دراسات إسلامية
الدكتور / عبد الوهاب القرش
تستوقفنا الآيات القرآنية التي يتوجّه فيها الخطاب للنبي ﷺ، فتجعل كل من له عقل وقلب يغوص بفكره في أعماقها، متسلحًا بالتفاسير وبكتب الفضائل، ولكن هيهات هيهات، لا يشفي غليل الوجدان إلّا الإلهام.
وقد استوقفتنا آية الرحمة ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] على عجالة وحيطة، فدوّنا ما لعلّه أن يكون مفتاحا لتأويل هذه الآية الكريمة، ولقد نهجنا في ذلك على منوال المفسرين، لا على شاكلة العارفين، وأين نحن منهم!!.
بداية لقد صيغت هذه الآية بأبلغ نظم إذ اشتملت بوجازة ألفاظها على مدح النبي ﷺ ومدح مرسله الله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفًا بدون حرف العطف الذي عطفت به، ذكر فيه الرسول ﷺ، ومدح مرسله، والمرسل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكیر رحمة للتعظيم، إذ لا مقتضي لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين، فهذه اثنا عشر معنى، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب.
ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي ﷺ بقوله: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة».
وتفصيل ذلك يظهر في صورتين: الأولى: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثانية: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما الصورة الأولى: فقد زين الله محمدًا ﷺ بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق ولهذا خص الله محمدا ﷺ في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، في القرآن كله، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة:120]، وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ﴾ [آل عمران:159]، أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا.
وفي حديث مسلم: أن رسول الله ﷺ لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم أبعث لعّانًا وإنما بعثت رحمة».
وأما الصورة الثانية: من صور كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله تعالى متعلق بقوله رحمة.
والتعريف في (للعالمين) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم، والعالم: الصنف من أصناف ذوي العلم، أي الإنسان، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم احتمال المعنيين في قوله تعالى: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الفاتحة:2]. فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنی كون الشريعة المحمدية في الرحمة أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة.
ولكن البعض يقصر رحمة النبي ﷺ بأتباعه بخاصة، ويقولون: هو رحمة بأهل الإيمان فقط، والواقع يشهد بهذا، فإن من كفر به قاتلهم وقاتلوه، وماتوا على الكفر.
يرى آخرون أن الرسول ﷺ رحمة في نفسه، وهدى، فمن أخذ به من أفراد العالمين أخذ، فأفاد من هذه الرحمة، ومن أعرض عنه أعرض، ولم ينتفع بهذه الرحمة.
كأن نقول مثلًا هذا الطبيب الماهر، رحمة بأهل هذه البلدة، فمن تنبه له ووثق به، ذهب إليه، وأفاد منه، وانتفع بعلمه، فكان الطبيب له رحمة، ومن أعرض عنه وتجاهله، لم تشمله هذه الرحمة.
إن أغلب من فسروا هذه الآية، ذهبوا إلى عمومها، وشمولها لكل ما يدخل تحت لفظ العالمين من المخلوقات، وإن كان بعضهم قصروها على جنس الإنسان، بحجة أن العالم هو الصنف من أصناف ذوي العلم، هو الإنسان، لكن المشهور عنهم أن العالمين تشمل النوع من المخلوقات ذات الحياة، وهذا هو المعنى المعقول.
تدل الآية على أن ثمة اتحادًا وتلازمًا بين شخص الرسول ﷺ وبين خلق الرحمة، فلا انفكاك في كل الأحوال، وعلى أية حال، كان عليها النبي ﷺ، وهذا المعنى يؤيد توجيه الآية إلى رحمة المخلوقات جميعًا، لأن الرسول ﷺ في سيرته اليومية لا يتعامل فقط مع المؤمنين، ولا من الناس فقط.
لن نجد صعوبة، في بيان رحمة الرسول ﷺ بالمؤمنين، فمظاهرها متنوعة، وأسبابها متعددة، وصورها أكثر من أن تحصى، سواء ما كان منها في مجال التشريعات، وما صاحبها من تخفيف، وتلطف، وتقدير للظروف، أو ما كان منها في مجال العلاقات الاجتماعية، والشخصية، وهي لكثرتها، تكاد تجد لدى كل من صاحب الرسول ﷺ وإن كان عددهم بالآلاف، موقفًا خاصًا، أو ذكرى عطرة، أو محاورة لطيفة معه، وكتب الأحاديث تكاد تسعفنا في هذا المقام.
رحمته صلى الله عليه وسلم بأهل الكتاب:
لقد كان ﷺ رحمة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويمكن أن نعرض هذه الرحمة ضمن الصور التالية:
الصورة الأولى: أن الرسول ﷺ خصهم بما لم يخص به العرب -أهله وعشيرته-، حين قبل منهم البقاء على دينهم، ولم يقبل هذا من العرب، حين خيرهم بين الإسلام أو القتال.
في حين خير اليهود والنصارى بين الإسلام، أو الجزية، وهي مبلغ يدفعونه، مقابل حماية المسلمين لهم.
وإذا انتقلنا من عصر النبي محمد ﷺ إلى القرن السابع الهجري، حين دخل هولاكو بغداد، وأسر عددًا من المسلمين، والنصارى، واليهود، فذهب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يطالب بطلاق سراح الأسرى، قال له هولاكو نطلق سراح المسلمين، ونبقي اليهود والنصارى، فلا شأن لك بهم، فرفض ابن تيمية هذا العرض، وقال يطلق هؤلاء قبل المسلمين، لأنهم في حماية المسلمين، وتحت رعايتهم، فأعجب به هولاكو، وأطلق سراحهم جميعًا.
الصورة الثانية: أن الرسول ﷺ أقام العدل بين من كان يعيش منهم بكنفه، وقد أوصاه الله بهذا، فقال له: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾ [المائدة:42].
الصورة الثالثة: حرص الرسول ﷺ على أن يعامل أهل الكتاب، معاملة حسنة، وسعى إلى إغلاق الأبواب التي تؤدي إلى إلحاق الأذى بهم، ولقد وقفت على رواية، مفادها أنه كان في المدينة زمن الرسول ﷺ جالية نصرانية صغيرة، تسكن في حي يسمى سوق النبط.
ولا نجد ذكرًا حتى هذه اللحظة أنه قُتل نصراني واحد عند النبي محمد ﷺ؛ ولكن للأسف الشديد قتل الكاثوليك زمن (كارلوس الخامس) عام 1521م أكثر من نصف مليون من النصارى البروتستانت، كما بلغ عدد من أحرقوا بالنار 230 ألف من البروتستانت أيضًا.
وتدلنا مقابلة الرسول ﷺ لوفد نصارى نجران، على حسن معاملته للنصارى في عصره، وهي منطقة قريبة من مكة، كان أهلها نصارى، جاؤوا إلى المدينة، فاستقبلهم النبي ﷺ، وتلطف معهم، وأوضح لهم معالم الحق، ثم تركهم بعد ذلك على ما يرغبون، فاختاروا البقاء على دينهم، فتركهم وشأنهم، ثم طلبوا منه أن يرسل معهم أحد أصحابه يستعينون به في إدارة أمورهم، وحل مشاكلهم، فقال: سوف أرسل معهم رجلًا أمينًا، فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح، وقال هذا أمين هذه الأمة.
لقد عفا عن المرأة اليهودية، التي قدمت له طعامًا مسمومًا، وعفا عن لبيد اليهودي، الذي حاول إيذاء الرسول ﷺ وقد ذكر لزوجه عائشة أنه عفا عنه؛ لأنه لا يريد أن يثير الناس، رحمة بالجميع.
الصورة الرابعة: كان من أهداف القرآن التي عمل الرسول ﷺ على إنفاذها، دمج أهل الكتاب في المجتمع، عن طريق الإذن بالزواج من نسائهم، والسماح بمخالطتهم، اجتماعيًّا، حين أباح الأكل من طعامهم.
كان الرسول ﷺ يلبي دعوتهم إلى الطعام، ويزور مرضاهم، ويواسيهم في مصابهم، ولقد تعاطف القرآن الكريم مع نصارى نجران الذين أحرقهم ملكها بسبب إيمانهم وتوعده الله بالعذاب.
الصورة الخامسة: أن الرسول ﷺ بين لأهل الكتاب ما أصاب دينهم من تحريف وتبديل، وهذه المصارحة، وإن كانت صعبة عليهم، ولكنها من الحق المر، ومن مظاهر الرحمة. والمثل يقول: صديقك من صدَقك، لا من صدَّقك، وتركهم بعد ذلك لاتخاذ القرار، بكل حرية واختيار.
الصورة السادسة: لقد أمَّنَ الرسول ﷺ اليهود والنصارى على أموالهم وأنفسهم، وأماكن عبادتهم، وحتى على طعامهم وشرابهم، فأبقى لهم الحرية كاملة، فيما يأكلون ويشربون، بما لا يجرح شعور المسلمين، في ضوء القاعدة المشهورة بين المسلمين: لا ضرر ولا ضرار.
لم نورد هذه المظاهر على سبيل الحصر، فإنها أكثر مما ذكرنا بكثير، لكنها مجرد إشارات تدل بوضوح على مدى رحمة الرسول ﷺ بأتباع الديانات الأخرى.
ومن محاسن الصدف، أن الخلاف في طبيعة السيد المسيح، قد ظهر جليًا، زمن الإمبراطور (هرقل) البيزنطي، الذي عاصر النبي محمدًا ﷺ (575-642)، فقد كان أهل بيزنطة يقولون: إن للمسيح طبيعتين: واحدة إلهية، والأخرى بشرية، في حين كانت رعيته في مصر وبلاد الشام يقولون: إن الكلمة انقلبت لحمًا ودمًا فصار الإله هو المسيح، وهم اليعقوبية.
وما كان يدري هؤلاء أنه في الوقت الذي يختلفون فيه هذا الاختلاف الكبير كان هناك النبي محمد ﷺ لديه الحقيقة كاملة.
الحق نقول: إن مظاهر الرحمة التي صدرت من النبي ﷺ بحق هؤلاء الخصوم، صارت منهجًا اتبعه كل من جاء بعده، من حكام المسلمين، وعلمائهم، لأنني سبق أن أشرت إلى أن المسلمين ملزمون باتباع الرسول ﷺ فيما يصدر عنه من قول أو فعل.
من يقلب صفحات التاريخ، يجد أن معاملة المسلمين للنصارى، لم تتغير عمَّا رسمه الرسول ﷺ لهم، ويمكننا القول بكل أسف: إن تاريخ الرسول ﷺ مع كفار قريش أعاد نفسه، فتاريخ المسلمين مع النصارى مشابه له.
لقد عامل المسلمون النصارى بالعفو والرحمة والتسامح، في حين عامل النصارى المسلمين بكل قسوة، في مواطن كثيرة جدًا في الأندلس، ومحاكم التفتيش، والحروب الصليبية.
لقد كانت البشرية قبل النبي محمد ﷺ تعيش الشقاء في كل نواحي الحياة، وهي أحوال اعترف بسوئها كل من كتب عنها، فكان ظهور الرسول ﷺ محمد رحمة للبشرية.
فإنه ما من أحد درس الأوضاع المشار إليها، إلاَّ أقر بوجود مظاهر قسوة وظلم فيها، وما من أحد منصف درس سيرة النبي محمد ﷺ إلَّا أقر بوجود مظاهر رحمة في كل جوانبها.
وهذا التصور يعين كثيرًا على فهم قول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
رحمته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين:
كان ﷺ رحمة بالمنافقين وهم فئة من الناس، كانوا يسكنون المدينة مع الرسول ﷺ آمنوا به في الظاهر، واستمروا على كفرهم به في الباطن، وقد سلكوا هذا المسلك، لما رأوا أنه من رحمته بالناس أنه يعاملهم على ما يبدو منهم في الظاهر، ويكل السرائر إلى الله، فسلكوا هذا الطريق المظلم.
لا يتسع المقام في هذا المقال لسرد الأخطار التي واجهها الرسول ﷺ بسبب المنافقين، ولا الأضرار التي لحقت بالمسلمين من جهة المنافقين.
لقد حاول عبد الله بن سلول، زعيم هؤلاء المنافقين، النيل من شرف بيت النبوة، حتى اتَّهَمَ زوج النبي عائشة -رضي الله عنها-، وكانت أحب نسائه إليه، حين اتهمها بالزنا، فأنزل الله تعالى قرآنًا يكذب هذه الفرية، ويبرئ عائشة -رضي الله عنها-، فكان مما جاء في هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [النور:11].
ومن الأضرار التي لحقت بالمسلمين ولم يغفلها التاريخ، انسحاب عبد الله ابن سلول بثلث الجيش في غزوة أحد، فترك هذا التصرف أثرًا سيئًا في نفوس المسلمين، ومنها أيضًا تعاون المنافقين مع أعداء الرسول ﷺ في كل موطن.
لقد بدت من الرسول ﷺ مظاهر رحمة بهؤلاء، رغم شدة عداوتهم وخطورتهم، وعلى رأسهم خصم الرسول ﷺ العنيد عبد الله بن سلول، منها:
الصورة الأولى: أن الرسول ﷺ لم يفضح أمرهم بين الناس، فقد كان يعرف أسماءهم، حين أخبره الله بهم، ولكنه ستر عليهم، وهذه رحمة بارزة بهم، وهي رحمة بأقاربهم المسلمين الصادقين، دفعًا للحرج عنهم.
الصورة الثانية: لم يقتل أحدًا منهم، مع أنهم يستحقون القتل؛ لأنهم أشد خطرًا عليه، من الكفار البعيدين، فقد تركهم وشأنهم، وكان يعاملهم كما يعامل المسلمين.
الصورة الثالثة: أن الرسول ﷺ كان يوبخ المنافقين، دون توجيه الكلام إلى أحد منهم صراحة، ولكنه كان يحذر من النفاق، ويقرأ عليهم آيات الوعيد، وينذرهم بالعذاب الشديد الذي ينتظرهم، ولقد أثمر هذا الأسلوب، وترك عدد منهم النفاق، وحسن إسلامهم، فكان الستر عليهم، وعدم قتلهم رحمة بمن راجع نفسه، وتاب إلى الله وحسن إسلامه.
العجيب أن بعض العلماء اعترف بهذه المواقف؛ ولكنه اعترض على اعتبارها من مظاهر الرحمة؛ لأن المنافقين لا يستحقون الرحمة، وهي على أية حال، تبقى وجهات نظر.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالكافرين:
تتمثل رحمته ﷺ بالكافرين في عدة صور من أهمها ما يلي:
الصورة الأولى: أن وجود الرسول ﷺ بينهم، حال دون نزول عذاب الاستئصال بهم، كما حصل مع بعض الأمم السابقة لهم، مثل قوم عاد، وثمود، ولوط. وهذا المظهر نص عليه القرآن صراحة: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ﴾ [الأنفال:33 ]، وتلك رحمة ما بعدها رحمة، نعم بها الكافرون جميعًا.
الصورة الثانية: أن الرسول ﷺ كان يرفض بشدة، أن يدعو عليهم، ولو دعا عليهم، لاستجاب الله له، كما استجاب لدعوة غيره من الأنبياء، كمثل دعوة النبي نوح عليه السلام:
﴿..رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح:26]، فأغرق الله جميع سكانها، ولم ينج إلاَّ قلة كانت مع نوح في السفينة.
لقد طلب الصحابة من الرسول ﷺ أن يدعو على كفار مكة في معركة أحد، فقالوا له: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة».
كان هذا في معركة أحد، التي أصيب فيها الرسول ﷺ بجراحات كثيرة، وقتل بعض أعز أصحابه، ومع هذا كله، رفض الدعاء عليهم، وتكرر المشهد في معركة حنين، حين تعرض المسلمون لأذى ثقيف، قالوا: يا رسول الله، ادع على ثقيف، ففاجأهم بقوله:«اللهم اهدِ ثقيفًا فدعا لهم ولم يدع عليهم».
الصورة الثالثة: أن الرسول ﷺ لم يعاملهم بالمثل، فقد عذبوه، وعذبوا أصحابه، ولم يعذبهم، ومارسوا عليه وعلى أصحابه سياسة التجويع، ولم يمارسها، وأخرجوه، ولم يخرجهم، قتلوا أسراه، وعفا عن أسراهم.
الصورة الرابعة: تجنب الرسول ﷺ كل وسائل الصدام معهم، فقد منع مقاتلتهم مدة ثلاثة عشر عامًا، وحين قاتلهم، كان حريصًا على إنهاء الصراع سريعًا، ويشهد لهذه قلة عدد المعارك بينهم، وقلة عدد القتلى كذلك.
تبين أثر مظهر الرحمة هذا بإسلام الآلاف من الكفار تباعًا، حتى أسلم أهل مكة كلهم يوم الفتح.
الصورة الخامسة: شعور عامة الكفار برحمة الرسول ﷺ بهم، وشفقته عليهم، وقد دلت على هذا الشعور معاملته لهم، ومعاملتهم له، وحين كانوا يأتون إليه، طالبين منه العون، في شؤون حياتهم، فيستجيب لهم، وهم على كفرهم به، وعلى عداوتهم له.
رحمته صلى الله عليه وسلم مع غير البشر:
إن ممارسة الرحمة مع غير البشر، مظهر من مظاهر التدرج في التربية على هذا الخلق، إذ ليس من اليسير أن يتحرر المرء بكل بساطة من بعض الصفات التي تحول دون ممارسته الرحمة، مع أخيه الإنسان، مثل حب الذات، وحب الانتقام، وكراهية من يسيء إليه، فكأن الرحمة بالحيوانات والطيور وسيلة وغاية في آن واحد.
حين قال الرسول ﷺ على مسمع من أصحابه: «من لا يرحم لا يُرحم» وعندما سمعوه يقول: «ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء» فهم الصحابة منها وهم العرب، أصحاب البيان، أن الرحمة العامة الشاملة، هي المطلوبة، لنيل رحمة الله، وليست رحمة مخصوصة بفئة معينة، أو بجنس معين من المخلوقات.
ذلك أن أهل الأرض المشار إليهم في قول النبي هم القريب والبعيد، الصديق والعدو، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الحيوانات والطيور، لن ينال أحد رحمة الله مالم يمارس الرحمة، عن محبة وقناعة مع هؤلاء جميعًا.
لقد نهى النبي بكل وضوح، عن كثير من صور الرياضة التي يكون فيها الحيوان طرفًا، ويلحق به الأذى، فمصارعة الثيران حرام، ومبارزة الديوك بعضها مع بعض حرام، وجعل الحيوانات والطيور أهدافًا يصوَّب عليها حرام أيضًا.
لقد استقرت هذه الثقافة في أذهان أصحاب الرسول ﷺ فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر على قوم، وقد وضعوا طيرًا وجعلوه هدفًا، يصوِّبون عليه بالسهام، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله ﷺ لعن من اتخذ شيئًا فيه روح غرضًا.
إن رحمة الرسول ﷺ كانت غريبة في أول الأمر على ضمير البشرية، لبعد ما كان بينها وبين واقع الحياة الروحية، والواقعية من مسافة، ولكن البشرية أخذت من يومها تقرب شيئًا فشيئًا من آفاق هذه المبادئ، فتزول غرابتها في حسها، وتتبناها وتنفذها ولو تحت عناوين أخرى.
يمكن أن نقول بتعبير معاصر: إن الرسول ﷺ كان يسعى لإصدار تشريع ينص على وجوب خلو الأرض من كل تصرف يتناقض مع الرحمة، بكل صورها ومظاهرها، وفي كل ميادين الحياة. إن البشرية كلها، قد تأثرت بمنهج الرحمة، الذي جاء به الرسول ﷺ طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة، وما تزال ظلال الرحمة وارفة لمن يريد أن يستظل بها.
مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47