بقلم: الأستاذ: محمود عبد الوهاب فايد
خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نهاية حياته، وفي مرض وفاته فقال: ..«من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فَلْيَسْتَقِدْ منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فَلْيَسْتَقِدْ منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فَلْيَسْتَقِدْ منه، لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس.
فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم. قال: أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه فيم صارت لك عندي؟ قال: تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفعها إليه، فقال: ادفعها إليه يا فضل». رواه أبو يعلى والطبراني.
درس عملي ألقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه في مرض وفاته ونهاية حياته، وأقرب الذكريات إلى النفس وألصقها بالذهن وأعمقها أثرا في القلب ما كان في هذه الساعات الفاصلة، واللحظات التاريخية العصيبة.
درس رسم فيه -عليه الصلاة والسلام- الخطوط الأساسية لتكوين مجتمع مثالي، ووضع فيه الحجر الأساسي لبناء دولة تعيش في مأمن من القلق والاضطراب.
وهل يقوم هذا المجتمع المثالي إلا إذا حاسب كل إنسان نفسه، وعرف قدره، وأحس بمسؤوليته، وراقب الله في أعماله وأحب للناس ما يحبه لنفسه، وكره لهم ما يكرهه لها. وهكذا أبان – عليه الصلاة والسلام- في صراحة لا تدع مجالا للريب مدى خشيته لله، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومدى ما ينطوي عليه قلبه من إحساس بالمسؤولية، وتقدير للتبعية ونفور من الظلم، وشعور بالمساواة، وإن يكن هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يتبوأ مكانا عليا في كل نفس، ويحتل منزلة سامية لدى كل شخص، ويتمتع بمركز ديني ودرجة من الحب يرتفع تبعها الإيمان أو يسقط، ويعلو حسبها أو يهبط.
بنفسي أنت يا رسول الله، لقد أنصفت الناس من نفسك حتى في مرض وفاتك، فسويت بين ظهرهم وظهرك، وما لهم ومالك، وعرضهم وعرضك وجعلت أحبهم إليك من أخذ حقا كان له أو حللك، فلقيت الله وأنت طيب النفس. ليس لأحد عندك مسألة ولا لإنسان عليك مقالة. بنفسي أنت يا رسول الله لم تجعل نفسك فوق القانون تسأل الناس ولا تسأل، وتحاسبهم ولا تحاسب، وتحاكمهم ولا تحاكم، وتؤاخذهم ولا تؤاخذ، ولكن كشفت عن استعدادك النفسي لتطبيق هذا القانون على نفسك كما تطبقه على غيرك، ففرضت بهذا على الناس جميعًا وإن اختلفت درجاتهم تقديسَ هذه المثل، وصون هذه المبادئ عن أن يعبث بها إنسان مهما علت نفسه، أو سمت مكانته، وهل هناك نفس تتطاول إلى نفسك، أو مكانة ترتفع إلى مكانتك؟! بنفسي هذا الرسول العظيم، لم يغره مركزه عند الله وعند الناس، فوضع نفسه مع سائر عباد الله جنبا إلى جنب يسري إليه ما يسري إليهم، وينفذ عليه ما ينفذ عليهم، وبهذا قضى على الامتيازات، وسوى بين الطبقات، وبهذا أعلى شعاره الذي ظل يردده في كثير من المناسبات «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى».
أيها القارئ الكريم!
ما أعظم هذا الحديث وما أبدع ما اشتمل عليه من المعاني والعظات، وما أروع ما ينم عنه من الصور الخلابة التي تكشف القناع عن نفسية هذا الرسول الكريم، وتدل على عظمته الخلقية التي صارت مضرب الأمثال، قف معي – أيها القارئ – وقفة تأمل واستبصار وتدبر واعتبار، وزِنْ هذا الحديث النبوي بميزان عقلك، وقدّره بمعيار فكرك، واستطلع منه عظمة هذا الدين الذي دعا إليه الرسول العظيم، وانظر كيف يتمشى مع الفطرة، ويتدرج مع طبائع الإنسان فيبيح للناس أن ينتصفوا لأنفسهم، ويأخذوا بحقوقهم، ومقام الرسالة وهو أعظم مقام لا يمكن أن يكون حائلا دون القود، أو مانعا من القصاص.
وهل يعقل أن تكون الرسالة مشجعة على انتهاك المحارم، وهي حصانة لصاحبها، ووقاية له من المآثم، وهل يجوز أن تبيح لصاحبها موارد الندامة وهي تحث الناس على أن يستقيموا تمام الاستقامة. لا، إن مقام الرسالة مدعاة إلى تزكية النفس، وطهارة القلب، ويقظة الضمير، فلا يمكن أن يسمح بالاعتداء، وإن أمكن أن يقع عن غير قصد وبحسن نية فهو يضع صاحب الرسالة من الناس جنبا إلى جنب ويهيئه لتقبل القصاص حتى ترضى عنه النفوس، وتميل إليه القلوب، فلا تتسرب إليها بوادر الاشمئزاز، ولا تسري إليها بواعث الكراهية، ما أجمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- «ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إليّ من أخذ حقا كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس».
أرأيت أيها القارئ الكريم، كيف يشجع الرسول من حوله من الناس على أن يقتصوا منه إن بدرت منه إساءة.
أرأيت كيف يطمئنهم على أن الاقتصاص لن يترك في نفسه أثرا من عداوة، ولا من بغض؛ بل هو على العكس سيرسم في قلبه معالم المحبة، ويثبت في فؤاده دعائم المودة، والرسول معصوم من النفاق لا يظهر خلاف ما يبطن ولا يبدي عكس ما يخفي.
وتأمل معي أيها القارئ، وانظر كيف جارى الرسول الطبائع الإنسانية وطمأن النفوس البشرية فقدم من أخذ حقا كان له، على من حلله فلقي الله وهو طيب النفس، إذعانا لمقتضى الغرائز، ومبالغة في تطمين من تهوى نفسه القصاص حتى يستوفي حقه ويبلغ إربه، غير خائف ولا هياب واثقا من محبة رسول الله، مطمئنا إلى رضاه.
وهذا من أوضح الأدلة على أن هدف الإسلام هو ترضية النفوس، وتوفير الطمأنينة بين الأفراد، وإشاعة المحبة بين الناس، ولن يكون ذلك حتى يستقر العدل وتتوطد دعائمه، وترسخ أركانه وتتأصل قواعده.
وأخيرا فانظر إلى أثر هذه الخطبة في نفوس الحاضرين.
لقد شجعت رجلا على أن يطالب بحقه في ثلاثة دراهم أبت نفسه إلا أن يأخذها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تؤثر أن تحلله منها، وتسامحه فيها، على الرغم من أنه عليه الصلاة والسلام لم يأخذها لنفسه، وإنما اقترضها منه ليدفع بها غائلة محتاج، ويمسك بها رمق مسكين، وعلى الرغم من ضآلة هذا القدر، وتفاهة هذا الدين، ولكنها النفوس البشرية، والطبائع الإنسانية تميل إلى الأخذ بحقها أكثر مما تميل إلى التجاوز أو المسامحة. فلا عجب إذا رفع هذا الرجل صوته أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أصحابه رضي الله عنهم دون نظر إلى مقامه عليه الصلاة والسلام، وإلى فضله عليه وعلى الأمة جمعاء، وإلى مرضه الذي يرقق القلوب ويستدر حنان النفوس، ويستوجب العفو والمسامحة.
وهل يحول هذا كله دون المقاصة واسترداد الحقوق؟ اللهم لا.
فالإسلام ونبي الإسلام كلاهما يعلن في صراحة لا تدع مجالا للريب بأن الناس سواسية أمام أحكام الله، لا يتمايز بعضهم عن بعض، ولا يزال حديثه – عليه الصلاة والسلام- يرن في الآذان حين قال لحبه أسامة وقد استشفع في المخزومية بعد أن ثبتت عليها السرقة، قال: «يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
بنفسي أنت يا رسول الله، لقد خرجت من الدنيا ولم يسامحك أحد أصحابك الذين أنقذتهم من النار في ثلاثة دراهم اقترضتها لتعين بها على محن الحياة، وتدفع بها غائلة مسكين؛ بل خرجت من الدنيا ودرعك مرهونة ليهودي مقابل طعام تتبلغ به، وأنت الذي لو شئت لجمع لك أصحابك؛ بل أعداؤك ما تصير به أغناهم؛ بل لصير الله لك بطحاء مكة ذهبا.
بنفسي أنت يا رسول الله، لقد خرجت من الدنيا ولم يعرف عنك أنك حابيت قريبا، أو جاملت صهرا أو حبيبا على حساب المسلمين، وهذه فاطمة ابنتك الوحيدة جاءتك وقد أثرت الرحى في يدها تطلب خادما من الأسرى يكفيها مشقة العمل فقلت لها مقالتك الخالدة: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم».
أيها القارئ الكريم.
نعود بك إلى بقية الحديث لنلتمس منه العبرة، ونقتبس العظة فقد أبى عليه الصلاة والسلام أن يدفع له بمجرد الدعوى، ولكنه طلب أن يذكره، ونفى عن نفسه أن يظن بمسلم سوءًا (أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه)، واكتفى منه بمجرد التذكير، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن يتثبتوا ويتحروا في دعاوي الخصوم مع الأدب وحسن المظنة، فالمسلم كيس فطن، وليس من الفطانة أن يجاري الإنسان خصومه إن حقا وإن باطلا فهذا يسيىء أحيانا إلى السمعة، ويوحي بقبح المقالة.
كما حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يعلن أنه لا يظن بمسلم سوءا كما حرص على أن يكشف الرجل سر هذا الدين ليقف الصحابة على جلية الأمر، ولئلا يهلك أحد منهم بسوء الظن، فلما أجاب الرجل، وعرف الصحابة أنه أخذها بطريق مشروع ولغرض سام، أن يدفع بها عائلة محتاج، أصدر الرسول على الفور أمره إلى ابن عمه الفضل بسدادها له ودفعها إليه.
لم يتألم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طلب غريمه ولم يتضجر، ولم يماطله ولم يتأخر؛ بل أمر بقضائه في الحال، ليقابل الله طيب النفس مستريح الضمير.
انظر إلى المختار قبل وفاته
يرسي الأساس ليستقر بناء
ويقول من آذيتهم فليأخذوا
مني حقوقهم إذا ما شاؤوا
كشف الرسول لنا عن استعداده
ليقاد منه إن بدا إيذاء
وهو الذي قد ظل طول حياته
يؤذى ويدعو للذين أساؤوا
هو رحمة للعالمين فلا أذى
منــــــــــــــــــــــه ولا عنت ولا ضراء
أعظم به مثلا يرينا أننا
والمصطفى عند القضاء سواء
أعظم به مثلا يصون حقوقنا
طـــــــــرا فــــــلا يغتـــــــــــالها رؤساء
مجلة الداعي، جمادى الأولى 1444هـ = ديسمبر 2022م، العدد: 5، السنة: 47