دراسات إسلامية

بقلم:  د. فريد محمد أمعضشو –  المغرب

من المصطلحات التي أخذت تنتشر في كتابات مثقفينا المُحْدثين في الآونة الأخيرة، والتي تمتاز بحمولتها المعرفية والاجتماعية والسياسية والحضارية، نجد «التغريب» الذي شكل موضوعًا ثرًّا لغير واحدٍ من الكتاب المعاصرين. تُرى فما المقصود به؟

       يُراد بـ«التغريب»، في اللغة العربية، النفي والإبعاد عن البلد(1). يقول ابن منظور: «… وغَرَّبَه، وأغْرَبَه: نَحّـاه… والتغْريبُ: النَّفْيُ عنِ البلد… ومنه الحديثُ: أنَّه أمَرَ بتَغْريب الزّاني؛ التَّغْـريبُ: النّفيُ عن البلدِ الذي وَقعَتْ الجِنايةُ فيه. يُقال: أغْرَبْتُه وغَرَّبْتُه إذا نَحَّيْتُـه وأبْعَدْته… وغَرَّبَه وغَرَّبَ عليْه: تَرَكَهُ بُعْدًا»(2).

       اِنطلاقًا من التعريفات المُعجمية لكلمة «تغريب» يمكن أن نسجِّل المَلاحِظَ الآتية:

       * يستعمل علماء اللغة «الإغْراب» و«التغريب» بمعنىً واحدٍ، وهو التنْحية والإقصاء من الوطن.

       * ورد لفظ «التغريب» في كلام النبي –صلى الله عليه وسلم- بالمعنى الذي يَقصده علماءُ اللغة. والملاحَظُ أن هذا المعنى شهد تطورًا واضحًا مع مرور الأيام، ودخل ميادين حسّاسة وخطيرة في وقتنا الحاضر بخاصةٍ.

       * إن «التغريب» مصدر قياسي للفعل غير الثلاثي «غَرَّب». وهذا الفعل مَزيدٌ بالتضْعيف. وأظن أن معنى هذه الزيادة هو «صَـيْرورة شيء شِبْه شيء». ولا سبيل إلى فهْم هذا المعنى، إذا ما اقتصرنا على الدلالة المعجمية للتغريب، بل لا بد من ربْط هذا المعنى بالدلالة السياسية والإيديولوجية والحضارية للكلمة.

       * التغريبُ انتقال إجْباري وابتعاد اضطراريّ، لا يَملك الإنسانُ السلطة لرَدِّه أو دَفْعه، بل يُفرَض عليه فرْضًا. ويسمِّي بعض الدارسين هذا النمطَ من الارتحال بـ«غربة القهـر»(3).

       * تقتصر التعاريف القاموسية على إبراز الجانب الحِسّي للتغريب، والذي يتجلى في النفي والإبعاد القسْري عن الوطن والأهل. والحق أن ثمة جانبًا معنويًا للتغريب يفوق الجانب السابق في الخُطورة.

       والواقعُ أن دلالة التغريب تتغير بانتقالنا من الإطار اللغوي إلى الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتتشعَّب معانيه مع توالي الأيام. فالتغريب، كما ندركُه في الوقت الحاضر، ليس هو التغريب الذي كان يَعرفه الجوهري أو ابن منظور.

       يُطلق «التغريب»، في الاصطلاح الثقافي والفكري المعاصر، غالبًا على «حالات التعلق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربية والأخْذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربية؛ بحيث يصبح الفرد أو الجماعة أو المجتمع المسلم الذي له هذا الموقفُ أو الاتجاه غريبًا في مُيوله وعواطفه وعاداته وأساليب حياته وذوقه العام وتوجهاته في الحياة، يَنظر إلى الثقافة الغربية وما تشتمل عليه من قِيم ونُظم ونظريات وأساليب حياة نظرةَ إعجابٍ وإكبار، ويرى في الأخذ بها الطريقة المُثلى لتقدُّم جماعته أو أمته الإسلامية»(4). 

       وهذا المعنى قريبٌ من دلالة الفعل «غَرَّب»(To Westernize) في الإنجليزية؛ إذ يعرِّف معجم «أوكسفـورد» هذا الفعل على النحو الآتي:“To Make an eastern country, person, etc more like one in the west, esp in ways of living and thinking, .institutions, etc” ؛(5) أي جعْل الشرق تابعًا للغرب في الثقافة وأساليب العيش وطرق التفكير… وفي الفرنسية، يعني التغريب الشيء نفسَه.

       ويتخذ التغريب أشكالا مختلفة، لعل أخْطرها «التغـريب الثقافي»؛ لأنه إبْدال ثقافي يتغيّى إحْلال ثقافة أجنبية محلَّ الثقافة المحلية الأصلية، مع ما يرافق ذلك من مظاهر التبدُّل والتغيـير.

       وعندما يتحدث الباحثون والمفكرون المسلمون عن التغريب؛ فإنهم يشيرون إلى واقع يومي مَعيش مشاهَد في الحياة المادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية؛ واقعٍ صنَعَته ظروفٌ تاريخية عصيبة، وتضافرت على نسْج خُيوطه عواملُ كثيرة. وبالنظر إلى عُمق ظاهرة التغريب في حياتنا الثقافية المعاصرة، فإننا نرى هؤلاء الباحثين يستعملون عددًا من المصطلحات للدلالة عليه؛ نحو الاغتراب الثقافي، والإلحاق الثقافي، والاسْـتِلاب الثقافي، والمَسْـخ، … ومن المؤكَّد أن مصطلح «التغريب»، بدلالته المعاصرة المعروفة، من نَتاج الفكر الغربي، ويرتبط بالحركة الإمبريالية الأوربية التي انطلقت في القرن التاسع عشر. يقول محمد مصطفى هدارة: إن «اصطلاح «التغـريب» ليس من ابتكارنا في الشرق، ولكنه ظهر في المعجم السياسي الغربي باسم “Westernyation”، وكانوا يعنُون به نشْر الحضارة الغربية في البلاد الأسيوية والإفريقية الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إزالة القُوى المضادَّة التي تحفظ لهذه البلاد كِيانَها وشخصيتها وعاداتها وتقاليدها، وأهمّها الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمانٌ لاستمرار السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد وتحرُّرها من نَيْر الاستعمار الغربي ظاهـريًا»(6).

       إذًا، فالموجة التغريبـية تستهدف ضَرْب ثوابت الأمة الإسلامية التي تتجلى في القرآن الكريم واللغة العربية الفصحى، وتروم تقويض دعائم المجتمع الإسلامي؛ وذلك حتى تتمكن من تنفيذ مخططاتها التخريبية، وتمْرير مشاريعها النَّتِنَة المسطَّرة بدقة متناهية. والغربُ يعرف أن صراعه المباشر مع القرآن سيكون مآله الفشل والإخفاق؛ لأنه واعٍ تمامَ الوعْي بمدلول الآية الكريمة: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنَّا لهُ لَحٰفِظُونَ﴾؛(7) أي إن القرآن تكْلـؤه العناية الربانية الأزلية. لذا، عزم على ضرْبه انطلاقًا من جوانبَ أخرى كاللغة والأسرة. وعليه، فقد عمَد إلى تشجيع اللغات العامِّية في مجال الأدب والإعلام، وتمكن من خلْق بَلبَـلة واضطراب في صُفوف الأسرة المسلمة بوصفها عمادَ المجتمع الإسلامي… وقد استطاع التيار التغريبي أن يحقق جملة من الأهداف والنتائج؛ فوُجد له أنصارٌ من أبناء المسلمين يروِّجون لأطاريحه وأفكاره ابتغاءَ الحصول على الثروة والجاه، وتولَّدت طائفة من المتغرِّبين الذين بَهَرَتهم الحضارة الغربية ببَهْرَجها وشكلها الخَدّاع…

       وإذا كان التغريب في مجتمعاتنا الإسلامية أمرًا ملموسًا وحقيقة مسلَّمًا بها، فمِنْ حقنا أن نتساءل ها هنا: ما هي عوامله ومسبِّـباته؟

       إن عوامل التغريب الثقافي والحضاري كثيرة ومختلفة؛ فمنها القديم الذي يرجع إلى ظروف تاريخية قديمة، ولكن آثاره ما تزال قائمة تُحْدِث أثرَها في الوقت الحالي. ومنها ما هو حديث ومستمر في وجوده وتأثيره يعايش المسلمين في حياتهم المعاصرة، ويُحدث تأثيره فيها. ومنها أيضًا ما يُعزى إلى أجواء داخلية تتمثل بالشعوب الإسلامية نفسِها، وما تعرفه من نُظم وأعراف وعوائد… ومنها ما يعود إلى قوى خارجية تتجلى في الإمبريالية والصهيونية، وفي صنائعهما من التبشير والاستشراق والتنصير… وحتى لا نطيل هنا، سنركز فقط على العوامل الداخلية والخارجية(8). ولْتكُنْ البداية بالعوامل الداخلية:

       أ- العوامل الداخلية: وهي تخصُّ كِيان العالم الإسلامي الذي كان مهيَّأً للاحتلال أو «ذا قابلية للاستـعمار» بعبارة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، في كتابه النفيس «شروط النهضة». وهذه العوامل أشد خطرًا وتأثيرًا في عملية التغريب من العوامل الخارجية؛ لأنها تكمُن في نفوس الناس وإرادتهم وفي الثقافة والظروف المحيطة بهم، وتعمل من خلال وسائطَ داخليةٍ تصعُب المناعة منها»(9).

       لقد عاشت أغلب المجتمعات العربية، في ظل الخلافة العثمانية، حالة من الجمود الفكري والتأخر الثقافي.؛ فساد جوٌّ من الخمول وعدم الانتفاع بالوقت، وتخلى الفقهاء عن واجب الاجتهاد لا في مجال الفقه والتشريع فحسب، بل في جميع مجالات الفكر، واقتصر الأدب على اجترار ما قيل، وقعَد العلماء عن البحث العلمي الأصيل، وحاربوا الحركات التحديثية والتجديدية… إلخ.

       كما انساقَ عددٌ من الأقطار الإسلامية وراء التوجه العَلماني الذي ينبني على فصْل الدين عن الدولة والحياة العامة، وتضْـييق نطاقه لينحصر في المساجد والكتاتيب وحدها، من منطلَق أن الدين هو السبب الرئيس في تخلف المجتمعات الإسلامية عن الركب الحضاري، وعدم قدرتها على اللَّحاق به ومجاراة إيقاعه.

       وما يزال التعليم – بجميع أنواعه، وفي جميع أسلاكه – في جلّ المجتمعات الإسلامية متخلفًا في مناهجه واستراتيجياته وتجهيزاته وأهدافه البيداغوجية… كما أنه ما فتئ يهتم بحَشْـو أدمغة التلاميذ والطلاب بمعارف نظرية لا تُمِتُّ إلى واقعهم المعيش بصلةٍ، وتغلب على مناهجه اللفظيةُ، ويفتقر إلى التوازن بين الكمّ والكيْف، وبين الدراسة النظرية والتطبيق العَمَلي، وبين التعليم الأكاديمي والتعليم المِهْني والفني… ويتميز هذا التعليم أيضًا بكونه غيرَ معمَّـم بعْدُ، ويعتمد الازدواجية في كثير من المنظومات التربوية العربية… هذه الأمور وغيرُها تجعل من الصعب الاعتماد على تعليمنا في صُنع التقدم والإقلاع المنشودين والتنمية الحقيقية المُبتغاة، أو في صناعة حضارة قوية تواكب عصرها وتستَـعْصي على الغزو والتغريب.

       ولا ينبغي أن نُغفل ما لفساد الحُكم وغياب الحرية والعدل السياسي والاجتماعي في كثير من المجتمعات الإسلامية من بالغ الأثر في تأزيم الوضع الداخلي، ونشْر ثقافة اليأس والشك وعدم الثقة في هذه المجتمعات.

       هذه بعض العوامل الداخلية التي تقف وراء تأخر الأمة الإسلامية عن اللحاق بالركب الحضاري الذي يتقدم بخُطىً متسارعة إلى الأمام، والتي مهَّدت لغزْوها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ويسَّرت عملية تغريبها واستلابها ثقافيًا وحضاريًا.

       ب- العوامل الخارجية: عِلاوة على العوامل الداخلية، هناك عوامل – لا تقل خطورةً عن سابقتها– تأتي من خارج جسد الأمة الإسلامية، أو تستمد – على الأقل– دعْمها وتمْويلها من خارج المنطقة الإسلامية. ومن هذه العوامل نذكر الاستعمار بنوعَيْه القديم/ السياسي والحديث/ الثقافي، والذي كان سببًا رئيسًا في تغريب كثير من الأفراد والجماعات بالقوة أو بالإغراء أو بالنموذج.

       لقد ركز الغرب – لتحقيق مسْعاه التغريبي – على المسيحيين العرب في بلاد الشام للنفاذ بثقافته إلى صُلب الأمة الإسلامية؛ كما ذكر «ألبرت حوراني» في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة»، واتخذ من البِعْـثات التبشـيرية وإنشاء مدارس التبشير المسيحي في معظم أرجاء الوطن العربي والإسلامي وسيلة فعّالة لتغريب المسلمين، وإحْداث الفوضى بينهم، ومحاولة خلق قطيعة اصطـناعية بينهم وبين ماضيهم المَجيد.

       ويُسْهم الإعلام الأجنبي، بشتى أنواعه وتوجهاته، في نشر الحضارة الغربية، وتمْويه الحقائق، وحمْل الآخر على تقبُّل كثير من قيم الغرب… كما تؤثر المراكز الثقافية الأجنبية المنتشرة في أنحاء الكيان الإسلامي الممتدّ، والمساعدات الفنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي يقدمها الغربُ للشرق، والنشاط التجاري بين الطرفين، في تسهيل عملية التغريب واستتباع الشرق المتأخر للغرب المتحضِّـر.

       فهذه كلها عواملُ وأدواتٌ للاستعمار السياسي والثقافي، تغذيها الحركة الكولونيالية والصليبية والصهيونية العالمية. ويتلخص هدف هذا الثالوث في إضعاف شوكة الأمة الإسلامية، وتدمير ثقافتها الأصيلة، وتفتيت شمْلها إلى عدة كيانات قُطرية. كما يهدف هذا الثالوث نفسُه إلى زرع التشكيك في قيم هذه الأمة ولغتها وتراثها، وطمْس صُوَى هُويتها، وبثِّ الفُرقة بين صفوف أجناسها من خلال إثارة النّعْرات القبلية والمذهبية والإثنية البغيضة… ويسعى كذلك إلى إضْعاف الوازع الديني لدى أبناء الأمة الإسلامية، والتشجيع على الفساد والتطرف بشتى ألوانه.

       أكيدٌ أن تأثير هذه العوامل الخارجية متوقف على طبيعة البنية الداخلية للمجتمع الإسلامي؛ فهي تؤثر في حالة هشاشة هذه البنية وافتقادها إلى المناعة والحصانة، ويغيب تأثيرها مع تماسك الجسم الإسلامي، وتضامن مكوناته البشرية، وقوة معتـقده.

       هذه نظرة موجزة إلى أبرز العوامل الذاتية والموضوعية التي توفر الأرضية المناسبة لتعشـيش التيار التغريبي، وتيسِّر أمْر عمله وتأثيره الفعّال.

       ومما لا شك فيه أن للتغريب تجلياتٍ وآثارًا متعددة ومختلفة؛ منها ما يتصل بالفرد، ومنها ما يتصل بالمجتمع الإسلامي. ويجب أن نذكر، هاهنا، بأن تغريب الفرد واستلاب ثقافته وهويته يعد الخطوة الأولى في سبيل تغريب واستلاب ثقافة المجتمع ككل. فالتغريب الثقافي والحضاري يتسلط – بداءةً – على الفرد، حتى إذا ما تمكَّن من نفسه، وانتشرت آثارُه على نطاق أوسع في مجتمع إسلامي، فإنه يستحيل إلى ظاهرة اجتماعية علاوة على كونه ظاهرة فردية. وفيما يلي سنبرز بعض مظاهر وآثار التغريب إنْ على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع الإسلامي:

       أ- بعض مظاهر وآثار التغريب الثقافي على مستوى الفرد المسلم: إن الفرد المسلم الذي تمكن منه التغريب تظهر عليه جملة من الأوصاف والأمَارَات. فهو دائم التعلق بما في الثقافة الأجنبية الغازية له من نُظم وأفكار وعوائد وأنماط سلوكية… ويحاول جاهدًا تطبيقها في حياته الخاصة. ثم إن هذا الفرد لا يجد في نفسه أي حرج من محاكاة الغرب، والانصهار الكامل في بُوتَقَـته المسمومة، والأخْذ بما يُمليه حرْفيًا. وبالمقابل، نجد هذا الفرد يتحامل على التراث الإسلامي بالرغم مما يختزنه من قيم سامية، وبذور حقيقية للإقلاع والتنمية. وهكذا نرى عددًا من أبناء الأمة الإسلامية يدْعون إلى الانفصام عن الماضي الإسلامي والالتحاق بالغرب، ويعد سلامة موسى من أخْطر هؤلاء؛ حيث يقول في كتابه «اليوم والغد»: «يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلحق بأوربا، فإني كلما ازدادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني. وكلما زادت معرفتي بأوربا زاد حبي لها وتعلقي بها وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها». ويقول أيضًا أدونيس (علي أحمد سعيد): «لسْنا من الماضي… الإنسان عندنا مَلجومٌ بالماضي، نعلِّمه أن يكسر اللجام ويجْمح، نعلمه أنه ليس حُزمة من الأفكار والمصنفات والأوقات يسمونها تراثًا»!.

       إن الفرد المسلم الذي غُرِّب فتَغَرَّب لا يولي أي اهتمام لمشكلات مجتمعه وأمته، بل إنه يشكل، في حد ذاته، مِعْوَل هدْم يعمل من داخل الجسم الإسلامي لتخريبه وإضْعافه.

       هذه بعض الآثار التغريبية التي تتبدّى على مَنْ بهرتْهم الحضارة الغربية بشكلياتها الزائفة؛ فسلبت عقولهم، واستولت على عواطفهم، وأصبحوا يتنكرون لثقافتهم الإسلامية الأصيلة، ويجتهدون في تمثل مظاهر الثقافة الغازية. وقد كان معظم هؤلاء المتغرِّبين أو المستَلَبـين ثقافيًا ممَّن عاشوا في ظل الاستعمار ردحًا غير يسير من الزمن وتربّوا في مدارسه أو مدارس الإرساليات التبشـيرية أو درسوا في الديار الغربية.

       ب- بعض مظاهر وآثار التغريب على مستوى المجتمع الإسلامي ككل: لا يجد المجتمع الإسلامي الذي امتدت إليه أيدي التغريب غضاضة في تقليد الغرب، واتّباعه في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولا يتردد في الأخذ بالتيار العَلَماني ونتائج الأبحاث الاستـشراقية عن العقيدة الإسلامية واللغة العربية الفصحى التي تعد الوعاء الحامل لهذه العقيدة.

       الملاحظُ في عدد من المجتمعات الإسلامية انتشارُ المجلات والأشرطة الهابطة، والأغاني الساقطة، والصور الخليعة، والكتب التي تحمل في صفحاتها أفكارا هدّامة لكيان المجتمع الإسلامي؛ وذلك تحت ستار الحرية الشخصية. وتمثل هذه المظاهر التغريبية وسائل خطيرة في تشويه القيم الإسلامية، وطمْس هُوية المسلمين فرادى وجماعاتٍ.

       وتسمح مجموعة من دول العالم الإسلامي – بدعوى الانفتاح – بإنشاء المدارس والمعاهد الأجنبية، وانتشار الحركات التبشـيرية فوق أراضيها. وفي ذلك فرصة سانحة لبَثّ سمومها الفتاكة، ونشر تُرَّهاتها وتلفـيقاتها. ومن العجب العُجاب أن هذه المعاهد تعمل بحرية تامة، وتوفَّر لها الحصانة القانونية الكاملة، ويتخرَّج منها أناسٌ كُثرٌ تُفتح أمامهم فرص التشغيل وغيرها.

       إن المظاهر الآنفة الذكر كلَّها تسهم في ضعف الثقة بكل ما هو وطني وإسلامي من نظم واقتصاد وأدب وفن… وتدفع بالمجتمع الإسلامي دفعًا إلى اقتفاء سَمْت الغرب وتقليده تقليدًا أعمى في كل الأمور؛ بدْءًا من أتْـفَهها وانتهاءً بأخْطرها. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن درجة التغريب والتغرُّب تختلف من مجتمع إسلامي لآخر؛ فهناك مجتمعات أنْهَكها التغريب، وهناك أخرى لما يزال التغريب فيها محدودًا.

       إن الغزو الفكري الغربي الحديث الذي يستهدف تكسير شوكة المسلمين، وتشويه هويتهم، وعزْلهم عن ماضيهم وميراثهم الحضاري، وتغريبهم عن عقيدتهم ولغتهم، لم يترك وسيلة إلا استخدمها لتحقيق مآربه، ولم يترك جهة لمس فيها الاستعداد للتعاون معه إلا تعاوَن معها وربط نفسه بها. وقد كان في طليعة هذه الجهات التي تعاونت مع المستعمر الغربي، وربطت أهدافها بأهدافه «الصهيونية العالمية» التي برزت بوصفها حركة سياسية عنصرية تتغيى بسْط النفوذ على العالم بأسره بشتى الطرق والوسائل. وقد حققت جملة من المكتسبات في الواقع الملموس، أبرزها الحصول على وطن قومي لليهود في أرض فِلَسْـطين المباركة.

       ومن جهة أخرى، شكلت العلمانية «إحدى الوسائل الخطيرة التي مهّدت الطريقَ لحركة التغريب التي مسَّت نواحيَ مختلفة»(10).

       وبناءً على ما سبق، كان من الطبيعي أن تعرف المجتمعات المتغرِّبة حالات من الفوضى والتطرُّف العام. لذا، يربط بعض الباحثين بين الغلو والتغريب. يقول طارق البِشْري مثلًا: «يبدو لي أن الغلو سيبقى، بدرجات شتى وأشكال متنوعة وعلى فترات ممتدة أو متقطعة، ما بَقيت هيمنة التغريب، ولن يضعف إلا بضعْـفها»(11).

       إن التغريب أخطرُ من الغزو العسكري؛ ذلك بأن الاستعمار العسكري حدَثٌ وقتي/ لحْظي يتسلط على أمة من الأمم ردحًا من الزمن – قد يطول وقد يقصُر – ثم يذهب وتعود تلك الأمة إلى وضْعها الطبيعي وثقافتها الأصلية وحُرياتها التامة، وربَّما بصورة أقوى وأحسن من السابق، وربما كان ذلك التحدي عاملًا من عوامل الإبداع والتفوق والتقدم نحو الأمام. أما التغريب فهو أخطر من ذلك بكثير؛ لأنه يضرب الأمة في موطن قوتها وبؤرة حياتها، ويقتل فيها روح المبادرة والثورة، ويهجم على ثوابتها التي لا غنى عنها في وجودها؛ إنه بكلمة مختصرة «احتلال العقل والنفـس»(12).

       انطلاقًا من حديثنا عن حقيقة التغريب، وعوامله، ومظاهره وآثاره، وميكانيزماته… توضَّح لنا أن التغريب تيارٌ فتاكٌ يتخذ من التخريب شعارًا له، وأنه تحَدٍّ خطير يُجابِه الأمة  الإسلامية في اللحظة الحضارية الآنية بقوة. وهنا يحق لنا أن نتساءل: كيف واجه المسلمون التغريب الثقافي والحضاري؟

       مما لا ريبَ فيه أن أبناء الأمة الإسلامية تجنَّدوا لإبْطال مفعول سُمّ التغريب؛ فقاموا بردود فعل قوية وملموسة… وهكذا «ظهرت الحركة الإسلامية مع هيمنة التغريب، وتصاعدت مع تصاعُده، وهي تعتو مع عُتـوِّه»(13). كما نشطت حركة التعريب، واتسع نطاقها لتشمُل عدة ميادين حيوية، واصطبغت بأصْباغ جديدة تماشيًا مع واقع التغريب؛ بحيث «لم يعُدِ التعريبُ في حياتنا المعاصرة مجردَ هدف ثقافي، وإنما أصبح هدفًا حضاريًا شاملًا، ينطوي على جوانب سياسية وقومية لا تقل أهمية عن جوانبه الثقافية»(14). ولم يقف الشعراء الإسلاميون مكتوفي الأيدي إزاء موجة التغريب التي اكتسحت العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وإنما وظفوا أشعارهم واتخذوها أسلحةً فعَّالةً لمجاهدة التغريب… إلخ.

*  *  *

الهوامش:

(1)        الجوهري: الصحاح، 1/191 – ابن أبي بكر الرازي: مختار الصحاح، ص470 – الزبيدي: التاج، 1/410 – مجمع اللغة العربية بالقاهرة: المعجم الوسيط، 2/647.

(2)        ابن منظور: لسان العرب، 1/638- 639.

(3)        عبد الرزاق الخـشروم: الغربة في الشعر الجاهلي، م.س، ص14.

(4)        عمر التومي الشيباني: التغريب والغزو الصِّـهْيوني، مجلة «الثقافة العربية»، ليبيا، ع.10، س.9، 1982، ص162.

(5)        OXFORD UNIVERSITY : OXFORD Advanced Learner’s Dictionary, P1355

(6)        محمد مصطفى هدارة: التغريب وأثره في الشعر العربي الحديث، مجلة «الأدب الإسلامي»، مج.1، ع.2، 1994، ص8.

(7)        سورة الحـجر، الآية 9 .

(8)        عمر محمد التومي الشيباني: التغريب والغـزو الصهيوني ، م.س، ص160 وما بعدها.

(9)        نفســـه، ص162.

(10)      محمد مصطفى هدارة: التغريب وأثره في الشعر العربي الحديث، ص8، بتصرف.

(11)      طارق البشري: سيبقى الغلـو ما بقي التغريب، مجلة «العربي»، ع.278، يناير 1982، ص61.

(12)      شلتاغ عبود: في المصطلح الثقافي والتغريب، مجلة «آفاق الثقافة والتراث»، ع.33، س.9، أبريل 2001، ص54.

(13)      طارق البشري: سيبقى الغلو ما بقي التغريب، ص61.

(14)      فؤاد زكريا: ثقافتنا المعاصرة بين التعريب والتغريب، مجلة «العربي»، ع.302، يناير 1984، ص35.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الثاني 1437 هـ = يناير – فبراير 2016م ، العدد : 4 ، السنة : 40

Related Posts