول أن النبي ﷺ رجم الرجل والمرأة، وقال: يارب، أنا أول من أحيى حكمًا في الدنيا بعد أن أماتوه. وهذا هو الحق.
فائدة: أي المنافقون ويهود بني قريظة.
فائدة: (سَمَّـٰعُونَ) كثيرو السماع والإصغاء. ثم يطلق (السماع) حينًا على التجسس، وحينًا على كثير القبول، كما تقول: سَمِعَ الله لـمَنْ حَمِده. فالسماع بمعنى القبول. وحمل المترجم [شيخ الهند محمود حسن الديوبندي] رحمه الله على المعنى الأول. وحمله ابن جرير وغيره من المحققين على المعنى الثاني. (سَمّٰعُوْنَ لِلْكَذِبِ) أي كثيرو القبول للكذب والباطل. و(سَمّٰعُوْنَ لِقَوْمٍ اٰخَرِيْنَ) أي لجماعة أخرى أرسلتهم، ولم تأتِ، فهم كثيرو القبول لقولها.
فائدة: أي يحرفون أحكام الله تعالى، أو يغيرون سياقها.
فائدة: (إنْ اُوْتِيْتُمْ هٰذَا) أي إذا أمركم بالجلد فاقبلوه، وإلا فردوه. فكأنهم أرادوا إخضاع شرع الله تعالى لهوى نفوسهم.
فائدة: لايحدث شيء من الهداية والضلالة والخير والشر بدون إذن من الله تعالى. فهذا مبدأ إنكاره أصعب من قبوله. فهَبْ أن رجلا أراد السرقة، وأراد الله تعالى أن يمسك عنها. فإن نجح في إرادته، لزم عجز الله تعالى – والعياذ بالله – عنه. وإن غلبت إرادة الله تعالى إرادةَ العبد، لزم ألا يحدث شيء من الشرور من سرقة وغيرها في العالم. فإن لم يرد الله تعالى خيرًا ولا شرًا لزم تعطله أو غفلته وسفهه – تعالى الله عن كل الشرور وتقدس- والتأمل في هذه الوجوه يضطر المرءَ إلى القول بأنه لايحدث شيء بدون إرادة خلقه، وهذه المسألة أهم وأطول ذيلا، و نقصد إفراد هذه المسائل في مقالات مفصلة، و إلحاقها بالفوائد. والله الموفق.
ذكر أولا موقف المنافقين واليهود، وخص بالذكر من أعمالهم: الكذب الدائم، والجنوح إلى الباطل، و التجسس ضد أهل الحق، ونصرة الأحزاب الخبيثة والشريرة، وتحريف آيات الهداية وتبديلها، وإباء الحق الذي لايخدم أهواءهم ورضاهم. واعلم أن مَثل قوم يتصف بهذه الصفات كمثل مريض، لايتناول الدواء، ولايتقي ما يهلكه ويضره، ويستهزئ بالأطباء، ويسب من ينصحه، ويمزق ورقة الوصفة الطبية، أو يدخل فيها تعديلات من عند نفسه، ويتعهد بأنه لن يتناول الدواء الذي لاينسجم مع رغبته ومذاقه. وحينئذ إذا تخلى الطبيب – وإن كان أباه – عن معالجته ومداواته، وعزم على أن يترك هذا المريض يتحمل عواقب تعديه وأخطائه وتعنته وعناده، فهل كان ذلك دليلا على قسوة قلب الطبيب وعدم اعتنائه بالمريض أو نقول: إن المريض انتحر. فإذا هلك المريض بعد ذلك؛ فإنه لاينحي باللائمة على الطبيب، فإنه قصر في معالجته، ولم يرغب في شفائه من مرضه.
بل يكون المريض قد جنى على نفسه، فقد ألقى بيده إلى التهلكة، ولم يوفر للطبيب فرصة لمحاولة إعادة الصحة إليه. وقِس عليه تمامًا أن الله تعالى ذكر خبث اليهود واتباعهم لأهوائهم، وعنادهم وعنجهيتهم، ثم قال: (مَنْ يُّرِدِ اللّٰهُ فِتْنَتَهٗ)، وقال: (اُولٰٓىِٕكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللّٰهُ اَنْ يُّطَهِّرَ قُلُوْبَهُمْ) فلايعني ذلك إلا أن الله تعالى حرمهم عنايته ولطفه نظرًا إلى سوء استعدادهم، وأعمالهم الباطلة؛ فلايرجى بعد ذلك اهتداؤهم إلى الطريق، ولاقبولهم التزكية. فلاتبخع أيها الرسول نفسك على آثارهم لقوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ) [آل عمران: 176]. وأما توهمُ أن الله تعالى كان قادرًا على أن يكفهم عن شرورهم وخبثهم جبرًا، ويحملهم على أن يتجنبوا العناد والعنجهية، فلايمنعنا من الاعتراف بأن ذلك كان أيسر شيء على قدرة الله تعالى، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) [يونس:99]، ولكنه سبحانه وضع نظام الدنيا هذه كله على عدم إكراه العباد في اكتساب الخير والشر، فلوحملهم على اختيار الخير فحسب، لفاتت حكمة خلق العالم ومصلحته، ولفات كثير من صفات الله تعالى، التي لم تظهر في شيء. منها- مثلاً- عفوٌّ غَفُورٌ، حَلِیْمٌ، منتقمٌ، ذوالبطش الشدید، قائم بالقسط، مالِكُ یومِ الدینِ، ونحو ذلك، في حين أراد الله تعالى بخلق العالم إظهار صفات الكمال هذه كلها. ولم يشرح دين أو إنسان – يؤمن بأن الله تعالى فاعل مختار- غرضًا آخر له. (لِيَبْلُوَ كُمْ اَيُّكُمْ أَحْسَن عَمَلًا) [الملك:2]. ولايسع المقام أكثر من هذا؛ بل هذا القدر أيضا زائد على موضوعنا.
سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ٤٢
روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم من كبار السلف: كان النبي ﷺ مخيرًا في الحكم بينهم أول الأمر، فلما اكتمل الإسلام سلطةً ونفوذًا، أمِرَ ﷺ بـ(وَاَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا اَنْزَلَ اللّٰهُ)[المائدة:49] أي احكم بينهم بما يوافق الشريعة الإسلامية. والمعنى أنه لاحاجة إلى الإعراض و طَيِّ الكشح عنه.
فائدة: أكد القرآن الكريم مراتٍ ومراتٍ على أنه مهما بلغ المرء من الشر والظلم والخبث يجب ألايوصَم ذيل عدلكم ومساواتكم برشاشات الظلم والحيف. وهذا ما قام عليه الأرض والسماء ونظامهما.
وَكَيۡفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِيهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۚ وَمَآ أُوْلَـٰٓئِكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٣
أي من العجب أنهم يتحاكمون إليك، ولايرضون بحكم التوراة التي يؤمنون بأنها كتاب سماوي، فلا إيمان لهم في الواقع بشيء، لا بالقرآن ولابالتوراة. وأثنى في الركوع التالي على التوراة والإنجيل، ونبَّه على أنهما كانا من أحسن الكتب وأشملها لعلوم الهداية، واستهان بهما هؤلاء الأغبياء، وضيعوهما حتى عز الوصول إلى أصلهما، حتى بعث الله تعالى برحمته الكاملة في آخر العهود الكتاب الذي يعد أمينا على المطالب الأصلية لهذه الكتب ومصدقا لها، وقد تكفل منزله بحفظه للأبد. فلله الحمد والمنة.
إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٤٤
أي هذا الكتاب هدى لمن يطلب الوصول إلى الله تعالى، ونور لمن تورط في ظلمات الشبهات والمشكلات.
فائدة: أي كانت التوراة متضمنة للائحة عمل عظيم، وهدى، وكان العدد الكبير من الرسل وأهل الله، وأهل العلم يحكمون ويفصلون النزاعات على وفقه.
فائدة: أي وُكِلَ إليهم أمر حفظ التوراة. ولم يَعِد الله تعالى لها بما وعد به للقرآن الكريم (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، فكانت التوراة في مأمن وحفظ ما دام العلماء والأحبار يشعرون بمسؤوليتهم تجاهها،حتى دخلها التحريف على أيدي علماء السوء المتهالكين على متاع الدنيا، وضاعت.
فائدة: لاتحرفوا الكتاب السماوي خوفًا من الناس أو طمعًا في الدنيا، ولاتكتموا أحكامه وأخباره، واتقوا عذاب الله تعالى وانتقامه. وهذا الخطاب الذي تلا بيان عظمة التوراة وقبولها عند الله تعالى، موجه إما إلى رؤساء اليهود وعلمائهم الذين عاصروا نزول القرآن الكريم؛ فإنهم كفروا بحكم الرجم. كما كانوا يكتمون بشارات النبي ﷺ، ويحرفون معانيها تحريفًا عجبًا، أو موجه إلى الأمة المحمدية على أنه تخلل نصحها بألا تضيع كتابها السماوي خوفًا من أحدٍ أو حبًا في المال والجاه شأن الأمم الأخرى. فلم تنقص الأمة المحمدية – ولله الحمد- من كتابها حرفًا واحدًا، ونجحت في الحفاظ عليه من تحريف وتبديل المبطلين، وستنجح فيه دومًا.
فائدة: لعل المراد بعدم الحكم بما أنزل الله: أن يكفر بوجود الحكم المنصوص عليه، ويستبدله بأحكام أخرى انطلاقًا من رأيه وهواه. كما فعلت اليهود فيما يخص حكم الرجم. فلاشبهة في كفر أمثال هؤلاء. وإن أراد أنه يؤمن بما أنزل الله تعالى ولكنه خالفه في عمله، فالمراد بالكافر هنا الكافر عملًا، أي أنه في عمله على مثل عمل الكافر.
وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ٤٥
فائدة: حكم القصاص هذا كان في شريعة موسى عليه السلام، وصرَّح كثير من أهل العلم بأن ما حكاه القرآن الكريم أو حكاه نبينا ﷺ من الشرائع السابقة، فإنه معتبر في حق هذه الأمة أيضًا إذا لم يرد من النبي ﷺ إنكار عليه أو تعديل فيه. فتلاوته من غير رد وإنكار عليه دليل على تلقيه بالقبول.
فائدة: العفو عن قصاص الجروح يكون كفارة لذنوب المجروح، كما صرح به بعض الأحاديث. وقصر بعض المفسرين هذه الآية على الجارح، أي إن عفا المجروح عن الجارح عفي عنه ذنبه. والراجح هو الأول.فائدة: تعامل اليهود على خلاف حكم القصاص أيضًا، فكانت بنو النضير منهم – وكانت أعز وأقوى فيهم- تستوفي الدية من بني قريظة، وإن كانت عليها دية دفعت نصفها. وكانت بنوقريظة لضعفها عاهدت بني النضير على ذلك. وصادف أن قتلت بنو قريظة رجلا من بني النضير، فطالبت بنو النضير من بني قريظة الدية كاملة على جاري العادة، فقالت بنو قريظة: لقد أدبر الزمان الذي اضطرتنا قوتُكم فيه إلى الرضا بالمصالحة معكم على ذلك. وهيهات – وقد ظهر محمد ﷺ- أن يدوس القوي الضعيف بقدمه أو يخضعه لنفسه اليوم؛ فإنهم كانوا على يقين بأن النبي ﷺ يعامل الضعيف والقوي جميعًا بالعدل والإنصاف، ويأخذ بأيدي الضعفاء في مواجهة الأقوياء. وأخيرًا رفع هذا الأمر إلى النبي ﷺ، وصدق ظن بني قريظة بهذا النبي العادل كل الصدق. فقوله بعد الأمر بالقصاص (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) يشير إلى هذه القصة. ولم يكونوا كفروا كفرًا صريحًا بحكم القصاص شأن حكم الرجم، وإنما صالحوا على حكم غير شرعي وساروا عليه، فكان ذلك خلافًا لقانون العدل عملاً لاعقيدةً. ولذا قال هنا: (الظالمون) بدلا من (الكافرون)، أي من الظلم الصريح أن تستوفى الدية من القوي أقل مما يستوفى من الضعيف منها.
(*) أستاذ الحديث والأدب العربي بالجامعة.
مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47