دراسات إسلامية

         أقسام السرف من حيث متعلقه: وهي – فيما يبدو لي – ثلاثة:

         1 – السرف في الشر.

         2 – السرف في الخير.

         3 – السرف في المباح.

         وهي قسمة حاصرة وفق مبدإ السبر والتقسيم.

         (1) أما السرف في الشر، سواء أكان في مجال المال والنفقة أم كان في غيرهما فهو شر، قليلا كان أو كثيرا، قال الحق سبحانه: ﴿قُلۡ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53](1).

         يقول الإمام الطبري (ت310 هـ): «عنى – تعالى ذكرُه – بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك؛ لأن الله عم بقوله. . . ﴿يَٰعِبَادِيَ ‌ٱلَّذِينَ ‌أَسۡرَفُواْ ‌عَلَىٰٓ ‌أَنفُسِهِمۡ﴾ [الزمر:53] جميع المسرفين فلم يخص به مسرفًا دون مسرف»(2).

         والشر هنا كلمة جامعة لكل الخصال المذمومة، سواء في مجال العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق والسلوك أو غير ذلك، فمن باشر شيئا منها فهو مسرف على نفسه.

         وعلى هذا: فالشرك والكفر والإلحاد والزندقة والنفاق إسراف، وكبائر الذنوب من قتل النفس والزنا والربا والسرقة والكذب والغش ونحو ذلك: كله إسراف.

         ومثله ترك الواجبات: كالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل ذلك إسراف.

         وهكذا الصغائر هي من الإسراف أيضا، ويلحق بها المكروهات.

         فإذا حددنا دائرة الشر هنا في إطار النفقة وشؤون المال وفقًا لدائرة البحث، فإنه يدخل فيها عدة صور منها: ترك الواجبات: كالزكاة، والنفقة الواجبة، على القول بأن التقصير في فعل الأمر إسراف كارتكاب النهي، ومنها فعل المحظورات عن طريق الإسراف: كالإنفاق في معصية الله كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ‌إِذَآ ‌أَنفَقُواْ ‌لَمۡ ‌يُسۡرِفُواْ ‌وَلَمۡ ‌يَقۡتُرُواْ﴾ [الفرقان:67] من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف(3).

         وقال ابن عباس (ت 68هـ): «من أنفق درهما في غير حقه فهو أسرف»(4).

         ويدخل في ذلك إرادة غير الله تعالى في الإنفاق كالرياء والسمعة.

         وهذا النوع من النفقة، أعني الإنفاق في غير طاعة الله هو من الإسراف في المال إجماعا.

         ويلتحق بذلك الإنفاق في الأمور المكروهة، ويدخل فيها كثير من صور التنعم والرفاهية، كالسفر إلى بلاد غير المسلمين بقصد السياحة، والتوسع في شراء المقتنيات الخاصة بالآثار، وشراء الصحف والمجلات بقصد إشباع غريزة حب الاستطلاع، ونحو التكلف في البناء والعمران، والمركبات، وإقامة الأفراح. وهلم جرا.

         إن من يفعل ذلك ويغرق في الترف والنعيم غير مبالٍ بما ينفق على نفسه أو أسرته هو جدير بأن يكون بخيلا على أمته وبلاده، بل إنه كما يقول الدكتور مصطفى السباعي (ت1384هـ): «إذا فتح ميدان من ميادين الخير يحتاج إلى ماله ومعونته عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، ثم ادعى لك الفقر، وزعم لك الضيق، وغالى في كساد التجارة وقلة الربح وعسر الحال. . . . وهؤلاء شر ما تبتلى بهم الأمم، وأنانيتهم من أشد أنواع الأنانية قتلا للأمة وإساءةً إليها، وترى فيهم الجواد السخي في الولائم والضيافات. . .»(5).

         (2) وأما السرف في الخير، وهو الزيادة فيه، فهو فيما يظهر قسمان:

         1- تعدي الحدود المشروعة مما جاء ضبطه في الشريعة بنوع أو قدر أو عدد أو هيئة محدودة، فالزيادة هنا ابتداع في الدين لا يجوز مطلقا.

         قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»(6).

         يقول الشاطبي (ت790هـ): «هذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية»(7).

         2- الزيادة على أمور مطلقة غير مقيدة أو محددة. ويدخل في هذا أنواع أعمال التطوع المطلق من صلاة أو ذكر أو تلاوة أو زكاة أو صيام أو حج أو صدقات. . . . إلخ.

         فهذا أمر جائز؛ بل هو محل التنافس والسبق.

         بيد أن مجال الخير المالي بحاجة إلى شيء من التوضيح:

         إذ السرف فيه ربما اختلط مع الجود والسخاء المشروعين، هذا إلى أنه ربما تصدق الإنسان بأكثر ماله أو كله.

         وقد سبق إيضاح المسألتين:

         فالفرق بين السرف والجود: أن السرف تبذير وتفريق للمال على غير بصيرة، بحيث يقع في مجالات مشبوهة أو محظورة أو كان بقصد الرياء والسمعة.

         وأما الجود فهو وضع المال في موضعه المشروع.

         وفي المسألة الثانية (التصدق بأكثر المال أو كله) قد عرفنا خلاف أهل العلم فيها، وأنه مذموم إذا ترتب عليه إضرار بالنفس أو بمن يعوله، وإلا فهو محمود.

         «وإن من علائم الخير في الأمم أن ترى أبناءها في حياتهم الشخصية والعائلية لا ينفقون إلا بقدر معتدل، ولا يبذلون إلا ما هو في حدود الكفاية، ولكنهم في حياتهم الاجتماعية أسخياء كرماء، لا يعرفون للكرم حدودًا ولا غاية. . . .»(8).

         (3) وأما السرف في المباح فقد سبقت إليه إشارات، ونلقي عليه هنا مزيدًا من الضوء الكاشف.

         ونبدأ أولا بتعريف المباح، فهو في عرف علماء أصول الفقه: ما أذن الشارع في فعله وتركه، وخلا من المدح أو الذم(9).

         فكل جهة من جهات مصارف المال لم يؤمر بالصرف فيها أو ينه عن ذلك فهو جهة مباحة ويتعلق ذلك بكثير من أمور الحياة: كالأكل والشرب والسكنى والركوب ونحو ذلك.

         فالسرف في هذه المجالات مما جاءت الشريعة بذمه، كما في قوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ ‌وَٱشۡرَبُواْ ‌وَلَا ‌تُسۡرِفُوٓاْۚ ‌إِنَّهُۥ ‌لَا ‌يُحِبُّ ‌ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف:31](10) قال ابن كثير (ت774هـ): «أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدولًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا»(11).

         ولبعض المفسرين آراء أخرى في معنى الآية، حيث يرون أن السرف ما كان في معصية الله فقط، وأن التقتير ما كان في منع حق واجب.

         قال ابن عطية (ت546هـ) «وفي ذلك نظر والوجه أن يقال: إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقًّا آخر أو عيالا ونحو هذا، وألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها»(12).

         ويقسم ابن حجر الإنفاق في المباحات إلى قسمين:

         «أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يليق به عرفا، وهو ينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة إما ناجزة أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف، والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنه إسراف، وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس بإسراف قال: لأنه تقوم به مصلحة البدن، وهو غرض صحيح، وإذا كان في غير معصية فهو مباح له، قال ابن دقيق العيد: وظاهر القرآن يمنع ما قال…»(13).

         قلت: وهذا تفصيل جيد، وما أورده عن ابن دقيق العيد فصحيح لا شك فيه.

         وأما أقسام السرف من حيث فاعله فيمكن أن يقسم السرف من حيث فاعله إلى قسمين:

         – سرف الأفراد.

         – سرف الجماعات.

         ونعني بالأول: ما يتم بأسلوب فردي.

         وبالثاني: ما يتم بأسلوب جماعي، صادر من مجموعات، أو هيئات، أو مؤسسات، أو دول.

         (1) فسرف الأفراد يصدر عن الإنسان بصفته الفردية، فقد ينفق في المأكول والمشروب ما يزيد عن حاجته، فيأكل ويشرب حتى يصاب بالبطنة والتخمة؛ بل بالأمراض.

         وقد ينفق في لباسه ما يزيد عن حاجته، فيشتري ما لا يحتاجه، أو يلبس ما يدعو إلى الفخر والخيلاء، أو يستغني عن الثياب الجديدة والنظيفة فيرمي بها.

         أو ينفق مثل ذلك في أمور أخرى من أمور حياته.

         ناهيك بما إذا كان الإنفاق أو التصرف بالمال تبذيرًا في سبل متفرقة وجهات مشبوهة، يختلط فيها الحق بالباطل والحلال بالحرام، أو بالمشتبه.

         ونظرًا لأهمية المال والمحافظة عليه من الضياع قرر الإسلام الحجر على السفهاء.

         يقول سبحانه: ﴿وَلَا ‌تُؤۡتُواْ ‌ٱلسُّفَهَآءَ ‌أَمۡوَٰلَكُمُ ‌ٱلَّتِي ‌جَعَلَ ‌ٱللَّهُ ‌لَكُمۡ ‌قِيَٰمٗا﴾ [النساء:5](14).

         قال القرطبي (ت671هـ): «دلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: ﴿وَلَا ‌تُؤۡتُواْ ‌ٱلسُّفَهَآءَ ‌أَمۡوَٰلَكُمُ﴾ [النساء:5] وقال:. . ﴿فَإِن ‌كَانَ ‌ٱلَّذِي ‌عَلَيۡهِ ‌ٱلۡحَقُّ ‌سَفِيهًا ‌أَوۡ ‌ضَعِيفًا﴾ [البقرة:282](15) فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف»(16).

         وهذه الآية هي الأصل في الحجر على السفهاء والصبيان والمجانين(17).

         ولذا نجد لدى الفقهاء عامة بابًا في المعاملات بعنوان (الحجر) .

         والسفيه: هو ضعيف العقل وسيئ التصرف، وسمي سفيها لخفة عقله(18).

         ومن هنا جاء الحجر على السفهاء، يقول الأستاذ علي أحمد الجرجاوي (ت1340هـ): «إن من الحكم الجميلة الجليلة الفائدة حكمة الحجر، وذلك أن الشارع الحكيم رأى أن من يصاب بخلل في عقله كجنون أو عته تكون أمواله معرضة للضياع؛ لأنه لا يحسن التصرف، فقرر الشارع الحكيم الحجر عليه حتى تكون الأموال مصونة من الأيدي التي تسلب أموال الناس بالباطل والغش والتدليس، وتكون مصونة أيضا من سوء تصرف المالك.

         ولما رأى الشارع الحكيم أيضا أن الذين يسترسلون في غلواء الفسق والفجور والخلاعة ويبددون أموالهم ذات اليمين وذات الشمال في حكم المجانين والمعتوهين، قرر الحجر عليهم صونًا لأموالهم، وحرصًا على أرزاق أولادهم ومن يعولونهم في حياتهم وبعد مماتهم. . . .»(19).

         (2) وسرف الجماعات يصدر من جهات جماعية، ويأخذ الطابع الجماعي، وهو يصدق على تصرف المؤسسات، والشركات، والجمعيات، والدول، وكذلك الأفراد إذا انتظمهم عقد واحد أو عرف أو تقليد واحد.

         وقد يحكم على أي منها بالسرف أو الترف أو التبذير، بالنظر إلى التصرف الغالب عليها.

         وهذا النوع من السرف يحمل من الخطورة والسلبيات أضعاف سابقه؛ لما يترتب عليه من الآثار الوخيمة على اقتصاد البلد وثروته. وكم نسمع أو نقرأ عن خسائر تلك الجهات وإعلان إفلاسها.

         بل إن إلقاء نظرة سريعة على واقع دول العالم الإسلامي ترزأ العاقل بالذهول والخجل.

         فإن كثيرًا منها – وعلى رغم ضخامة ثروتها الوطنية- قد اضطرت إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي، وقد تراكمت عليها الديون فأثقلت كاهلها، وتحولت إلى أزمة كبرى لم تستطع الخلاص منها.

         فقد تطور حجم المديونية الأجنبية للدول الإسلامية من (47) مليار دولار في عام 1976إلى (9،570) مليار دولار في عام 1993م.

         ومن بين هذه الدول: أندونيسيا، تركيا، مصر، الجزائر، باكستان، سوريا، السودان، المغرب(20).

         ومما ينكأ تلك الجراح ويزيد الأزمة شدة، أن كثيرًا من رؤوس الأموال في البلاد الإسلامية قد هربت من أوطانها إلى البلاد الأجنبية (الأوروبية ونحوها) .

         «وفي دراسة صادرة عن البنك العربي المحدود (الأردن- عمان) يناير 1990م عن الأموال العربية في الخارج تبين أن الأموال العربية المتدفقة. . . قد بلغت خلال الفترة من 1973م-1988م (5،455) بليون دولار، وأن نصيب ست دول خليجية من هذه الأموال هو (342) بليون دولار (180) بليون للقطاع العام، (162) بليون للقطاع الخاص. . . . وذكرت الدراسة أن معظم هذه الأموال قد ذهبت إلى أمريكا 21%، وإنجلترا 14%، والدول الأوروبية 20%، والشرق الأقصى 18%، والباقي للدول الأخرى وصندوق النقد الدولي…»(21).

         ومثل هذا السرف الجماعي ينتج عنه أمور خطيرة، أهمها:

         1- التردي في الإفلاس والفقر.

         2- التضخم الاقتصادي للدولة.

         3- حرمان الشعوب من المال.

*  *  *

الهوامش:

(1)    الزمر: 53.

(2)    تفسير القرطبي 24/16 دار الفكر.

(3)    الجامع لأحكام القرآن 13/72.

(4)    المرجع السابق 13/73.

(5)    أخلاقنا الاجتماعية ص18 المكتب الإسلامي.

(6)    متفق عليه (صحيح البخاري، ك: الاعتصام الباب 20، صحيح مسلم، ك: الأقضية (ح/17-18) .

(7)    الاعتصام 1/68. بتعليقات محمد رشيد رضا. دار المعرفة/ بيروت.

(8)    أخلاقنا الاجتماعية ص19.

(9)    انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار 1/422 تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد.

(10) الأعراف: 31.

(11) تفسير القرآن العظيم 3/338.

(12) المحرر الوجيز 12/40.

(13) فتح الباري 10/408.

(14) النساء: 5.

(15) من الآية 282 من سورة البقرة.

(16) الجامع لأحكام القرآن 5/30.

(17) انظر: المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4/508-509.

(18) المطلع على أبواب المقنع للبعلي الحنبلي ص228 المكتب الإسلامي 1401هـ.

(19) حكمة التشريع وفلسفته / للجرجاوي 2/257 – 258 دارالفكر.

(20) انظر: أزمة المديونية الأجنبية في العالم الإسلامي للأستاذ عبد سعيد عبد إسماعيل. ص 22 الطبعة الأولى 1416هـ.

(21) المرجع السابق ص14-16.

مجلة الداعي، جمادى الآخرة – رجب1444هـ = يناير- فبراير2023م، العدد:6-7، السنة: 47

Related Posts