إشراقة

            المسلم له في الواقع هدف واحد، وله وسيلة واحدة. هدفه الحقيقي الأسمى هو الجنة التي أُعِدَّت للمتقين، والوسيلة إليها هي عبادة الله تعالى التي من أجلها خلق اللهُ الجنّ والإنس؛ ولكن الله تعالى شاء أن يَحُفَّ الجنّةَ بالمكاره ويَحُفَّ النار بالشهوات؛ لأن الجنة بما أنها سلعة غالية من الله لاسلعة أغلى منها، شاء الله أن يكون الامتحان دونها شديدًا، والعمل من أجلها صعبًا، والشدة والصعوبة تكمنان في اجتناب ما تهواه النفس الأمارة بالسوء من الشهوات والرغائب واللذائذ التي يَشُقُّ عليها الإقلاع عنها. والفوز في هذا الامتحان الأشدّ الأقسى مفتاحُه خشيةُ الله في السرّ والعلن، والْجَلْوَة والْخَلْوَة، وحضور الناس وغيبوبتهم. وجائزةُ الفوز فيه هو دخول الجنة والنجاة من النار.

       قال تعالى:

       ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران:185).

       وإمعانًا في تشديد الامتحان جعل الله العليم الحكيم هذه الدنيا مُزَيَّنَة مُزَحْزَفَة زاخرة بما يُعْجِب النفسَ، ويأسر القلب، ويأخذ باللُّبّ، ويسحر العقل، ويفتن الفكر البشري.

       قال تعالى:

       ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ﴾ (الكهف:7).

       شاء اللهُ أن يَمْتَحِنَ عِبَادَه ويعلم ما إذا كانت الزينات الدنيوية تستميلهم وتشغلهم عن ربهم الذي خَلَقَهم فسَوَّاهم، وأغدق عليهم النعم التي لا يقدرون على إحصائها، أم يسارعون إلى عبادة ربهم مؤثرين حبّه على حب الدنيا الـمُعْجِبَة الساحرة، راغبين عنها فيما عند الله من النعيم المقيم الذي لا يزول ولايحول، ذاكرين أن الله جعل الدنيا دارَ امتحان ومزرعة للآخرة.

قال تعالى:

       ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ (النساء:77).

       وقال تعالى:

       ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾  (الأنعام:32).

       وقال تعالى:

       ﴿ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا﴾ (يوسف:57).

       وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:

       «إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة، وإن الله مُسْتَخْلِفُكم فيها، فيَنْظُرَ كيف تعلمون، فاتَّقُوا الدنيا واتَّقُوا النساءَ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (مسلم عن أبي سعيد الخدري: 2742).

       ومعنى «فاتّقوا الدنيا واتقوا النساءَ» : اِحْذَرُوا الفتنةَ بهما. وخَصَّ النساء وقد دخلن في كلمة «الدنيا» لشدة خطرة الفتنة بهن.

       وقد أَكَّدَ الله تعالى لنبيه الحبيب –صلى الله عليه وسلم- إذ قال في كتابه الذي أنزل عليه:

       ﴿ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ﴾ (الضحى:4).

       ولكن الله العليم الخبير بأحوال عباده ونقاط الضعف المُتَجَذِّرَة فيهم صَرَّحَ قائلاً: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا» (الأعلى:16).

       إن إيثار الدنيا على الآخرة يحصل لا مَحَالَةَ ناتجًا عن ضعف الإيمان، وقلة المراقبة لله عزّ وجلّ، وغياب استحضار أنه سبحانه يراقبنا كل وقت، وفي كل مكان، ويطَّلع علينا، ويرى ما نأتيه من حسنات وسيئات، وطاعة وعصيان، قال تعالى:

       ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ﴾ (العلق:14).

       الإيمانُ الصادق بأن الله يرانا ويرى ما يصدر منا من الأقوال والأفعال، وخشيتُه في الغيب والشهادة، أي بحضور الناس وفي غيابهم، زاجر كبير للمسلم من الذنوب والآثام؛ ومن ثم يزول عجبُنا من أنه كيف يحدث أننا نعرف الله ثم نعصيه، ونعرف مؤاخذته وشدة عقابه ثم لا نجتهد أن نسلم من حسابه وعقابه، ونعرف الشقاء بمعصيته والسعادة بطاعته ثم لا نطلب أن نكون سعداء ولانكون أشقياء.

       التناقض الذي يُلاَحَظ في حياة المسلم مُتَمَثِّلاً في طاعة الظاهر وعصيان الباطن إنما مرده إلى الانخداع النفسي بأن الله قد يُهْمل ما يفعله في الخلوات وإنما يحاسبه على ما يرتكبه في الجلوات. ولو استوت الخلوات والجلوات عنده لما همّ بإثم، ولما أقدم على ما يُسْخِط الله الحليمَ الكريمَ.

       ومن ثم قال الصالحون من العلماء: «أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات» فكثيرًا ما يتحاشى الإنسان المعاصيَ بحضور الناس؛ ولكنه يسدر في غلوائه ويطلق العنان لنفسه، عندما يختلي بنفسه، ويغيب عن مرأى الناس. وقد حَذَّرنا الله تعالى مثلَ هذا الموقف وعواقبَه الوخيمة قائلاً:

       ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ (الإسراء:17)

       وقال:

       ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة:85).

       تقوى الله في الغيب والشهادة وخشيته في السرّ والعلن، والاستحضار الدائم أنه على كل شيء شهيد ولا تخفى عليه خافية، وأن الباطن عنده كالظاهر، والجلوة كالخلوة، دليلُ كمال الإيمان وصدق الإسلام، كما أنه يحض على ترك المعاصي وتبني الطاعات.

       قال تعالى:

       ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق:16).

       المؤمن الحقّ لايتغافل أبدًا أن يزن أعماله دائمًا بالميزان القسط، ويثبت على الجادة، ولا ينحرف عن الصراط المستقيم، فلا يتعرض لما يُسْخِط الله، وإنما يلتزم ما يُرْضِيه، فيستحق غفرانَه، ويدخل جنانه، ولايكون ضمن الفريق الآخر الذي يعامله الله معاملةً أخرى.

       قال تعالى:

       ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (الجاثية:21).

       أَسْعَدُ السُّعَدَاء في هذه الدنيا من يؤمن جازمًا بأن الله يراه؛ بل يتقدم في الإيمان أشواطًا فيعبد اللهَ كأنه هو يرى الله تعالى، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال حين سُئِلَ عن الإحسان من قبل جبريل – عليه السلام – :

       «أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» (مسلم:8).

       ولاشكَّ أنه من عَبَدَ الله وهو يؤمن بأنه بين يديه وهو يراه وأقرب إليه من حبل الوريد، فإنه سيخافه ويستحضر هيبته وعظمته وكبرياءه، فيندفع إلى إحسان العبادة، ويُبَالِغ في الإتيان بها على أحسن ما تكون، ويستوفي شروطها وأركانَها وواجباتِها ومستحباتِها، وجميعَ ما يكملها ويجعلها مُوَفًّى حَقَّها؛ من ثم دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الخشوع والإنابة في الصلاة، فقال:

       «إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنه يُنَاجِي ربَّه، أو إن ربَّه بينه وبين القبلة» (البخاري:405؛ ومسلم:551).

       على كل فإن اغترار الإنسان بأن الله لا يعلم كثيرًا مما يعمل هو الذي يجعله يرتكب المهلكات في الخلوات، فيسرف على نفسه بالمعاصي الكبيرة، التي ربما تجره إلى النار.

       قال تعالى:

       ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (فُصِّلت: 22-23).

       وتقوى الله وخشيته هي الشيء الوحيد الذي يُنْجِي الإنسان من الموبقات؛ ولذلك كان مما أوصى به النبي –صلى الله عليه وسلم- صحابته – رضي الله عنهم – :

       «اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ» (سنن الترمذي:1987).

       أي حيث يراك الناس وحيث لايرونك، لأن الله يراك ويراقب جميع تصرفاتك الصغيرة والكبيرة. ولذلك كان –صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يدعو ربَّه بقوله:

       «أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة» (مصنف ابن أبي شيبة: 29348).

       إن خشية الله بالغيب هي التي تدخل العبدَ جنة ربه، وإهمال أن الله يراه في الغيب ويطلع على أحواله في السرّ، فالإقدام على ارتكاب المعاصي المهلكة، هو الذي يجره إلى النار.

       قال تعالى:

       ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 31-35).

       وقال:

       ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ (النساء:108).

       ويُرْوَىٰ أن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – كثيرًا ما كان يُرَدِّد قولَ الشاعر الحكيم:

إِذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُـلْ:

خَلَوْتُ؛ وَلٰكِنْ قُــلْ: عَلَيَّ رَقِيـبٌ

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُــلُ سَاعَـــــةً

وَلَا أَنَّ مَـا يَخْفَىٰ عَلَيْــــهِ يَغِيــبُ

                           (أبو العتاهية)

(تحريرًا في الساعة الرابعة مساءً من يوم الخميس: غرة رجب 1438هـ = 30/مارس 2017م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العـــــــــــــــــــلوم ديــــــــوبنــــــــــــــــــــد ، رمضان – شوال 1438 هـ = يونيو – يوليو 2017م ، العــــــــــــدد : 9-10 ، السنــــــــــــــــــــــة : 41

Related Posts